الشرق الغرائبي والعجائبي… الشرق المستبد والمتخلف… العاطفي والشاعري… منبع الأديان والطقوس والتقاليد الضاربة في جذورها في التاريخ. تلك مجموعة من الأوصاف والنعوت الخاصة بالشرق في عمومه من قبل الاستشراق، ما يحمله من خصائص جغرافية وسكانية، لا سبيل في دراسته وتحليله إلا بإنشاء المعاهد والمراكز العلمية لاحتوائه وفهم طبيعته، والأبنية المتحكمة في طرائق عيشه وتفكيره.

وسائل الاستشراق موزعة في أعمال تتسم بالدقة والتخطيط والشمولية، من تأليف الكتب ودور النشر والمجلات، الترجمة وكراسي التدريس المتخصصة في الجامعات، والإرساليات.

ليست دراسة الشرق بعيدًا عن المكان والركون لأخبار الرحلات، ومصادر العابرين بين الأمكنة، والناقمين على الشرق من خلال الحروب الصليبية والصراعات البينية على الحدود، والمناوشات في مراحل معينة من التاريخ، لا نرصد الزمان الذي بدأت فيه الدراسات الاستشراقية، ولا نريد إقامة التضاد بين الاستشراق والاستغراب، والقول بصريح العبارة إن الاستشراق استهداف مباشر للإسلام، وتكريس صورة معينة عن الشرق في عمومه، لأن هذا الأمر يستدعي دراسات وافية ومعمقة لأهداف الاستشراق وغاياته الصريحة والكامنة، عمل وتصنيف لما يُسميه المفكر الفلسطيني «إدوار سعيد» بالاستشراق السافر والاستشراق الكامن، في مضمون الخطاب الاستشراقي بناء نظرة عامة عن الشرق بكامله، من عجائب الهند والصين والشرق العربي وبلاد فارس.

الاستشراق باعتباره نظامًا من الصور والتمثلات، وكتلة من المعارف المنسجمة والمبالغ فيها عن الشرق، حتى يتشكل الوعي الغربي عن ذاته والآخر، الشرق صورة مضادة للغرب الحديث في ثوراته العلمية والتقنية، والغرب نتاج مغاير للشرق الغريب، الذي لا يريد استيعاب الأنوار والقيم العقلانية كما يدعي الاستشراق، والأخبار المنقولة من الرحلات والحملات على الشرق.

ثنائية الشرق والغرب

كان المستشرق الحديث يرى نفسه بطلاً ينقذ الشرق من العتمة والاغتراب والغرابة، ويرى أنه هو الذي نجح في إدراك ذلك [1]، الشرق باعتباره الصورة المضادة للغرب، والشرق في الأصل جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية على مستوى القيم الدينية، المسيحية ومنبعها، وعلى مستوى الاحتكاك بين اليونان والحضارات الشرقية، وبين الغرب والأندلس.

ورغبة الاستشراق في عودة الحضارات الشرقية إلى منبعها الأصلي، يعني تحميل المسئولية للإسلام، تلك الصورة نلمسها عند «إرنست رينان» في دراسته للغات والتمييز بين العقلية الآرية والعقلية السامية، الأولى نتاج للعلم والنظريات العلمية والفلسفة، والأخرى نتاج لما هو عاطفي ووجداني بعيدة عن النظر العقلي والتفلسف، كذلك عند «لويس برنار» إمام المستشرقين كما يصفه إدوارد سعيد، محرض على العنف، وتفتيت الشرق الأوسط خدمةً لإسرائيل والغرب، وبث جرعة أكبر من المخاوف عن الشرق، مخاوف تلاشت بفعل التحديث، ونقل النماذج الغربية في السياسة والاقتصاد والثقافة للشرق.

