يتغير المشهد الكروي في مصر ببطء شديد لا يتناسب مع المشهد الكروي في العالم. كادر ثابت يتوسطه الأهلي في دور البطل، يظهر الزمالك خلف الأهلي رغم الإمكانات الجيدة تاركًا حيرة دائمة في نفوس المشاهدين، وعدد من أندية الشركات التي حلت محل الأندية الجماهيرية تتناوب الأدوار الأخرى.

لكن خلال السنوات الأخيرة تحديدًا أصبح التغير أكثر وضوحًا وأسرع وتيرة. نحن هنا نتحدث عن الرجل الذي قذف بالحجر في الماء الراكد، الرجل الذي لا يملك في جعبته أية ألقاب، لكنه دون شك واحد من أهم عناصر المشهد الكروي الحالي.

بطل المشهد هنا هو المدير الفني إيهاب جلال، المدرب الذي يؤمن بتجربة الصواب والخطأ والاجتهاد والخبرات المتراكمة.

حمل جلال شيئًا من الدراما للمشهد الكروي الفاتر من خلال وضع الفريق الفيومي مصر المقاصة في وضع المنافسة على الدوري، ثم مؤخرًا من خلال انتشال فريق عملاق مثل الإسماعيلي من مراكز الهبوط ليصبح الفريق الأفضل في الدوري خلال الدور الثاني.

حسنًا لكي يستطيع مدير فني مصري أن يحدث مثل هذا التأثير بخطوات تصاعدية ثابتة، فتلك قصة تستحق أن تقص.

الفصل الأول: كن التغيير الذي تريده أن يحدث

اعتزل إيهاب جلال كرة القدم بعد مسيرة، كان النادي الإسماعيلي أهم محطاتها، حين ارتدى قميصه لتسعة مواسم، بالإضافة لبضعة مواسم مع النادي المصري. بدأ جلال العمل مديرًا للكرة في الناديين، لكنه كان دومًا يملك وجهة نظر فنية.

شعر أنه لن يستطيع الصمت أكثر من ذلك، فقرر الاتجاه للتدريب بشكل رسمي. بعد عدة دراسات استطاع إيهاب أن يحصل على فرصة أولى من خلال نادي كهرباء الإسماعيلية، بمساعدة وكيل اللاعبين المعروف، تامر النحاس.

خلال سبع سنوات في أندية الدرجة الثانية كان إيهاب جلال يتعلم ويجرب ويصيب ويخطئ، لكنه كان يعلم جيدًا أنه على الطريق الصحيح. أدرك المدير الفني الشاب أنه قادر بالفعل على خلق هوية خاصة به، رغم أن هذا قد لا يظهر بصورة واضحة للعيان من خلال فرق دوري المظاليم.

على الجانب الآخر كان تامر النحاس يخوض مغامرة في الدوري الممتاز من خلال فريق تليفونات بني سويف، تتلخص التجربة في تجميع عدد من اللاعبين الذين لا يشكلون أي أعباء مالية على النادي. عدد من الإعارات وعدد من الأسماء المجهولة والبقية من الناشئين، لكن لم تنجح التجربة وقبع الفريق في مؤخرة جدول الدوري.

قدم النحاس الحل الأخير لإدارة فريق التليفونات لإنقاذ الموقف، وكان الحل ببساطة هو إيهاب جلال. أدرك الجميع منذ اللحظة الأولى وعن طريق شكل فريق التليفونات المغاير أن هذا الرجل لا يمتهن التدريب اعتباطًا، ولكنه يدرك جيدًا ماذا يفعل.

هذا التحول التام الذي أحدثه جلال في بني سويف سلط عليه بقعة بسيطة من الضوء ليتحدث الرجل عن قناعاته كمدرب. كان هذا الحديث جديدًا بعض الشيء على المتلقي المصري، حيث أوضح أن المدير الفني يجب أن يكون له فلسفة ما، وهي لا يمكن أبدًا أن تكون فلسفة دفاعية فقط أو هجومية فقط.

أضاف أن أحد أهم مهام المدرب هي تطوير اللاعب صاحب الإمكانات الجيدة، كما أن التدريب كمهنة اختلف ولم يعد المدرب قادرًا على الاكتفاء بالجانب الفني دون الإلمام بالجانب البدني أو كيفية اختيار الصفقات الجديدة أو تطوير اللاعبين الحاليين.

لم يكن هذا الكلام مناسبًا لمدرب مجهول يترأس فريقًا يصارع الهبوط، لكن الحقيقة أن إيهاب جلال كانت لديه فلسفة خاصة بالفعل، وكان قادرًا على تطوير المواهب وانتقاء اللاعبين، ورغم أنه لم يثبت ذلك خلال فترة التليفونات الذي هبط في النهاية لدوري الدرجة الأولى، لكنه فعل في محطته التالية مع المقاصة.

الفصل الثاني: الحجر الذي هز الماء الراكد

كان العامل الحاسم الذي جعل المقاصة يعلن جلال مديرًا فنيًّا له هو قدرته على التعامل مع اللاعبين وتطويرهم وخلق هوية واضحة للفريق في شكله الجماعي، ولأن المقاصة فريق يهدف للاستثمار في المقام الأول، كان اختيار جلال مثاليًّا لأبعد الحدود.

