لم يبق في قلبي ذوقُ وصالٍ أو ذِكرُ معشوقٍ، قد مسّت النارُ هذا البيتَ واحترق كلُّ ما فيه. غالب الدهلوي

أريد أن أكون صوفيًّا كعم بدر يتقبل قضاء الله وقدره راضيًا، لا يشتكي إلى أحدٍ سواه، ويشكر الله على الدوام، رغم أنه لم ينتسب يومًا إلى طريق صوفيّ، لكنه يسبّح الله ويرى أن ما فيه من نعمٍ كثير جدًّا، ولا يتجاسر أن يطلب من الله المزيد فقد منحه الله كلّ شيء. عمّ بدر رجلٌ بسيطٌ للغاية لا يتأخر عن الصلاة ولا يرى فيها مشقة، كما لا يرى أنه أحسن وأدى حقّ الله عليه ببعض الركعات، أصيب ابنه ذات يومٍ بالسرطان فظل يدعو الله كما يفعل، كان ابنه محمود آية في الجمال والذكاء لا زلتُ أذكر ابتسامته وحديثه وهو طفلٌ يُحمل فوق الكتف وهو صغير يسعى مع والده، وهو صبيٌّ في المستشفى قبل أن ينتقل إلى رحاب ربّه. ظلّ عم بدر راضيًا، فقط رأيته يبكي مرتين.

أريد أن أكون صوفيًّا كالشيخ عماد حمل المسبحة في يده أوقاتًا، وحمل في قلبه همًّا كبيرًا. لم تظهر عليه علامات المشيخة الظاهرة اليوم، ولم يخرج من فمه إلا الكلام الجميل، قَبِل الشيخ -الذي غادر دنيانا سريعًا وقد أحسن الله إليه– أن يكون ابنًا روحيًّا لمن يخالفه الرأي في الشأن العام، ولم يتطاول بشتم أو نقد جارح، ومضى صامتًا في الطريق الذي آمن أنه الصواب، لم يصبه الخوف كما أصابنا، ولم يقنط من رحمة الله، كانت حياته مثالاً على البساطة والرضا لن ترى شبيهًا له بين أقرانه، ومن أسف أن ذكره غاب عاملاً وشاع لفظًا، ولم تتجسد دروسه وعظاته في حياة غيره.

أريد أن أكون صوفيًّا مريدًا لشيخ لا يرى الحق عنده وحده فحسب، ويراه موزّعًا في كل من حوله، عَلِمَه أو جهله، لا يغتال عقلي بكلمات لا تبلغني الحياة ولا تنضج إنساني، يعطيني من حكمته ومن تجربته ما يساعدني على أن أرى وأسير بقدمي، يسمعني دون محاكمة أو تسفيه، وإن خالف ما أقول نهجه، يدعمني فيما أفعل بروح طيبة وتشجيع، وإن أصابتني حسرة أو ألم يخفف عني ما بي، ولا يتركني ونفسي أكابد وأعاني وحيدًا ولي في الطريق صاحب ودليل!.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا أفتش في نوايا الخلق، وأبدّل حسناتهم سيئات، وأنزع عنهم كل منقبة تحلّوا بها من أجل إرضاء غروري وما تلقيته من تعاليم قد أكون مخطئًا في فهمها ومفرّطًا في ما هو أحقّ منها، ومبددًا لتراث قومٍ أنتسب إليهم كانوا أكثر سعة في قبول الاختلاف، أردد كلماتهم دون وعي وأقول (مدد، الله، تقدّس سرّهم) لكن شيئًا مما لخّصوه حكمًا وصاغوه عبر تجاربهم الكبرى لم يخالط دمي أو لحمي ولم ينعكس في سلوكي وأفعالي مع الآخرين.

أريدُ أن أكون صوفيًّا يحرص على أن يفتح للخلق أبوابًا ويرفعهم إلى السماوات العلا، في الشارع كانوا أو في الحانة، في المسجد كانوا أو في المقهى، في مجالس الذكر أو قاعات الرقص، إن كنت نظيرًا لهم في الخلق أو أخًا حقيقيًا يشاركهم الإنسانية ويقاسمهم الهموم، أكون حريصًا على الكل كحرصي على نجاتي من الشواغل والزائفات.

