من منا لم تعلق بذهنه سخرية عادل إمام في مسرحية «الزعيم» من كلمة «الإمبريالية». استخدام تهكمي لمصطلح لطالما تم توظيفه من قبل اليسار وكل الأنظمة الشعبوية حتى تم ابتذاله وتاه مضمونه وسط ركام انهيار اليسار وأفول تلك الأنظمة، أنظمة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن استفحال الأزمة الاقتصادية العالمية وتفاقم الاختلالات الاجتماعية على نطاق عالمي وبشكل خاص في بلدان الجنوب، يعيد إحياء مفهوم الإمبريالية وضرورة تمثله باعتباره أساس النظام العالمي القائم.

الإمبريالية في تعريفها المبسط رأسمالية الاحتكارات، هي إذن مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية التي انتقلت من طور المنافسة الحرة بين رؤوس الأموال في إطار السوق إلى الطور الاحتكاري الذي شهد نشأة التروستات والكارتلات أو المؤسسات العملاقة التي تهيمن على السوق وتسحق المنافسة عبر ما توفر لها من رؤوس أموال ضخمة ونفوذ وسلطة تشريعية وتنفيذية ليمتد نفوذها عبر الحدود.

إذن، نشأة الاحتكارات الضخمة هي السمة الأولى التي دفنت ببروزها قانون الرأسمالية الأول: دعه يعمل دعه يمر، فصارت حرية العمل والمرور مكفولة فقط للاحتكارات وما يؤدي لتعاظم ربحها. ثم كانت السمة الثانية لهذا الطور الإمبريالي وهو تصدير رؤوس الأموال الذي مثل صعود الرأسمال المالي. تلك السمة بدأت في التبلور بكثافة بدءاً من القرن الثامن عشر. وقد اتخذ تصدير رؤوس الأموال شكله الأبرز عبر القروض التي كانت تقدمها البيوت المالية والبنوك للدول الفقيرة، لكن كيف ظهرت تلك الدول الفقيرة؟

ثنائية الشمال/الجنوب

لقد استطاع الأوروبيون عبر الكشوف الجغرافية واكتشاف الأمريكتين، عبر نهب احتياطات الذهب والفضة والمطاط وغيرها من الخامات في تلك الأراضي البكر، عبر اصطياد الأفارقة بالشباك– العمل الذي مارسه الإنجليز بمهارة– والدفع بهم للعمل في الأمريكتين، وفوق دماء الهندي الأحمر وحضارات الشعوب اللاتينية، حققت أوروبا تراكمها البدائي الذي أطلق المسار الرأسمالي في ظروف لم تتوفر لغيرها نتيجة ظروف الفوضى التي مر بها باقي العالم القديم. هذا التراكم البدائي لرأس المال، الذي حفز بشكل متسارع تفسخ الإقطاع الأوروبي، وتمايز العالم إلى جنوب فقير وشمال غني، هذا التراكم لم يكن سوى عملية نهب استعماري وفرت حجماً غير مسبوق من الموارد. إذن لقد وُلدت الرأسمالية استعمارية.

من موضع التفوق التاريخي هذا، صارت أوروبا هي مقرر التطور العالمي، أي الحفاظ على تقسيم العمل العالمي الذي يؤدي لاستمرار وضع التفوق الأوروبي، لاستمرار نمو الأرباح الرأسمالية. ما هو تقسيم العمل العالمي إذن؟ إنه تلك الوضعية التي تتسم في إطار علاقة الشمال والجنوب كمكونات النظام العالمي بتخصص مجموعة دول الجنوب في ممارسة نشاط اقتصادي يخدم مقتضيات النمو الرأسمالي، تخصصت دول الجنوب تلك في إنتاج المواد الخام فقط، سواء الزراعية منها أو المعدنية، ليس هذا فقط، بل حُظر على تلك البلاد تصنيع موادها الخام تلك، وإذا صنَّعت بعضها فمن غير المسموح لها فرض إجراءات الحماية التي تفرضها الدول لحماية تطور صناعاتها الناشئة في ظروف اختلال المنافسة.

