تسعى هذه الورقة إلى الكشف عن كيفية توظيف ابن سينا للاستعارة السياسية في تقريب فلسفته إلى الأذهان، وإلى النظر في مرجعياته المعرفية التي استعان بها في بناء أعماله التخيلية.

تنقسم الفلسفة عند ابن سينا إلى قسمين: الفلسفة النظرية، والفلسفة العملية؛ وتنقسم الأولى إلى علم الإلهيات، والرياضيات، والطبيعيات؛ أما الثانية، فتنقسم إلى الأخلاق، والسياسة، وتدبير المنزل. في الأولى يهدف الفيلسوف إلى تصوير الموجودات في نفسه، وفي الثانية يهدف إلى تحقيق الخير والسعادة.

في هذا الإطار يبدو ابن سينا حريصاً على توظيف الاستعارة السياسية في تقريبه للمعرفة الفلسفية، في جانبها المتعلق بالموجودات ومراتبها، أو فيما تعلق منها بالنفس الإنسانية وقواها.

ولابن سينا عمل سردي سعى فيه إلى تجسيد فلسفته في الوجود والنفس البشرية ومنحها تصويراً استعارياً وظَّف فيه استعارة المملكة، وهي «حكاية حي بن يقظان»، وفيها هدف ابن سينا إلى تقريب فلسفته عن النفس الإنسانية وقواها، وتدرجها في معرفة الموجودات ومراتبها، وصولاً إلى المبدأ الأول.

السرد باعتباره تصويراً رمزياً

إن القول على السرد والحكي عند ابن سينا يتفرع من موقفه من التخيل؛ فهو يرى – انطلاقاً من تصوره عن قوى النفس – أن التخيل يرتبط بالعالم المحسوس، وأنه قائم على التصرف في الصور المختزنة في الحافظة، إما باسترجاعها أو التركيب بينها، لإنتاج صور جديدة لم تقع في الوجود.

والتخيل هنا وسيلة تعليمية، هدفها تقريب المفاهيم التجريدية إلى أذهان العامة والطلاب، ممن لم يتمكنوا من التخلص من «أعلاق الحس»، ومن استحداث «فطرة جديدة». وبالتالي، فالسرد آلية معرفية تستهدف إيصال المعرفة ذات الطبيعة التجريدية في إطار حسي، يسهل إدراكه.

وابن سينا هنا متأثر بالنسق الفلسفي الأفلاطوني والأفلوطيني المُحدث، الذي يميل إلى إبلاغ المعرفة المجردة من خلال الاستعارات وضروب التصوير والتخيل؛ فقبله وظَّف أفلاطون «استعارة الكهف» ليُقرِّب نظرية المثل وعلاقتها بالموجودات المحسوسة، كون هذه الأخيرة محاكاة للمثل، وصوراً لها، ووجوداً مشوهاً وزائلاً، وظلاً للوجود الثابت والكامل والحق.

طبيعة الوجود عند المشائين

ينقسم الوجود إذن عند المشائين إلى وجودين: الوجود الواجب (الله تعالى) وهو وجود منزه عن المادة والجسمية والتركيب، والوجود الممكن؛ وهذا الممكن نوعان: وجود عقلي مُفارِق للمادة، ووجود مركب من المادة والصورة. يتسم الوجود العقلي أو «عالم الأمر»، بكونه وجوداً عقلياً، ومفارقاً للمادة، وغيرَ محسوس، وغيرَ متحيز، ويتوصل إليه بالتجريد، كما أنه ثابت مُنزه عن التغير، وهذا الوجود هو الوجود الأكمل والخالد؛ وأما الوجود الحسي، أو «عالم الخلق» فهو الوجود المادي، المركب من المادة والصورة، والمدرك بالحس والتخيل، وهو معرض للكون والفساد.

يقع الوجود العقلي فيما فوق فلك القمر، وهو عالم الموجودات العقلية الخالدة، المنزهة عن الفناء والكون والفساد. وجميع هذه الموجودات الخالدة فاضت عن المبدأ الأول كل موجود، وظهرت مُرتَّبة شيئاً فشيئاً؛ يقول ابن سينا:

وقد بان لنا مما سلف أن العقول المفارقة كثيرة العدد، فليست إذن موجودة معاً عن الأول. بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه، ثم يتلوه عقل وعقل، ولأن تحت كل عقل فلكاً بمادته وصورته التي هي النفس وعقلاً دونه، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود. [1]