هنا وهنا تحديدًا بدأ جلال صناعة التاريخ، همَّ الرجل بعزم ما فيه ليلقي حجرًا في مياه التدريب الراكدة في مصر منذ عقود. قدم جلال كرة خاصة به وناجحة وممتعة، وصنع أسماء ونافس على البطولات وبيع لاعبوه بالملايين، فصنع غيرهم.

هنا يبرز سؤال منطقي: ما هي أهم سمات الكرة التي يقدمها إيهاب جلال؟ وكيف استطاع أن يحافظ على هوية تلك الكرة خلال عدد كبير من الأندية فيما بعد؟

يفضل جلال بناء الهجمة من الخلف ومحاولة الاستحواذ على الكرة. يميل الرجل لفرض إيقاع فريقه على مجريات اللعب، وهو ما يجعله يمنح لاعبيه دروسًا خاصة ومهامَّ مختلفة؛ لأنه يؤمن بخلق نمط جماعي للاعبيه يمكِّنه من صنع فرص كثيرة ضد المنافس.

كل الفرق التي دربها إيهاب جلال تنوعت طرق لعبها بين 4-4-2 و4-3-3 و3-4-3، وهذا يعني أن الرجل يتمتع بمرونة تكتيكية واضحة.

تتعرض الفرق التي يدربها جلال لتلقي عدد ليس بالقليل من الأهداف، فهو يؤمن أن أي فريق كبير يجب أن يتعرض مرماه لفرص محتملة، وهي نقطة ربما يخافها المدربون في مصر؛ لأنه ربما يخسر رغم أفضليته، ومع الوقت سيجد نفسه بلا عمل، لكن جلال لا يهتم بكل ذلك.

تلك هي ملامح كرة جلال لكنها ليست فلسفته، فلسفته الأساسية هي أن كرة القدم التي تُلعَب في أوروبا يمكن أن تُقدَّم في مصر دون تخوف، وكان السؤال الأساسي كيف يحدث ذلك؟

ليس جلال الوحيد الذي يشاهد كرة أوروبا ويحاول محاكاتها، لكنه الوحيد الذي يصر على التجربة ويمتلك أدوات التقييم وتصحيح الأخطاء. يجتهد كثيرًا في التعامل مع لاعبيه طبقًا لإمكاناتهم، وإعطائهم دروسًا جديدة والإشراف على تفهمهم لتلك الدروس، وذلك لا يتم دون مؤشرات واضحة.

الفصل الثالث: تفهم الأخطاء ومعالجتها

لكي يقيِّم جلال أفكاره ومدى قدرته على التنفيذ وتصحيح الأخطاء قرر اللجوء للأرقام. فتعاقد مع شركة مصرية تقوم بتقديم الأرقام والتحليلات الفنية للدوري المصري. عن طريق مصدر خاص داخل تلك الشركة يتضح لنا امتلاك جلال مساحة واسعة من التصرف داخل تلك الشركة.

جرت العادة أن الشركة تقوم بتقديم تحليل أداء المنافسين لكل مدرب، لكن جلال يختلف في هذا الأمر؛ إذ يقوم باستخدام المادة التي تجمعها الأشرطة تبعًا لرؤيته الخاصة، ولا ينتظر أن تحدد له الشركة أن منافسه القادم يبرع في الهجمة المرتدة على سبيل المثال، لا، هو من يقوم بمشاهدة تلك المواد وتحديد شكل المنافس.

يتحصل على أرقام وفيديوهات خاصة طبقًا لمتطلباته من الشركة، حيث يعدل في توصيف دلائل الأرقام، بالإضافة لتعاونه مع الشركة لتحديد طريقة ما لإعادة تقييم التمرير من مجرد تمرير صحيح لتمرير مؤثر صحيح.

يتحصل على فيديو خاص لكل لاعب في فريقه عقب كل مباراة، كما يحصل على فيديوهات لحارس المرمى الخاص به، ويقوم بتحليلها مدرب حراس المرمى مصطفى كمال.

يقول جلال إن تلك الأرقام تفيده كثيرًا؛ لأنها ببساطة تقدم له دلائل تحدد موقعه من الطريق الصحيح، ناهيك عن مناقشتها مع لاعبيه، وتأكيده لهم أنه صاحب التقييم الحقيقي لهم وليس الأرقام؛ لأنه يعطيهم مهام محددة لا تفهمها الأرقام، ولكنه يفهمها ويقدرها جيدًا، وتلك قدرة أخرى يجب التطرق لها.

الفصل الرابع: قدرات خاصة

استطاع إيهاب أن يقدم عددًا من الأسماء للكرة المصرية تجعله مميزًا فيما نسميه العين الخبيرة وتطوير اللاعبين. فلسفة جلال في هذا الأمر بسيطة، وهي أنه يعامل اللاعبين بالشكل الذي كان يتمناه عندما كان لاعبًا، وفي المقابل ينجح في إزالة الضغوط من فوق كاهلهم بشكل دائم؛ لأنه دومًا المسئول عن الخطة والتنفيذ والنتائج والأخطاء.