يكفي التأمل في استشراق القرنين الثامن والتاسع عشر حتى نكتشف كوكبة من المستشرقين، وتنوع هائل في القضايا الخاصة بالشرق بدءًا من نمط العيش والسلوك إلى مختلف الأبنية. نقل الشرق كحضارة عريقة وثقافة ثابتة في الوعي الجمعي، واختزاله في نصوص وكتابات ممزوجة بين النظرة العلمية والبعد الأيديولوجي، الاستشراق أسلوب «للخطاب» أي التفكير والكلام، تعدمه مؤسسات ومفردات، وبحوث علمية، وصور، ومذاهب فكرية، بل بيروقراطيات استعمارية [2]، هذا الأمر ينكره البعض من الدارسين بدعوى الرغبة العلمية في فهم الآخر.

الاستشراق مجال من مجالات البحث العلمي الدقيق في التراث الفكري للشرق، نزعة التعميم والانتقاص سائدة، نظرة الرضا والتقدير ممكنة، أن الشرق يملك طاقات مادية وبشرية في تحقيق العقلانية والنضج المعرفي، الشرق يحتاج من الغرب دعمًا ومساندةً، لإعادة بنائه حتى يتخلص من عوائق التقدم ويعود لأصله، الشرق وروعته، نزوعه نحو القوة واللذة الحسية، ولا ينسى الغرب ما للشرق من مكامن القوة، الشرق وحدة متجانسة، تكتلات تفضي كذلك للصراع والانقسام، إنصاف بعض الدارسين للشرق يعني التحلي بالنظرة الموضوعية، والتقرب من الشرق ككيان ثقافي وحضاري، لا يخيف ولا يهدد، ولا يقبل الذوبان الكلي في المنظومة الثقافية الغربية.

«إدوارد لين» و«جاك بيرك» و«مكسيم رودنسون» و«ماسينيون» و«غوستاف لوبون» قدموا بالفعل دراسات عن الشرق، منهم من يوصف بصديق العرب، منهم المادحون والناقمون، العابرون والمستقرون، حذّر منهم «مالك بن نبي»، الذين يمجدون تاريخنا ويصنعون أفكارًا مزيفةً، ويدسون سموم المعرفة في وعينا، ويوهموننا أن ماضينا كان مشرقًا وحاضرنا أقل لمعانًا، يحتاج إلى قفزة لارتقاء درجات الرقي والتحضر، وذلك عبر الحسم والفصل مع تراثنا وركوب أمواج العقلانية والفكر العلمي، يكون الرضا عن الشرق مقبولاً إذا رمم نفسه، وبلغ درجة معينة من الانفصال والاكتمال معًا.

معنى ذلك أن الاستشراق لا يهتم بجوهر الأشياء في سياق المثاقفة والاحتكاك بين الحضارات على أسس متوازنة، بل الاستشراق مدفوع بنظرة استعلائية تعتبر الشرق أقل من الغرب، الالتقاء بينهما ينبني على قاعدة المساواة، وليس المفاضلة، يدفعنا للقول إن الاستشراق تسكنه هواجس سياسية أيديولوجية. الاستشراق خطاب مغلف بنزعة علمية متحالف مع الاستعمار، والمخططات الإمبريالية للشعوب الأخرى. نقيض تلك الشعوب الموجودة في آسيا وأفريقيا.

شروط التحضر والإدماج في النظام الرأسمالي ممكنة في خلق مجتمعات بطبقات متباينة، من البورجوازية والبروليتارية، لابد من تفكيك النظام القبلي العشائري، وتفتيت الوحدة والانسجام، وخلخلة الأبنية المتراصة. والزج بالأديان نحو العداء السافر، واللعب على التوتر التاريخي في الحروب الصليبية وغزوات المسلمين للغرب، والتهديد الذي وصل حدود فيينا في عهد الدولة العثمانية، والصراع في الأندلس.

ثنائية الغرب والشرق قابعة في الخطاب الاستشراقي وفي توجهات القائمين على فهم الشرق كآخر أقل درجة في سلم الوعي الحضاري.