وأما الوجود المادي، الواقع تحت فلك القمر، فيتكون من المادة أو «الهيولى»، والصورة، وتتشكل الموجودات الواقعة تحت هذا الفلك من مواد عنصرية أربعة هي: التراب والماء والنار والهواء. وهي مُعرَّضة للفناء والكون والفساد. وتترتب هذه الموجودات من الأدنى إلى الأعلى وفق الترتيب التالي: المعادن، النبات، الحيوان، النفس الإنسانية التي فاضت عن العقل الفعَّال. [2]

حكاية حي بن يقظان: متخيل الممالك والأقاليم

في حكاية حي بن يقظان لابن سينا حضور بارز للأقاليم والممالك، وهو حضور استعاري يُراد منه تقريب نظام الوجود، حيث يصبح نظام الأرض صورة لنظام السماء. وهذه الاستعارة تتضمن عدة مرجعيات ونظم معرفية:

  • المعرفة الجغرافية: نظام الأقاليم.
  • المعرفة الفلكية: نظام الأفلاك.
  • المعرفة الفلسفية.
  • التصور الأنطولوجي: نظرية العقول.
  • لغة المعرفة الفصل بين المعرفة المأخوذة من الظاهر والمعرفة الرمزية.
  • المعرفة النفسية: قوى النفس.
  • مراتب المعرفة: المعرفة الحسية –التخيلية– والمعرفة التجريدية العقلية.

يبدأ الراوي بسرد قصة لقائه بحي بن يقظان، وهو رجل من مدينة بيت المقدس، حرفته السياحة في أقطار العوالم حتى أحاط بمعرفتها. وجهُه متوجه إلى أبيه «حي»، ومنه أخذ مفاتيح كل العلوم، وبفضله زويت له آفاق الأقاليم.

ثم انتقل «حي» بالخطاب إلى الراوي ورفاقه، واصفاً إياهم بأنهم رفاق سوء، «ولن تسلم منهم، وسيفتنونك أو تكتنفك عصمة وافرة». ثم يطلب الراوي من «حي» أن يسيح مثله، فيخبره أن مثله لا يستطيع إلا سياحة مخلوطة بالإقامة، يسيح فيها أحياناً، ويُخالط الناس أحياناً أخرى. ثم إن الراوي ورفاقه سألوه عن الأقاليم، وطلبوا منه أن يبدأ بالإقليم الغربي لكونه الأقرب إليهم، فوصفه بأنه «إقليم خراب، سبخ، مشحون بالفتن والهيج، والخصام والهرج يستعير البهجة من مكان بعيد»، وبينه وبين إقليمنا أقاليم أخر؛ وأمَّا الذي بعده فهو «يلي محط أركان السماء» وهو «مرسى قواعد السماويات»، ثم يستطرد في وصف الممالك السماوية وسكانها إلى أن يصل إلى الملك (وهو الله تعالى). [3]

قبل تقديم تأويلنا لهذه الحكاية الرمزية، لا بد من الإشارة إلى استفادتنا من الأستاذين «أحمد أمين» و«يوسف زيدان» [4]، اللذين قدَّما تأويلين لهذه الحكاية في نشراتهما لحكايات حي بن يقظان.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن تأويلنا يصدر عن مبدأ يربط دلالات الرموز بقصد الكاتب ومراده. ذلك أن ابن سينا سعى إلى ترميز مقولاته وتصوراته الفلسفية في هذا العمل السردي. وانطلاقاً من هذا المبدأ سعينا إلى كشف الترابطات والتشابهات بين هذه الرموز والصور، والمقالات الفلسفية السينوية.

يشير ابن سينا بـ «حي بن يقظان» إلى العقل، وبـ «الراوي» إلى النفس الناطقة. وأمَّا رفاق السوء فأولهم الحس الذي ينقل المعرفة إلى النفس وقد يخدع أحياناً؛ والثاني هو القوة الغضبية؛ والثالث هو القوة الشهوانية؛ والرابع هو القوة التخيلية. وأمَّا السياحة مع المخالطة، فيشير بها إلى عجز القوة الناطقة عن التحرر من «أعلاق» الحس والبدن، وأنها لا تستطيع السياحة إلا بمجاهدة الحس ومتعلقاته؛ وأمَّا النصيحة فيقصد بها أن النفس الناطقة يجب ألا تُسلِّم قيادها إلى الحس أو الشهوة أو الغضب، بل عليها تسخير هذه القوى لصالح القوة النظرية.

وأمَّا الأقاليم، فالإقليم الأول هو الإقليم الأرضي الواقع تحت فلك القمر، وهو إقليم الخراب والكون والفساد، وفيه أقاليم أخرى، ويشير بها إلى الموجودات الأرضية، وهي المعادن، والنبات، والحيوان والإنسان؛ وأما الإقليم السماوي، ففيه ممالك تسع، هي الأفلاك التسع. والأول حسب وصفه هو القمر؛ والثاني عطارد؛ والثالث الزهرة؛ والرابع الشمس؛ والخامس المريخ؛ والسادس المشتري؛ والسابع زحل؛ والثامن فلك الثوابت؛ والتاسع الفلك الأقصى أو الفلك الأطلس، ويؤوِّله ابن سينا بالعرش كما سبق أعلاه.

