عدنان أبو عامر: أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة، فلسطين.

قد لا يكون مبالغة الحديث أن الساحة الإسرائيلية من أكثر الساحات تأثراً بالانتخابات الأمريكية، قبلها، وخلالها، وبعدها، في ضوء العلاقة الأمريكية الإسرائيلية المتشابكة في العديد من الملفات الداخلية والخارجية، وإمكانية أن تترك هذه الانتخابات تبعاتها ونتائجها على الوضع الإسرائيلي، مما قد يفسر حالة المتابعة اللحظية لصيرورة هذا الحدث الأمريكي اللافت.

أولاً: ردود الفعل الإسرائيلية على الانتخابات الأمريكية

بدا واضحاً حجم التغطية الإسرائيلية للانتخابات الأمريكية، في مرحلة مبكرة من بدايتها، وهو أمر دأبت عليه المنظومة السياسية والإعلامية الإسرائيلية منذ عقود طويلة خلت، في ضوء الارتباط العضوي بين تل أبيب وواشنطن، لكنها هذه المرة بدت أكثر متابعة بصورة حثيثة، نظراً للنتائج المترتبة على تغيير العهد الرئاسي الأمريكي، ومجيء رئيس ديمقراطي قد يقلب الأمور رأساً على عقب تجاهها، وبالنظر إلى سياساته المتوقعة تجاه ملفات المنطقة المختلفة، التي تشهد قواسم مشتركة أو تباينات متعددة بين الحليفين الوثيقين.

لم تخفِ إسرائيل «الرسمية» قلقها مما يمكن وصفه «العهد الجديد» ممثلاً td إدارة بايدن، في ضوء المواقف التي أعلنها خلال حملته الانتخابية، واعتبرتها قطاعات إسرائيلية واسعة أقل حماساً تجاه تل أبيب، وأكثر تفهماً للمواقف الفلسطينية، مما قد يعني توقفاً عن الموافقات الأمريكية لكل ما تقدمه «إسرائيل» من مطالب واحتياجات.

لعل ذلك يفسر مجيء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في ترتيب متأخر من بين زعماء العالم الذين بادروا للاتصال ببايدن، وهو سلوك ربما قرأه الأخير جيداً، ولا أظنه مرّ عليه مرور الكرام في مرحلة ما بعد دخوله البيت الأبيض.

حتى هذا الاتصال المتأخر من نتنياهو مع بايدن، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه لم يخاطبه بعبارة «الرئيس الفائز»، مما يعني تعويله، ولو في اللحظات الأخيرة، على إمكانية تبدل نتائج الانتخابات، وبقاء صديقه الحميم دونالد ترامب في مكتبه البيضاوي.

لا يحتاج المرء لكثير من الجهد في تفسير هذا السلوك الإسرائيلي تجاه الشعور بالقلق من غياب ترامب عن المشهد الأمريكي، فالرجل قدّم لـ«إسرائيل» ما لم يقدمه رئيس قبله. ويخشى الإسرائيليون، ولعلهم محقون في ذلك، أن يكون العهد التالي له «ناسخاً» لما حقّقه العهد الترامبي لهم من إنجازات وامتيازات على مختلف الأصعدة الأمنية والعسكرية والسياسية.

في الوقت ذاته، بدت مواقف إسرائيلية أخرى أكثر اندفاعاً تجاه فوز بايدن، ولعل أهمها وجود توجه مبكر لدى بيني جانتس وزير الحرب ونائب رئيس الحكومة، بتوجيه التهاني لبايدن بالفوز، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، تحسباً لحصول تغير مفاجئ في النتائج النهائية لفرز الأصوات، مما سيشكل له نهاية حتمية من وجهة نظر إدارة ترامب، إن قُدِّر لها أن تمضي ولاية رئاسية ثانية.

يبدو مثيراً قراءة موقفين إسرائيليين متباينين تجاه الانتخابات الأمريكية، من قطبي الحكومة الإسرائيلية، الرئيس ونائبه، مما يشير إلى حالة من الاختلاف الحقيقي في موقفهما من هذا التطور الأمريكي، وهو تباين يمكن فهمه بصورة واضحة، لأن هوية ساكن البيت الأبيض مهمة جداً في تطورات الساحة الداخلية الإسرائيلية.