المعرفة الممكنة للشرق أن تتحول السيطرة العسكرية إلى سيطرة بالفكر والمعرفة، وإرغام الشرق على تتبع خطوات الغرب في أهدافه ومراميه، نوع من الاستحسان والرضا كشرط للعلاقة بين الشرق والغرب، يمكن محو التوتر التاريخي والخوف اللا شعوري، فالغرب بذاته تعرّض للنقد من قبل فلاسفته، ماركس ونقد المنظومة الرأسمالية، والسعي إلى تقويضها، وبناء منظومة اشتراكية كشرط للرخاء المادي ونهاية الاغتراب والاستلاب، ونيتشه في الجينيالوجيا يعيد النظر في الثقافة الغربية التي أصابها الذبول، حتى أصبحت تجتر قيمًا بالية وأخلاق العبيد، انحطاطًا واضحًا في التطابق بين الأفلاطونية والمسيحية، وتغلغل الميتافيزيقا الغربية من خلال فلسفة كسيحة ضد الحياة والإنسان.

والفيلسوف فوكو من خلال الأركيولوجيا اعتمد الحفر والنبش في علاقة المعرفة بالسلطة، وتحديد آليات العمل من خلال الخطاب الذي يصير مراقبًا ويُعاد تنظيمه وتوزيعه من خلال تقنيات وإجراءات، المنع والمراقبة والتتبع، والربط المتين بين الخطاب وآلياته مع تحقيق المنافع والمكتسبات في إعادة الإنتاج للسائد، وجعل السلطة لا مرئية بقواعد جديدة بعيدًا عن الآليات التقليدية، السلطة كما يقول فوكو إستراتيجية معقدة في وضع معين، وهذا الأمر يستفرد فيه فوكو بالتحليل والنقد في كتاب «نظام الخطاب». [3]

وفي تتبع مسارات الخطاب، وآليات إنتاج المعرفة، يستلهم إدوار سعيد من الفيلسوف فوكو مفهوم الخطاب، في محاولة فهم طرق إنتاج الحقيقة والمعرفة معًا، وتوجيه السلطة نحو أهداف بذاتها، وتقطير الفلسفة والأدب والثقافة بما يخدم المشروع الاستعماري، وما يرسخ الصورة النمطية عن الشرق في الوعي الغربي، فأصبحت الكتب والبرامج والقنوات الإعلامية أبواقًا لتصريف الأفكار المجانية، وتغليفها بالطابع الموضوعي.

الشرق والاستشراق

صورة الشرق الهَرِم أو الشرق الغرائبي، المستبد والغارق في ظلام الاستبداد الفردي، والقيم البالية، لا تزيد إلا احتقانًا وصراعًا. والاستشراق بنية أقيمت في زحمة تنافس إمبريالي كثيف مثلت تلك البنية جناحه المهيمن فانبثقت، لا كمهنة بحثية، بل كأيديولوجية متحزبة [4]. استشراق مُحمَّل بفلسفة لا تخلو من دونية لأجناس البشرة السمراء، يتحول الاستشراق من إنتاج المعرفة عن الشرق إلى تكريس صورة سلبية ونمطية عنه، ويتجلى الخطاب المرئي في آليات الدعاية كما تتشكل الصورة والانطباع النهائي عن الشرق، يتحول هذا الشرق لصورة ذهنية باهتة ومشوهة عن الغرب الحضارة، عند إعلان نهايته يُعاد إنتاجه سياسيًا وثقافيًا، لأن الاستشراق لعب على وتر حساس، يتعلق بالسيطرة والهيمنة على الشرق معرفيًا وإدارته بالطرائق التي يجيدها الغرب، والنزعة المركزية الغربية خير دليل على العلاقة الصراعية بين الأنا والآخر.