أريدُ أن أكون صوفيًّا يحرص على أن يفتح للخلق أبوابًا ويرفعهم إلى السماوات العلا، في الشارع كانوا أو في الحانة، في المسجد كانوا أو في المقهى، في مجالس الذكر أو قاعات الرقص.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا أبادر بتسفيه أحلام الناس لمجرد الاختلاف، أحترم ما لديهم ولا أتهكّم عليهم. إن رأيتهم أهل صورة ونقش، فأنا كافر بالصورة باحث عن المعنى، لماذا أنشغل بصورهم وما شُغلوا فيه؟، ألم يقل القوم الصوفية إن المشغول لا يُشغل؟، ألم يمدح الناس الصوفي بأنه لا ينشغل إلا بربه وعلاقته به وكيف يطورها عبر محاولات اتصاله الدائم؟.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا أرث ولا أورّث طريقة لغيري، إن كانت عندي بذرة صالحة للغرس غرستها ومضيت، إن طعم منها غيري شيئًا مما طعمت فقد أحسنت، وإن لم يطعم غيري فكفاني أنني قدّمت إليّ ما حققني وجعلني راضيًا عن نفسي مستريحًا مطمئنًا أني لست سببًا في جلب متاعب للآخرين بسوء تقديري وفعلي.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا يضع المريدون تحت قدمي وسادة وخلف ظهري وسادة وإن نطقت هللوا وإن عطستُ باركوا وإن أخطأتُ برروا وإن اقترفت إثمًا بيّنًا في حق الآخرين تابعوني محبّة وتقديرًا لي!.

أريدُ أن أكون صوفيًّا ليس في قلبه كبرٌ أو عُجب أو صنمية. أريد أن أرى نفسي في عيني صغيرًا وفي أعين الآخرين كبيرا كما قال المصطفى يومًا في دعائه، فبعضنا بمجرد تلاوة بعض الأذكار التي تُعد على اليد أو المسبحة يتحول إلى وليّ من الصالحين في لحظة، ويكتب كل يوم مئة حكمة وحكمة، ويفسّر ما غمض على الناس منذ مئات السنين، يفعل هذا ويصرّ على أنه مؤمن بأنه لا يزال طالبًا لمنازل السابقين السائرين!.

أريدُ أن أكون صوفيًّا يشهد الجمال في كلّ شيء، يستوي عنده المدح والذّم من الخلائق، لا يقيم وزنًا لأفعال الصغار، ولا تهزمه أفعال الكبار، يستعين بالله وحده، ويرى في الكون عجائبه الكبرى، ويُشهد من غابت عنه مظاهر القدرة والإبداع ما انشغل عنه ولم يره.

أريدُ أن أكون صوفيًّا يشهد الجمال في كلّ شيء، يستوي عنده المدح والذّم من الخلائق، لا يقيم وزنًا لأفعال الصغار، ولا تهزمه أفعال الكبار.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا يكتفي بترديد مواقف السابقين، وينتقل من الإشادة بموقف للعزّ بن عبد السلام وعبد القادر الأمير إلى فعل يفعله بنفسه بدل مخاطبة ودّ الحكّام -إن لم يكن حريصًا على بذل نفسه من أجل إرضائهم- فيضرب لنا مثلاً بنفسه أن السلطان يسعى لحضور مجلسه، ويحرص أهل السلطة على إرضائه وإن خالف سياستهم، وإن هتكوا الأعراض وقتلوا الأنفس واجههم بجرائمهم ولا يبرر لقوي يقتات على أكل أكباد الضعفاء.

أريدُ أن أكون صوفيًّا واعيًا لا حافظًا لمقولات، أكتب المتن الجديد ولا أبالي بعبّاد النصوص، أقدّر لمن سبق عطاءه، وأبذل لمن احتاج الجديد، أصل الطرائق دون حدود وهيكلة وقوالب، فإن خالف أحدهم ما أرتضيه قالبًا لي وأنا أدرك أن قصده الحق أساعد لا أهاجم، وأقدّم العون ما استطعت، والنية الصالحة إن كنت صوفيًّا مع العمل تُلين الحديد وتنتج ما يُدهش.

أريدُ أن أكون صوفيًّا مدركًا أن اللغة لا تقتصر على الحرف الملفوظ والمكتوب، فالصمتُ لغة، والحركة لغة، والموسيقى لغة، والرقص لغة، والبكاء لغة، والأنين لغة، والرسم لغة، وقد قدّر الكتاب اللغة وأدوات التواصل بين البشر روحًا ومادة. إن كنت من أهل (الكتاب) وذوي (الألباب) سأعي أن ما لديّ من أدوات واتصال بخالق اللغات يمكّنني من تقدير هذه اللغات والبحث عن غيرها لأصل ما قُطع عن أصله، وأبلغ كل مريد غايته!.

أريدُ أن أكون صوفيًّا وأنا في عملي، ليس شرطًا كي أكون صوفيًّا أن أتحول من أي فن أو اختصاص يفترض بي أن أتقنه وأبرع فيه لأصبح بارعًا في الحديث عن التصوف والروحانيات ويُعجب الناس بقولي.

أريدُ أن أكون صوفيًّا لا يبحث عن الكلمات التي تسعفه كي يسجل حضورًا في عالم القول وينسى أن قيمة المرء حديث قلبه.

أريدُ أن أكون صوفيًّا أجتهدُ في العبادة حتى أستروح بها، وإذا تعبت من خلق الله ولقائهم آنسني الله بذكره، وإذا أعياني الخلق سلا الله على قلبي كما كان يفعل مع حبيبه المصطفى.

أريدُ أن أكون صوفيًّا يسقيني الله من حبّه شربة تغنيني عن اشتهاء شراب غيره.