في أكتوبر/تشرين الأول 1971 خرج لنا «جون لينون» عضو الفرقة البيتلز، الفرقة الأشهر في العالم على مدار التاريخ بأغنيته (Imagine – تخيّل). كان أعضاء الفرقة قد انفصلوا منذ سنة تقريباً، وكان كل منهم يتخبّط ولا يعلم كيف سيُكمِل بقية حياته، كموظف خرج لتوه على المعاِش ولم يكن في حياته سوى العمل، يُخيِفه المستقبل القصير كشاب ما زال في مقتبل العمر، ويُفزِعه الموت الذي يلاحقه بعد أن غزاه الشيب، ويقتله الفراغ السائد. كل تلك الظروف كانت دافعاً لجون ليتأمل حقيقة الوجود، ليدرس طبع البشر، ويحاول فهم هذه الحياة.

قبل إطلاق الأغنية بشهور كان عيد ميلاد «يوكو أونو»، زوجة لينون، وكان قد أهداها البيانو الأبيض الذي ظهر في الفيديو الخاص بالأغنية، وفي عشية إحدى الليالي أخذ جون يعزف عليه ويرتجل، وها هو يُخرِج ما كان في ذهنه المتخبط على شكل كلمات رقيقة، هادئة، مسالمة. وكانت يوكو كالملاك الحارس الذي أسرع وتناول القلم لتُسجِّل تلك الكلمات، فها هي تحتضنهم وتنقذهم من السقوط في فوهة الضياع، ولكن هل كان يعلم جون أن في تلك الليلة كان يكتب أغنية سيعترف العالم بها كنشيد رسمي للسلام؟ كنشيد لوطن واحد يشمل كل شعوب العالم؟

والآن دعونا نرى العالم كما رآه جون في تلك الليلة.

استهل جون الأغنية بدعوة لتخيل قد يبدو من الانطباع الأول مخيفاً، مريباً، وإن كنت معتنقاً لدين سماوي فقد تفسر الدعوة بأنها دعوة للإلحاد، حيث دعا جون الناس إلى تخيل عدم وجود جنة، وأكد بإمكانية حدوث الأمر إذا فقط حاولت.

ثم أكمل ودعا إلى تخيل عدم وجود جحيم. وفي واقع الأمر أن جون هنا بدأ بأول دعوة إلى المحبة، وبالأخص دعوة محبة الإله، بل إنها عكس ما قد تبدو عليه، إنها دعوة إلى الإيمان الصادق المخلص، جون يطلب ألا يعبد الناس الله طمعاً في الجنة أو خوفاً من النار، أنت تعبد الله لأنك تحب الله، تعبده لأنه يستحق العبادة، جون يدعو الناس لعمل الخير ونشر المحبة والسلام ليس لتنجو بنفسك من الحرق ولا لتنعم وترغد في الفردوس، بل أنت تقدم الخير بنية صافية خالصة لنشر الخير، أنت لا تمنع أذى لأن هذا سيجعل منك البطل المغوار، أنت تفعل هذا لأنه الصواب، دافعك الوحيد هو المحبة، وهدفك الوحيد هو انتشار السلام.

وفي المقطع الثاني كانت دعوة جون لمحو كل ما قد يُفرِّق البشر عن بعضهم، فدعا إلى تخيل عالم بلا بلاد، بلا حدود، بلا تأشيرات، عالم ليس به دول عالم أول وعالم ثالث، عالم من دون دول محظورة وأخرى مرغوبة، العالم كله وطن للجميع، فأنا جنسيتي هي الإنسانية، جنسية تسمح لي بالتنقل في كل مكان، لا أنتمي إلى شيء سوى هذا العالم، هذا العالم وفقط.