هذه العلاقة الشمال – الجنوب أو المركز – الأطراف، صارت السمة الحاكمة لتطور الرأسمالية إلى احتكار إمبريالي مركزي، يدور العالم كله ويخدم مقتضيات النمو الإمبريالي. تلك المقتضيات الأساسية هي المواد الخام الرخيصة والأسواق. تحتاج الرأسمالية إلى أسواق مفتوحة أمام بضائعها، أسواق لا تحدها حمائية أو جمارك، أسواق لا تزاحمها فيها منتجات محلية حتى ولو رديئة، هذا ما دفع أوروبا للانقضاض على محمد علي، لأنه تبنى التصنيع، وفتح لصناعته أسواقاً إقليمية، واتبع نزعات حمائية فكانت معاهدة لندن وسياسة الباب المفتوح التي أرغمته على التخلي عن طموحاته الإقليمية التي كانت تعني نزوعه لفتح أسواق جديدة، والتخلي عن الحمائية وفتح البلد بالكامل للبضائع الأجنبية كفاتحة لما حل بمصر من خراب سنتناوله في موضعه.

إن الرأسمالية تعاني من تناقض، لم يفقد جوهريته بتطورها لإمبريالية، ولا تطورها لإمبريالية جديدة، هذا التناقض هو أنه بينما ينمو الإنتاج الاجتماعي باضطراد، تتقوض القدرة الشرائية للمنتجين المباشرين، إن البضائع التي لم تعد تجد أسواقاً للتصريف في وقت تتفاقم فيه حاجة وعوز الجماهير المباشرة، لهي سمة رئيسية لازمت الرأسمالية منذ بدأت في استخدام العمل المأجور.

وبالتالي، ظلت الرأسمالية دوماً شرهة للأسواق لتصريف البضاعة، أسواق لا يوجد بها لاعب غيرها، ثم إنها ظلت دوماً شرهة لمواد الخام الرخيصة التي تعني تخفيض تكاليف الإنتاج أي زيادة أرباح المؤسسات الإنتاجية، وأخيراً تسعى الرأسمالية دوماً لإيجاد عمالة رخيصة هذا ما جعلها في طورها الإمبريالي تتجه باضطراد نحو بلاد الأطراف، إنها توفر كل هذه الشروط وأكثر.

القرض كآلية إخضاع

إذن، نحن بصدد مركز إمبريالي شمالي وأطراف تابعة جنوبية، تنمو بينها علاقات اقتصادية غير متكافئة، وتتعمق الهوة بينها بكل تطور يحدث في البنية والنشاط الإمبريالي، فإذا كان النهب الاستعماري قد أطلق الرأسمالية الشمالية ونصّبها سيدة للكوكب، فإن الاحتكارات قد عززت تلك المكانة، وعبر تصدير رؤوس الأموال خلقت الإمبريالية أوضاعاً اجتماعية في غاية القسوة والبؤس للدول الفقيرة، فقد كبلت تلك الدول بقيود من الديون وضعتها بالكامل في خدمة النمو الإمبريالي، ولعل تجربة مصر في عهد الخديوي اسماعيل تقف شاهداً على المصير الذي ترسمه لنفسها البلاد التي تخضع للشروط الإمبريالية.

تلال من الديون تم توجيهها للبنية التحتية وحفر قناة السويس وتكاليف الافتتاح والإنفاق البذخي الذي انتهى بعدم قدرة البلد على سداد الديون، ما أدى إلى قيام ما يسمى بالرقابة الثنائية، فحضر مندوبان إنجليزي وآخر فرنسي لمراقبة مالية مصر، انتهى الأمر بعزل اسماعيل وتنصيب محمد توفيق الذي تلاه قيام الثورة العرابية كنتاج للهيمنة الأجنبية على البلد. انتهت المقاومة بالاحتلال الذي بدأ أخيراً يحصد ما زرعته الديون، لقد سقطت البلاد بالكامل في أيدي الإنجليز الذين رسموا كامل السياسة الاقتصادية المصرية بدءاً من تحويلها لمزرعة قطن تطعم مصانع لانكشير، وتدمير زراعة المحاصيل الأخرى لتصبح مصر أحد أكبر مستوردي الحبوب في العالم، كل هذا بدأ بالاقتراض.

فالقرض الذي هو الشكل الأولي لتصدير رؤوس الأموال هو آلية إمبريالية مجربة، آلية إلحاق غرضها تشكيل الهياكل الاقتصادية للدول المقترضة بما يحقق تشوهها البنيوي المحسوب لصالح الجهة المُقرِضة، إنه آلية سياسية تلعب دوراً لا تستطيع جيوش الغزو لعبه، إنه ليس فقط قضية مبالغ مقترضة تضاف إليها أعباء الفوائد، بل إن القرض يمثل مصالح الجهة المانحة بما يخدم تعميق تبعية البلاد المقترضة حيث يتم توجيهه لأنشطة غير إنتاجية، إما لمشاريع بنية تحتية أو لسد فجوات في الميزانية مع اشتراطات بتصفية القطاعات الإنتاجية وتنمية النزعة الاستهلاكية وهي اشتراطات تخدم بلا شك حركة الرأسمال الدولي وأرباحه.