تعتقد قطاعات واسعة من الإسرائيليين أن الامتيازات التي قدمها ترامب لـ«إسرائيل»، هدف منها بالأساس خدمة صديقه نتنياهو في تثبيت مواقعه الحكومية الداخلية، وزيادة نفوذه في الشارع اليميني الإسرائيلي، ومن ذلك قرارات الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وإقرار السيادة الإسرائيلية على الجولان، بجانب وقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وسواها من المواقف والسياسات.

شكّلت هذه المواقف الأمريكية لنتنياهو طوق النجاة في أكثر من مرة، وهو أمر لا يغفله الإسرائيليون، مما يعني بالضرورة أن تنظر إليه المعارضة الإسرائيلية من خارج الحكومة، حتى منْ يجلس مع نتنياهو على طاولة واحدة، بعين «الحسد» للعلاقة الخاصة بين ترامب ونتنياهو، ويتمنون زوال هذه العلاقة، وصولاً إلى تمني أفول ترامب عن الساحة السياسية الأمريكية.

يظهر موقف وسط بين مواقف الائتلاف الحكومي المتأرجحة من فوز بايدن، ومواقف المعارضة الإسرائيلية المرحبة به، يرى أن هزيمة ترامب وفوز بايدن ربما يشكل ضربة شديدة لنتنياهو، لكنه ليس كذلك لـ«إسرائيل» بالضرورة، فالرجل صديق تقليدي لها، ودأب على دعمها في العديد من المحافل السياسية الأمريكية والدولية. وعلى الرغم من تخوف اليمين الإسرائيلي من برود متوقع من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة، لكن تجربة الماضي تثبت أن تحالفهما أقوى من أي نزوة رئيس ورئيس حكومة. صحيح أن واشنطن لا تميل لنسيان منْ يعترضون عليها، لكن هناك أسباباً غير قليلة، أمريكية وإسرائيلية، تمنع انتهاج سياسة معادية ضدّ تل أبيب من الساكن الجديد في البيت الأبيض.

ثانياً: تأثيرات فوز بايدن على مستقبل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي

هناك بُعد سياسي إسرائيلي ذو علاقة وثيقة بنتائج الانتخابات الأمريكية، مرتبط بحالة التناغم أو التباعد التي شهدتها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية عقب كل دورة انتخابية أمريكية، على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث اتسمت هذه العلاقات بكثير من التوتر في حال كان هناك رئيس ديمقراطي في واشنطن أمام رئيس حكومة يميني في تل أبيب، كما كان الحال مع نموذج بيل كلينتون وباراك أوباما مع بنيامين نتنياهو، فيما كان الانسجام مع نموذج كلينتون أمام إيهود باراك، وأوباما أمام إيهود أولمرت، الذي خرج لتوه من حزب الليكود.

هذا الاستعراض قد يحمل تقدير موقف إسرائيلي يجعل جانتس وزعيم المعارضة يائير لابيد يرغبان في التعامل مع بايدن، وهي رغبة يشترك فيها الأخير معهما، لأنه يعلم حجم التناغم غير المسبوق بين غريمه ترامب ونتنياهو، دون أن ينفي ذلك بقاء الخريطة الحزبية الإسرائيلية كما هي عليه اليوم، من خلال ترؤس نتنياهو للمشهد الحكومي، الأمر الذي قد يعيد سيناريو التوتر الذي ساد خلال حقبة أوباما معه، وهو بالتأكيد خبراً ليس سارّاً لبايدن.

وقد تزامن إجراء الانتخابات الأمريكية مع حالة عدم الاستقرار الحكومي في «إسرائيل»، على خلفية التباين بين قطبيه الرئيسيين: الليكود و«أزرق-أبيض»، حول إقرار الميزانية العامة لدولة الاحتلال، فيما يشهد الأخير حالة من شبه التمرد على زعيمه جانتس لمطالبته بالانسحاب من الائتلاف الحكومي، لأن بقاءه يعني منح نتنياهو «ورقة التوت» التي يختفي خلفها، ويغطي بها على فساده.

وإلى حين دخول بايدن لمكتبه في البيت الأبيض، فقد نشهد مزيداً من التوترات الداخلية في الحكومة الإسرائيلية، وتزايد الدعوات لحل الكنيست (وقد تم حل الكنيست بالفعل والدعوة لانتخابات مبكرة جديدة)، وإجراء انتخابات جديدة، وفي هذه الحالة قد تتدخل الإدارة الأمريكية، كما تدخلت سابقاتها، لترجيح كفة طرف إسرائيلي على آخر، مما قد يعني طيّ صفحة نتنياهو، وإلى الأبد، خشية أن يعيد حالة الاستقطاب والتجاذب ذاتها مع بايدن في سنواته الأربع المقبلة، كما فعلها بسنوات أوباما الثمانية.