ثاني دعوة في هذا المقطع هي دعوة لمحو كل الأديان، سماوية كانت أو لم تكن، كم من دماء أزهقت تحت مسمى الدفاع عن الدين! كم من رقاب تطايرت! كم من بغضاء وشحناء ولدت بين أبناء الوطن الواحد فقط تحت مسمى الدين! فماذا لو اختفت كل تلك الأديان التي نشرت الفرقة بين الناس ووعدت معتنقيها أنهم هم الأسمى، وأنهم هم من سيظفرون بالجنة وحدهم، وكل من اختلف عنهم له الجحيم؟ هل حقاً خُلقت الجنة لفئة واحدة فقط؟

ها هو جون يدعو إلى محو كل التساؤلات بدعوته إلى محو الأديان، فأنا لا أنتمي لدين يفرق بيني وغيري، أنا أدين بدين واحد فقط يشمل تحت مظلته كل البشر، أنا أدين بدين الإنسانية.

ثم يدعو جون لتخيل عالم كامل يعيش في سلام، عالم كامل يتعاون، عالم كامل يعلم أن هناك شراً لكنه على استعداد ليتكاتف ويحاربه حتى يمحوه، ويستكمل قائلاً إنك ربما تظنه حالماً، وأظنه اختار كلمة حالم لتحسين الشكل، فمن الطبيعي أن يصفه الناس بعد هذا الكلام بالمختل، بالمجنون، أي عاقل يدعو لمحو الأديان والأوطان؟ ولكنه يستطرد مؤكداً أنه ليس وحده، فأمثاله كثيرون في شتى بقاع الأرض.

وتخيل جون في تلك الأغنية لم يختلف عن اليوتوبيا، الأرض المثالية التي تغنّى بها الكُتّاب في كل زمن، وهذا دليل أن جون حقاً ليس الوحيد الذي يحمل تلك الأفكار، الفرق الوحيد هو مدى بلاغة جون في توصيل رسالته بكلمات قليلة لخصت ما أخذ الكُتّاب يسطرون الكتب لوصفه، ولكن هل يقتصر الأمر على جون وبعض الكتاب؟ هل هم فقط منْ يمكن أن نعتبرهم على حد قوله الحالمون؟

الإجابة قطعاً لا. فهؤلاء الحالمون موجودون بيننا في كل مكان، يعيشون في الخفاء، لا يسعون للفت الأنظار. من داخلهم مازالوا يؤمنون بالخير والمثل العليا. ما زالوا يقدمون الحب دون انتظار أي مقابل لا في تلك الحياة، ولا في أي حياة أخرى. وها هو جون يُبسِّط يده للجميع ويطلب منهم مشاركته والانضمام معه، هو وكل الحالمين في العالم، فيتحوّل العالم كله لحالمين يتشاركون نفس الرغبة، الرغبة في وطن واحد ينتمي له كل البشر.

ثم في المقطع قبل الأخير يدعو جون لتخيّل جديد، تخيّل عالم من دون ممتلكات خاصة، فلا يملك أحد شيئاً، وقد فسّر كثيرون هذه الدعوة بأنها دعوة إلى المذهب الاشتراكي الشيوعي، ولكن كيف يُعقل هذا؟ كيف لرجل كان يدعو إلى عالم سام، راق، مترفع عن كل أشكال الطبقية والعنصرية وكل أنواع العصبة، كيف له أن يدعو إلى مذهب بعينه؟ بل كانت دعوة جون أرقى من كل تلك الاتهامات، كانت دعوته دعوة بريئة، كان يطلب من الناس التخلّص من المادية، التخلص من هوس الامتلاك والاستحواذ، دعوة إلى التخلص من الشهوات والسمو بالنفس.

يُبرِّر جون دعوته تلك لأنها يرى أنها سبب الجوع، وسبب الحروب، ولم يكذب جون، فإذا راجعنا صفحات التاريخ، لم يُخرَّب هذا العالم مئات المرات إلا بسبب طمع وجشع البشر، ظنهم أنهم شعب الله المختار، وأن كل ما على الأرض ملك لهم دون غيرهم، حتى البشر الذين لا ينتمون لبني جنسهم.

فتخيل معي كل العالم يمتلك كل العالم.

ويُنهي جون الأغنية بتكرار أنك تظن أنه مجرد «حالم» أو بلفظة أخرى «مختل»، لكنه يؤكد أنه ليس وحده بل أقرانه كثيرون، فلعلك يوماً ما تنضم لهم، أو تنضم لنا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.