وقد أسفر تشكل النظام الإمبريالي عن وجهه بالحروب لاقتسام الأسواق ومناطق النفوذ وأراضي المواد الخام، الحروب النابوليونية والحرب الفرنسية البروسية والحربين العالميتين الأولى والثانية التي انتهت إلى تصدع نظام الاستعمار العالمي القديم، لتحل محله النزعة الكولونيالية الجديدة حيث صارت رؤوس الأموال هي رأس الحربة الإمبريالية، بخاصة وقد أصبح استخدام القوة مكبلاً بصعود الاتحاد السوفياتي، الذي مثَّل وجوده خصماً هائلاً من الفضاء الإمبريالي، سواء لانتهاجه التصنيع الاشتراكي أو لحرمان الإمبريالية من مواد الخام.

لقد كان التوسع في تصدير رؤوس الأموال تعبيراً عن انتقال مركز الثقل في النظام الإمبريالي نحو الرأسمال المالي الذي تزامن مع تأسيس الشركات متعددة الجنسيات التي جنحت لنقل مراكز ثقل صناعية إلى بلاد الأطراف حيث العمالة الرخيصة– عكس بلدان الشمال التي استطاعت حركاتها العمالية والنقابية تحقيق تفوق ملحوظ في أجور عمالها يتم تعويضه من نهب الجنوب – وحيث القيود على حركة النقد محدودة وحيث الاشتراطات البيئية فضفاضة، فصار بالإمكان جني أرباح هائلة من التصنيع في بلدان الأطراف دون أن يترك أثراً لتطور تلك البلدان تكنولوجياً أو اجتماعياً، فالإمبرياليون يستهدفون الحفاظ على الفجوة التكنولوجية الهائلة القائمة بين الشمال والجنوب، إن حرمان الجنوب من التكنولوجيا، يخضعه بالكامل لتقسيم العمل الدولي السابق ذكره.

صندوق النقد الدولي

كما قد تطورت آليات الإقراض مع قيام اتفاقية بريتون وودز ونشأة البنك الدولي للإسكان والتعمير وصندوق النقد الدولي، وهي المؤسسات التي استحدثتها الإمبريالية لإدارة فوائضها النقدية الهائلة بما يتلاءم مع احتياجات نمو الإمبريالية، ليصير دور صندوق النقد تحديداً هو تمهيد البلاد عبر ما تم استحداثه من برامج التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي التي وضعت حزمة من الإجراءات يتم تطبيقها في كل الحالات تقريباً رغم اختلاف ظروف البلدان المقترضة.

تلك الروشتة الثابتة تتضمن تصفية قطاع الدولة الذي تمكنه ملكية الدولة له والتسهيلات التي يحصل عليها من النزول إلى الأسواق كمنافس غير متكافئ مع القطاع الخاص، كما تتضمن تلك الروشتة تصفية القيود على حركة النقد الأجنبي وخفض الدعم للسلع الرئيسية بدافع خفض عجز الميزانية وتعويم سعر صرف العملة أو تثبيت سعر منخفض تحت دعوى دعم تنافسية الصادرات، تلك الروشتة التي تم اعتمادها في كل بلاد الأطراف فكانت النتيجة تردياً اقتصادياً واجتماعياً وفقدان السيادة الوطنية وزيادة فتح الاقتصادات المحلية للأزمات العالمية ولعل أزمة الأرجنتين في مطلع القرن الحالي تعد مثالاً راسخاً في الأذهان.

إن المأزق الذي يواجه الإمبريالية هو أن الكوكب قد ضاق بها، لم يعد التوسع الأفقي متاحاً ولا التوسعات الرأسية بقادرة على تأمين استمرارها، صارت الإمبريالية تبحث عن أشكال مركبة للنهب تجمع بين البحث في كل شبر عن آخر سنت في جيب مواطن وتكثيف استغلال العمل وتكثيف التبادل اللامتكافئ بين الشمال والجنوب والذي يخدم القرض فيه كجزء جوهري.كما أصبحت المضاربات المالية المراهنات على السندات والتجاربة بالأوراق المالية التي شهدت أوجها قبيل أزمة الرهن العقاري في 2008 أحد أشكال إمبريالية تواجه سؤالاً جوهرياً في وجه اشتداد الانقسام الطبقي وانسداد أفق المستقبل أمام شعوب الجنوب، سؤال بسيط لكن إجابته قاسية: ما العمل؟