مع العلم أن ما يزيد من فرص هذا السيناريو أن جلّ الطاقم الرئاسي الأمريكي الجديد ممن خدموا في إدارتَي أوباما السابقتين، ويحملون في ذاكرتهم الجمعية لحظات قاسية من نتنياهو ومعسكر اليمين، وليس أدل على ذلك ما عاشه بايدن نفسه حين زار «إسرائيل» في 2010، وتعمد وزير الداخلية الإسرائيلي آنذاك «إيلي يشاي» الإعلان عن مشروع استيطاني في القدس المحتلة، مما شكلت صفعة للضيف الأمريكي.

وبينما يتحضر بايدن لدخول البيت الأبيض، وتشكيل طاقمه الرئاسي، أقرّ الكنيست في 2 ديسمبر/كانون الأول 2020 مقترحَي قانون لحله، والذهاب لانتخابات جديدة، وتمّ التصويت لصالحهما بأغلبية 61 صوتاً مقابل 54، وقرر الكنيست إحالة المقترحين إلى لجنة الكنيست، لإعدادهما للقراءات الأولى والثانية والثالثة، مما قد يستغرق أسبوعين على الأقل، ويُتوقع أنه في حال تمّ إقرار القانون بشكل نهائي، فإنه سيتم عقد الانتخابات المبكرة في مارس/آذار 2021.

ثالثاً: التحضيرات الإسرائيلية للتعامل مع بايدن على الصعيد الفلسطيني

في غمرة التجاذب الأمريكي الداخلي، يتحضر الإسرائيليون بمختلف قواهم السياسية للتعامل مع رئيس أمريكي جديد يختلف كثيراً عن الرئيس الحالي، وعلى الرغم من عدم صدور وثائق سياسية إسرائيلية واضحة تكشف عن طبيعة التعامل المتوقع مع الرئيس المقبل، فإن التصريحات والمواقف التي صدرت من مختلف المعسكرات الإسرائيلية تساعد بتسليط الضوء على السياسة المرتقبة.

عديدةٌ هي الملفات المتشابكة بين تل أبيب وواشنطن، أهمها التحضيرات الإسرائيلية للرئيس الأمريكي القادم على صعيد الملف الفلسطيني بمختلف مكوناته، والمشاريع الاستيطانية، حيث لا يختلف عاقلان أن حقبة نتنياهو الممتدة لأكثر من أحد عشر عاماً منذ 2009، شهدت العصر الذهبي للبناء الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية وشرقي القدس، فيما صدرت جملة مواقف إسرائيلية تطالب باستباق دخول بايدن للبيت الأبيض، لتنفيذ الحد الأقصى من المشاريع الاستيطانية فيما تبقى من ولاية ترامب.

فقد طالب «يوسي داغان» رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية، بـ«تطبيق خطة الضم الإسرائيلية فوراً، لأنه بمرور كل يوم تزداد الأمور صعوبة»، فيما أكد عضو الكنيست «بتسلئيل سموتريتش» أن «خسارة ترامب تتطلب منا الضغط على نتنياهو لتطبيق السيادة على الضفة الغربية قبل وصول بايدن».

يمكن تفسير هذا السُّعار الاستيطاني في هذه المرحلة الزمنية، بالنظر لعدة أسباب:

  • أولها قناعات نتنياهو الداخلية بأهمية هذه المشاريع لتثبيت الحقائق على الأرض.
  • ثانيها استباقاً لأي مفاوضات مع الفلسطينيين قد تُلزِم «إسرائيل» بالانسحاب من بعض مناطق الضفة الغربية.
  • ثالثها نزولاً عند رغبات شركائه المستوطنين الذين وضعوا هذه التوسعات الاستيطانية في ديباجات الائتلافات الحكومية مع نتنياهو.

لم يتوقف السلوك الإسرائيلي عند التصريحات السياسية، بل وصل الأمر إلى نشر سلطات الاحتلال يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مناقصة لبناء 1.257 وحدة استيطانية في مستوطنة «جفعات هاماتوس» على أراضي «بيت صفافا» جنوب القدس المحتلة. وتكمن خطورتها أنها ستنشئ حاجزاً حقيقياً بين شرقي القدس وبيت لحم جنوباً، وتأثيرها مدمر على حلّ الدولتين.

