بدأ الحديث في الآونة الأخيرة حول مستقبل الحركية الحقوقية في مصر، في ظل الخصومة القائمة بين السلطات الحاكمة وبين تلك المنظمات الحقوقية، المعروفة إعلاميًا بقضية التمويل الأجنبي، وهي التي سبق وأن تحالفت مع تلك السلطات في الثلاثين من يونيو، وأيدت كل قراراتها في الثالث من يوليو وما تلاه؛ مما يدفعنا للتساؤل حول ماهية هذه الحركة الحقوقية وتصوراتها عن مفاهيم «الحق» و«الإنسان»، التي تزعم الدفاع عنهما طوال الوقت، بالإضافة لطبيعة وجذور علاقتها بدولة الثالث من يوليو.

في العشرين عامًا الماضية، ارتقت طبقة جديدة لرئاسة تلك المنظمات الممولة غربيًا، التي تتبنى الأجندة الغربية حول الحقوق الشخصية والمدنية.

تاريخيًا، عادة ما كان أوروبيون أو أمريكيون هم من يقومون بمحاولة «إنقاذ» عرب ومسلمين مضطهدين؛ غير أنه في العشرين عامًا الماضية، منذ أن بزغ نجم هذه المنظمات عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وخاصة في ظل مؤتمرات نيروبي والقاهرة وبيكين، ارتقت طبقة جديدة من المحليين لرئاسة تلك المنظمات الممولة غربيًا، التي تتبنى الأجندة الغربية حول الحقوق الشخصية والمدنية، وتسعى إلى عولمة تلك الأجندة التي تعتبر كل ما عداها محليًا ينبغي أن يتم تعديله وفق أجندة حقوق الإنسان الغربية.

وبالتالي أصبحت الحجة المطروحة هي أنه ما دام محليون هم من يترأسون تلك المنظمات، فبالتالي يمكن أن ننأى بهم عن أي اتهامات بالعنصرية والثقافوية والاستشراقية. ولكن كما تجادل المفكرة البنجالية «غايتري سبيفاك» في هذه المسألة، فكون القائمين على هذه المنظمات محليين، لا ينفي تلك الاتهامات السابقة؛ لأن تعليمهم وثقافتهم المدينية الطبقية ما زالت تبعد عن ثقافة الغالبية العظمى من الشعب، لاسيما الريفيون منهم، نفس مسافة البعد التي كان يبعدها الأوروبيون والأمريكيون الذين ترأسوا مثل تلك المنظمات سابقًا.

وتعتبر سبيفاك أن هذه محاولة عنصرية أخرى من القائمين على السلطة لتمرير أيديولوجيتهم حول حقوق الإنسان لينأوا بأنفسهم عن تهمة العنصرية. غير أن العنصرية لا تزال قائمة بطابع طبقي محلي، بينما في السابق كانت ذات طابع عرقي أوروبي. وينبغي هنا أن نفرّق بين المجتمعات الأهلية التي يقوم على دعمها وتمويلها الأهالي المحليون، وبالتالي فهي تعبّر عنهم وعن أفكارهم وطموحاتهم، وبين منظمات المجتمع المدني الممولة غربيًا، وألا نسوِّي بينهما، مثلما فعل القائمون على صفحة «الموقف المصري»؛ لإيهام القراء بأن الفكرة واحدة وقديمة.

ولا يمكننا أن نفصل بين دور التمويل الغربي لهذه المنظمات وأثره على خطاباتها ومواقفها السياسية. فنستطيع أن نرصد بكل سهولة التماهي بين خطاب تلك المنظمات ومواقفهم السياسية في الثالث من يوليو/تموز، وفي المحاولة الفاشلة للانقلاب في تركيا، وبين خطاب الاتحاد الأوروبي والمنظمات الحقوقية الغربية ومواقفهم من الانقلابين أيضًا.

ففي الحالة المصرية، تم غض الطرف عن عودة العسكر للحياة السياسية والانقلاب على العملية الديمقراطية، التي لطالما زايد المنتمون لهذه الجمعيات على خصومهم من الإسلاميين بخصوص موقف الأخيرين منها. كما لم يروا أبدًا في عملية غلق قنوات الإسلاميين الفضائية، والقبض على كافة قادة جماعة الإخوان المسلمين في الليالي الأولى للانقلاب، أي انتهاك لحرية الصحافة والحريات العامة، وكذلك لم يعتبروا ما حدث في مصر انقلابًا على إرادة الشعب الذي اختار الإسلاميين في الاستحقاقات الانتخابية الخمسة عقب ثورة يناير.

بل على العكس تمامًا، لهجوا في بياناتهم بتأييد ودعم هذه الخطوة الانقلابية. ففي السادس عشر من يوليو/تموز، أي بعد ثمانية أيام فقط من مذبحة الحرس الجمهوري التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 51 شخصًا، وأسفرت عن إصابة أكثر من 400 شخص حسب البيانات الرسمية لوزارة الصحة، أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (eipr)، مع ما يُسمى بتحالف المنظمات النسوية المصرية، بيانًا وصفوا فيه الانقلاب العسكري بأنه «موجة جديدة من موجات ثورة 25 يناير/كانون الثاني الشعبية المصرية»، بل وصفوا الإخوان المسلمين بأنهم هم من انقلبوا على الديمقراطية، وهي نفس النغمة التي ستتكرر في حالة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وطالبوا الرئيس المؤقت عدلي منصور آنذاك بضرورة محاكمة نظام مرسي على تلك الجرائم، بالإضافة لتصوراتهم للمستقبل القريب ونصائحهم للسلطة الجديدة.[1]