الذات الغربية في تفوقها وتقدم مسارها التاريخي الذي أفضى لميلاد الغرب الحديث بالثورات العلمية والسياسية، والآخر ككيان مضاد، لا يملك من الأنوار ومواصفات الثقافة إلا التاريخ الذي يعيد تكرار ذاته، بل الغرب يعتبر بعض الشعوب في أفريقيا وآسيا ليس لها تاريخ، بقايا كائنات تعيش على الهامش، ولا مفر من استيعابها وإدماجها حتى يُعاد تشكيل العالم وجغرافيته على مقياس ما تسعى إليه النزعة الاستعمارية المتحالفة مع السياسة الرأسمالية.

المشكلة كما تبدو لبعض الأقلام العربية واضحة في المخططات التي تستهدف عالمنا، دور المثقف مركزي في إزالة اللبس والكشف عن زيف الخطاب الاستشراقي، الثقافة في مواجهة الإمبريالية، والمقاومة سلاح المثقف، تخليص الشرق من الصورة النمطية، والكشف عن أساليب الهيمنة دون الانجرار لأي سلطة كيفما كانت أهدافها سوى سلطة المعرفة في توصيل المفيد والممكن عن الشرق في خصائصه وطبائعه، العلوم الإنسانية والفكر النقدي يقدمان آليات للدراسة بعيدًا عن الضغائن والأحقاد التي تحملها المؤسسات الداعمة للاستشراق.

إنهم يكتبون ويحوّلون النصوص المكتوبة إلى مادة للنقاش والحوار بينهم، لا يخرجون عن السياق المرسوم سلفًا في استقصاء الأخبار والبحث عن معلومات جديدة عن الشرق، والعمل على رسم الخرائط، وسنّ سياسة مفيدة لاستعمار جديد سياسيًا واقتصاديًا.

الشرق ليس أعجوبة وحسب، أو عدوًا أو فرعًا من فروع الغرب. بل إنه واقع فعلي، سياسي يتميز بثقل وزنه وأهميته الكبرى [5]، ودور المثقف مناصرة الأضعف، والكشف عن حدود القوة، والمقاومة بالفكر والكلمة عن الممكن حتى يتمكن الإنسان من العيش في سلام داخل أرضه وبين جماعته وقوميته، ونسخ علاقات متوازنة مع القريب والبعيد.

الكثير من المفكرين في عالمنا كتبوا عن الاستشراق وموسوعة المستشرقين، من نوع الكتابات المحرجة لهم عندما تصب في نقد أعمالهم واتهامهم بالتقصير، وهيمنة البعد الأيديولوجي في أعمالهم، وميلهم نحو تكريس النزعة العنصرية الاستئصالية. ومرة أخرى يتهم بعض المستشرقين بإثارة النزعات العنصرية وتفتيت الكيانات، وخدمة المشروع الغربي تحت غطاء الموضوعية، الأمر ينطبق على «برنار لويس» و«ألبرت حوراني» في تكريس العداء للعالم العربي، ونشر صورة نمطية عن الإسلام كدين عنف وإرهاب، لا يساير إيقاع العالم الغربي، ولا إيقاع العولمة.

مواقف الاستشراق في نسخته الأصلية عن الشرق، والتي لا زالت مندسة في الوعي الغربي وموجهة بالعداء التاريخي، حتى تظل مقولة كيبليغ واقعية «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». تُظهر الفكرة حجم الانفصال وسموم الاستشراق المسلح بالعلم والموجه بالسياسة في تقويض فكرة تلاقح الحضارات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إدوارد سعيد، “الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق”، ترجمة: محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2006، ص 209.
  2. المرجع السابق، ص44.
  3. ميشيل فوكو في كتاب “نظام الخطاب” وكتب أخرى يحلل آليات إنتاج الخطاب في الغرب، وربط المعرفة بالسلطة والحقيقية، أركيولوجيا فوكو تعني الحفر في ترسبات الماضي عبر قراءة تأويلية في مفهومي الحقيقة والذات.
  4. إدوارد سعيد، “تعقيبات على الاستشراق”، ترجمة: صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1996، ص71.
  5. إدوارد سعيد، “الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق”، ص383.