ومما زاد الطين بلة، وجود رئيس أمريكي مثل ترامب يقف على يمين اليمين الإسرائيلي، ويرى أن البناء الاستيطاني حق لـ«إسرائيل»، لا ينازعها فيه أحد، في ظلّ وجود مساعدي ترامب الإنجيليين الذين دعموا وشجعوا البناء الاستيطاني، لا سيّما سفيره في تل أبيب «ديفيد فريدمان»، ومستشاره الشخصي وصهره «جارد كوشنر»، مروراً بالمبعوث السابق للشرق الأوسط «جايسون غرينبلات»، وانتهاء بوزير خارجيته الحالي «مايك بومبيو» الذي زار يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 مستوطنة «بسجوت» المُقامة على أراضي مدينة البيرة وسط الضفة الغربية المحتلة، في خطوة لم يقدم عليها أي وزير خارجية أمريكي قبله.

هذا يعني أن يأتي بايدن على أنقاض إرث ترامب الداعم للاستيطان. وكان بايدن ذاته نائباً لأوباما حين امتنع عن استخدام حقّ النقض بمجلس الأمن الدولي لدى إصداره في ديسمبر/كانون الأول 2016 قرار 2334 الذي عدَّ المستوطنات مخالفة للقانون الدولي، ودأب الإسرائيليون على تذكير أنفسهم بهذه الحادثة مع بدء العد التنازلي لوصول بايدن للبيت الأبيض، لأنه لن يمنح «شيكات مفتوحة» للمستوطنين، بل قد يكبح جماحهم، ويمنعهم من المضي قدماً في مشاريعهم الاستيطانية، لأنها تشكل عقبة أمام استئناف متوقع للمفاوضات مع السلطة الفلسطينية.

لم يكن مفاجئاً أن تعلن الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية بعد الإعلان عن فوز بايدن عن بناء الآلاف من الوحدات الاستيطانية، استباقاً للتَّنصيب الرسمي لبايدن في البيت الأبيض، وربما نشهد المزيد من الخطوات الإسرائيلية المستقبلية قبل العشرين من يناير/كانون الثاني 2021، على صعيد البناء الاستيطاني، ومصادرة أراضي الفلسطينيين، وهدم منازلهم.

من المهم الإشارة إلى أن بايدن، الذي تابع طاقمه ردود الفعل الإسرائيلية كافة على فوزه، قد يكون معنياً في بادئ الأمر بتهدئة الإسرائيليين، ومحاولة تغيير الصورة النمطية المأخوذة عنه في أوساطهم، وبالتالي فقد يغض الطرف عن أي مشاريع استيطانية بالضفة الغربية، لا سيّما أوائل عهده الرئاسي، كي لا يدخل في صدام مبكر مع تل أبيب، وفي مسعى منه لكسب ود الإسرائيليين، رغبة بإعادتهم لطاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.

كما يبدو أن القراءة الاستشرافية لسلوك إدارة بايدن تجاه الملف الفلسطيني الإسرائيلي ترتبط بصورة وثيقة بإعلان بايدن يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 عن تعيين وزير خارجيته المقبل اليهودي «توني بلينكين»، ذي التاريخ الطويل من الدَّعم السياسي لـ«إسرائيل»، وتتركز رؤيته على أن التحالف معها أساسي للغاية، لكن الأكثر أهمية في رؤيته معارضته لربط المساعدات العسكرية والاقتصادية لـ«إسرائيل» بأي شروط أو عقوبات مرتبطة باحتلال الأراضي الفلسطينية.

وفي لقاء أمام عدد من النواب الديمقراطيين في 5 ديسمبر/كانون الأول 2020، شرح بلينكين أهم تفاصيل نهج بايدن تجاه ما سماه «النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي»، من حيث تبني حلّ الدولتين، ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بـ«إسرائيل»، والتزام الولايات المتحدة العميق بأمنها، ومنع الجانبين من القيام بإجراءات أحادية، ورفض خطة الضم، وتجديد دعم السلطة الفلسطينية.

رابعاً: المفاوضات مع الفلسطينيين

منذ توقف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في 2014 عقب المصالحة بين فتح وحماس، أخفقت إدارة الرئيس الأسبق أوباما بإعادة الجانبين لطاولة التفاوض، حتى جاء ترامب، وأغلق الباب كلياً أمام أي مفاوضات سياسية بينهما، بفرضه سياسات أحادية الجانب على أرض الواقع قطعت الطريق أمام أي استئناف لها، خصوصاً القرارات التي سبقت وأتبعت إعلان «صفقة القرن» في يناير/كانون الثاني 2020، كالاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وغض الطرف عن الاستيطان المحموم بالضفة الغربية.