يقول جلال إنه يعلم جيدًا أن اللاعب يختبره في البداية، هل سيلاحظ تنفيذه للمهام التي أوكلها له أم لا؟ هل سيكتفي بالفوز رغم عدم تنفيذ المهام؟ هل تؤتي تلك المهام نتائج جيدة في الملعب؟ يبقى جلال جاهزًا لكل تلك الاختبارات، فهو لا يتهاون في تنفيذ المهام بغض النظر عن النتيجة، كما أن شكل الفريق في الملعب يقنع الجميع بمدى جودة الأوامر التي يوكلها لهم.

ينجح دومًا جلال في اختبارات لاعبيه، فيكتسب ثقتهم سريعًا ويستطيع إخراج أفضل ما يمتلكونه، ويؤثر ذلك بشكل مباشر في تطويرهم للأفضل دون شك.

تستطيع أن تلمح وراء طريقة جلال شديدة الهدوء أنه رجل حاسم جدًّا فيما يتعلق بالمعاملات في كرة القدم. فهو يمتلك ردًّا وحيدًا على أسئلة تطرح عليه منذ يومه الأول، مثل هل يمكن للاعب ما أن يتعمد تجاهل تعليماته أو لرئيس أن يتدخل فنيًّا في اختياراته؟ وتكون الإجابة دومًا: لا أحد يستطيع، ثم يؤكد أنه لن يصطدم بأحد لكنه ببساطة سيرحل عن هذا المكان فورًا.

الفضل الخامس: المصير

حقق جلال رفقة المقاصة نتائج أعادت تشكيل خريطة الكرة في مصر دون شك، ثم انتقل لتدريب نادي إنبي، واستمر النجاح بنفس الهوية والقدرة على تقديم اللاعبين الجيدين وصولًا لمرحلة تدريب نادي الزمالك.

الحقيقة أننا يمكننا تقسيم فترة جلال مع التدريب لمرحلة ما قبل الزمالك وما بعد الزمالك. احتاج جلال لوقت ليس بالقليل ليدشن لنفسه فلسفة خاصة رفقة فريق المقاصة، ولأن الأمور أصبحت واضحة لم يحتج لهذا الوقت رفقة فريق إنبي، وكان التطور المنطقي لهذا النجاح هو أن يدرب فريق بطولات.

أخطأ جلال كثيرًا عندما قرر أن يقبل عرض الزمالك في منتصف الموسم، ربما شعر أن هذا العرض لن يتجدد، خاصة أنه كان العرض الرابع من نفس الفريق، ربما شعر الرجل أنه أصبح قادرًا على إحداث التغيير دون حاجة لوقت كبير.

لم يسعفه الوقت أن يعيد صياغة اللاعبين مثلما اعتاد أن يفعل، ووجد نفسه خارج الفريق، وحُسب عليه أنه لم ينجح رفقة الفريق الجماهيري الكبير.

ربما استعاد جلال شيئًا من رونقه بعد اقترابه الشديد من تدريب منتخب مصر، لكن القدر كان رحيمًا به لأن كرة جلال تلك تحتاج لملاصقة اللاعبين ولا تتفق مع تجمعات المنتخبات القليلة، ربما تجربة ساكي مع إيطاليا تفي بشرح تلك المسألة.

أصبح مصير جلال ليس بالمثير، خاصة بعد أن عاد لتدريب المقاصة، وكأنها عودة لنقطة الصفر، لكن المصير الحقيقي لإعادة إحياء مسيرة الرجل حدث من زاوية مختلفة تمامًا؛ عندما اقترب الإسماعيلي من مراكز الهبوط بشكل فعلي، بل أصبحت فكرة هبوط الإسماعيلي واردة في عقول البعض، كانت تلك فرصة عظيمة لإعادة إحياء مسيرة جلال على نحو مثالي.

تليق فلسفة الاستحواذ والبناء من الخلف بالإسماعيلي كهوية، وبما أنه كان لاعبًا وإداريًّا سابقًا للدراويش، فقد فهم المدينة وجماهيرها. كان دومًا الربط بين الإسماعيلي وجلال ينتهي بأن المناخ في الإسماعيلية لن يحتمله مدربًا، لكن ها هو المناخ أصبح مثاليًّا، وعليه استغلال الفرصة.

تولى جلال تدريب الإسماعيلي في منتصف الموسم ليتحول الفريق من الهبوط إلى الفريق الأكثر إحرازًا للنقاط في الدور الثاني، ويبقى لنا الفصل الأخير هل تتفهم إدارة الإسماعيلي أنها قادرة على صناعة المجد رفقة هذا الرجل بمنحه المزيد من الصلاحيات وبناء مشروع طويل الأمد؟ أم أن المناخ سيعود غير مناسب بمجرد أن يستفيق الإسماعيلي من كبوته ويعرض عليه الأهلي والزمالك الملايين من أجل لاعب سيصنعه حتمًا إيهاب جلال؟