ثم يعود إلى الإقليم الأرضي ليتحدث عن أرض خلاء، ويشير بها إلى الإسقاطات [5]، ثم المعادن، ثم النفس النباتية، ثم الحيوانية، ثم النفس الإنسانية. ويشير بالسكك الخمس إلى الحواس الخمس، وبالخازن إلى القوة الحافظة، وبالملك إلى النفس الناطقة، وبقبيلتي الشياطين: القوتان الغضبية والشهوانية، وبالقوم الأطهار المدبرين للعالم والمتأملين في القصور إلى النفوس النبوية، وبالملأ المخالطين للملك إلى الأرواح الملكية أو العقول التسع، وأبوهم هو العقل الأول. وأمَّا الملك، فهو الباري سبحانه.

المُلاحَظ هنا أن ابن سينا يقابل بين تدبير الملك للمملكة، وتدبير الإله تعالى للوجود؛ فإذا كان الملك يستعين في تدبير مملكته بتقسيمها إلى أقاليم، وجعل الولاة عليها، فإن الله تعالى جعل الوجود أفلاكاً، ولكل فلك عقل يدبره.

المرجعية الجغرافية في التخيل السردي

إن ابن سينا وهو يستعيد هذه الآلية المعرفية – السرد والتصوير – لجأ إلى مجال معرفي محدد، اشتق منه صوره واستعاراته. وهذا المجال هو الجغرافيا، بشقيها الفضائي-الطبيعي، والسياسي.

وهنا يثور إشكال مهم، لمَ لجأ ابن سينا إلى الجغرافيا بالخصوص؟

حقيقةً يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال العودة إلى حياة ابن سينا السياسية، وإلى مرجعيته الفلسفية بالأساس. فبالنسبة إلى حياته السياسية، فقد أمضى الرجل شطراً كبيراً من حياته وزيراً، وفي بلاط الوزراء والأمراء، وكان أهل بيته من دعاة الباطنية، مما يجعل السياسة محورية في تشكيل فكره وشخصيته.

وأمَّا بالنسبة إلى مرجعيته الفلسفية، والتي تعود أصولها إلى فلسفة اليونان، فإن اليونانيين كانت لهم اهتمامات سياسية كبيرة، وهم الذين عرفوا نظام الحكم الديموقراطي، ونظر فلاسفتهم للحكم، كأفلاطون في جمهوريته التي جعل الفيلسوف فيها رئيساً للدولة، وهو المفكر، مثلما أن العقل هو الذي يحكم نظام الأشياء.

وأرسطو أيضاً كانت له اهتمامات سياسية، وكان وزيراً ومؤدِّباً للإسكندر المقدوني. والسياسة وتدبير المدينة جزء من الفلسفة العملية، وهي قسيمة الفلسفة النظرية. لأجل هذا، يصبح مفهوماً لجوء ابن سينا إلى الاستعارة الجغرافية في تقريبه لنظامه المعرفي–الوجودي.

المراجع
  1. الشفاء، الإلهيات، ابن سينا، ص 406، تحقيق: قنواتي وسعيد زايد، مكتبة سماحة آية الله العظمى المرعشي، ط 2013 قم، إيران. وانظر: تفسير ما بعد الطبيعة، ابن رشد، ج3، ص 1646، المطبعة الكاثوليكية بيروت.
  2. انظر: حي ابن يقظان، ص80، وانظر أيضا: الشفاء، قسم الإلهيات، ص 435.
  3. أنظر القصة في حي بن يقظان، من ص 43 إلى 54، تحقيق وتعليق: أحمد أمين، طبعة خاصة مع جريدة الاتحاد، ط1 1947. طبعة دار المدى للثقافة والنشر، 2005، دمشق، سوريا.
  4. قدم كل من الأستاذ أحمد أمين ويوسف زيدان تأويلا لهذه الحكاية الفلسفية، على أننا نرى أن الأستاذ أحمد أمين كان أكثر توفيقا في تأويله، وأكثر اعتمادا فيه على المعارف الفلسفية المشائية والأفلوطينية المحدثة.
  5. لم يوفق الأستاذ أحمد أمين حين اعتبر هذه الأرض هي فلك الأفلاك، وذلك لأن الموجودات التي تسكن هذا الإقليم هي العنصرية. وأما فلك الأفلاك فلا يسكنه أحد. انظر الهامش 6، ص 49 من طبعته المشار إليها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.