دخلت هذه المنظمات في تحالف مع دولة الثالث من يوليو لتتخلص من خصومها؛ مما يوضح النزعة السلطوية لدى هذه المنظمات التي لا تسعى لتنفيذ أجندتها من خلال الشعب

دخلت هذه المنظمات في تحالف مع دولة الثالث من يوليو/تموز لتتخلص من خصومها؛ مما يوضح النزعة السلطوية لدى هذه المنظمات التي لا تسعى لتنفيذ أجندتها من خلال الشعب؛ أي أن تعرض تصوراتها عن «حقوق الإنسان» للشعب وإما أن يقبل بها أو يرفضها، وإنما تسعى لفرض أجندتها من خلال الدولة وتسلطها على رعاياها بصورة جبرية.

ويعتبر هذا الأمر مسألة أخرى تفرق بين الجمعيات الأهلية وبين تلك المنظمات، فالجمعيات الأهلية تمارس عملها من خلال المجتمع وبسلطة المجتمع لا بسلطة الدولة. سيتكرر نفس السيناريو في التاسع والعشرين من يوليو/تموز عقب مذبحة المنصة، التي راح ضحيتها أكثر من 80 شخصًا وفق التقارير الرسمية، واكتفت هذه المنظمات ببيان غاية في السوء، ثم أعقبته ببيان آخر ترسل فيه للسلطات الانقلابية تصوراتها حول الدستور الجديد والمبادئ العامة التي يجب أن يتضمنها هذا الدستور الذي سيقوم على دماء المصريين.

ففي بيانها حول مذبحة المنصة، أدانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بالإضافة لتسع منظمات حقوقية أخرى، جماعة الإخوان المسلمين بصورة أكبر من وزارة الداخلية، على الرغم من عدم إصابة أي عنصر من عناصر الأمن في هذه الحادثة، وطالبتهم بالتوقف عن ممارسة العنف وتسليم المسئولين عن ذلك العنف. كما حمّلت الرئيس المحتجز، آنذاك، من قبل الجيش، مسئولية عنف وزارة الداخلية في هذه الحادثة؛ لأنه هو من عيّن وزيرها قبل عدة أشهر.[2]

ويمكن للمرء أن يتصور موقف تلك المنظمات الحقوقية من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا دون سردها، فهي صورة كربونية مما حدث في مصر؛ مما يؤكد النزعة السلطوية غير الديمقراطية لتلك المنظمات. ففي الساعات الأولى، انتشرت حالة من الفرح والشماتة في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين القائمين على تلك المنظمات، غير أن تغير الأوضاع في تركيا لصالح السلطة الشرعية دفعهم لاستعادة نغمة «الاستبداد الديمقراطي» لوصف النظام التركي، وهي نفس النغمة التي ظلت ترددها جل وسائل الإعلام الغربية الرسمية وغير الرسمية، غاضّين الطرف تمامًا عن تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة والعنف الدموي المفرط الذي استخدمه القائمون على هذه المحاولة تجاه شعبهم.

بالإضافة للنزعة السلطوية لدى تلك المنظمات، فهناك سمة رئيسية أخرى، هي العنصرية، وهي التي رصدتها غايتري سبيفاك. هذه العنصرية ليست ضد عرق أو لون أو دين محدد، بل ضد ثقافة أغلب الشعب، وبالتالي لن ينجو من نير تلك العنصرية كل من انتمى لتلك الثقافة المحلية.

فعلى سبيل المثال، حين أطلقت تلك المنظمات حملة «صوت الزنازين» من أجل المعتقلين، لم تشفع أعداد عشرات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات الإسلاميين ليدخلوا ضمن هذه الحملة. فقد اقتصرت الحملة على تسعة وعشرين اسمًا، ضمت من بينهم من حرض وأيّد وبارك فض رابعة ،أكبر مذبحة في تاريخ مصر الحديث، على الرغم من وجود آلاف المعتقلين بلا أي اتهامات رسمية، ولم يعرضوا على النيابة.

كما لم تلق السجينات الإسلاميات من المنظمات النسوية، التي تدّعي الدفاع عن حقوق المرأة، ربع الاهتمام الذي تلقاه قضايا مثل الإجهاض والختان وتولي المرأة للمناصب القضائية. فالعنصرية تجاه الإسلاميين باعتبارهم الفصيل المعارض الأول لتلك الأجندة الحقوقية التي تتبناها تلك المنظمات هي صفة أصيلة مثل صفة السلطوية.[3]

هذه السطور ليست دفاعًا عن سلطة مستبدة دخلت في خصامٍ مع حلفاء الأمس؛ ولكنها تأكيد على أن الحركة الحقوقية الحالية لا يمكن اعتبارها حركة حقوقية وطنية تمثل غالبية الشعب، ولا يمكن اعتبارها حركة ديمقراطية، بل هي حركة عنصرية سلطوية يكمن دورها في الدفاع عن أجندة معينة وليس في الدفاع عن حقوق غالبية الشعب.


[1] -http://eipr.org/pressrelease/2013/07/16/1766 [2] http://eipr.org/pressrelease/2013/07/29/1769 [3]http://alznazeen.net/ لمعرفة الدور السيئ لبعض المؤسسات المموِلة للمنظمات الحقوقية مثل منظمة فورد راجع كتاب Naomi klein, The Shock Doctrine ص73-75، 152-153.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.