يترقب الفلسطينيون من إدارة بايدن المقبلة طي صفحة ترامب، وسياسته المنحازة بالكلية للإسرائيليين، ويخشى هؤلاء أن يعيد انتخاب بايدن استنساخاً لعهد أوباما، وممارسة الضغوط عليهم للعودة لطاولة المفاوضات مع الفلسطينيين، وما يعنيه من تقديم «تنازلات» إسرائيلية، تشمل وقف الاستيطان، والامتناع عن مصادرة الأراضي، بعكس ما ساد عليه الوضع طوال السنوات الأربع الأخيرة.

لا يخفي بايدن ونائبته وفريقه إيمانهم بحل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مما يعني رفضاً ضمنياً لأي إجراءات اتخذها ترامب، صحيح أنه لا يعد الفلسطينيين بإقامة دولتهم، لكنه يؤمن بما دأب الأمريكان على تسميته بمصطلح «العملية»، بمعنى استمرار عجلة المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، وتشمل الاجتماعات الماراثونية، والصور التذكارية، والمؤتمرات الصحفية، دون أن تسفر عن نتيجة على الأرض، كما كان الوضع إبان الحقب الرئاسية للرؤساء باراك أوباما وجورج بوش الابن، وأواخر الولاية الرئاسية لكلينتون.

لا يتوقع الإسرائيليون من بايدن أن يعيد السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، لكنه في الوقت ذاته سيعيد افتتاح القنصلية الأمريكية في شرقي القدس للمعاملات الفلسطينية، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن، وإعادة دفع المساعدات المالية الأمريكية للأونروا والسلطة الفلسطينية.

الغريب أن السلطة الفلسطينية، على الأقل وفق مواقفها الرسمية، تدرك طبيعة السلوك المتوقع لبايدن، في إطاره الشكلي الخارجي، ومع ذلك فهي تعتقد أنه مهما تمادى في إجراءاته الشكلية والرمزية، دون وجود ترجمات عملية لها، أفضل بكثير من ترامب الذي قضى على كل أمل باستئناف عملية التسوية، وبدد كل فرص المفاوضات.

في الوقت ذاته، لن تكون طريق التوجه الأمريكي لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية معبدة، مع الائتلاف الحكومي الإسرائيلي بتشكيلته اليمينية الحالية، مما يعني انفراط عقده، والدعوة لانتخابات مبكرة، تعيد للواجهة حزب أزرق أبيض، وشركاءه من معسكر الوسط، أو إعادة تشكيل الائتلاف الحالي باستبعاد المكونات اليمينية المتطرفة، وإبقاءه مقتصراً على أحزاب الليكود، وأزرق أبيض، ويوجد مستقبل (يش عتيد).

في السياق ذاته، فإن قُرب تسلم بايدن لمهامه الرئاسية يترافق مع صدور دعوات يمينية إسرائيلية باستغلال ما تبقى من ولاية ترامب لتنفيذ خطة الضم لأجزاء واسعة من الضفة الغربية بعد أن تمّ تجميدها مؤقتاً، وليس إلغاؤها، عقب توقيع اتفاقيات التطبيع الخليجية الإسرائيلية.

في حال تمّ هذا الأمر، على الرغم من استبعاده، فإنه يعني استباقاً مبكراً لأي نوايا أمريكية من بايدن بجلب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على طاولة المفاوضات، وفي هذه الحالة لن يكون هناك شيء يتم التفاوض عليه، على الرغم من أن ذلك يحمل توجهاً إسرائيلياً بإفشال بايدن، وهذا سلوك، بالرغم من توقعه، لكنه يحمل إرهاصات قاسية على طبيعة العلاقة التي ستعيشها تل أبيب مع واشنطن في رئاستها الديمقراطية.

هذا لا يعني أن «إسرائيل» بتركيبتها الحالية ستسلم بالدعوات الأمريكية لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، مع أن خضوعها الكامل لهذه الإرادة، يعني انهياراً لائتلافها الحكومي، وذهاب الإسرائيليين لصناديق الاقتراع، وهو آخر ما يرغب به نتنياهو، لأن فرصه ليست مضمونة بالفوز، وفق آخر استطلاعات الرأي الإسرائيلية، وفي الوقت ذاته فإن رفضها السافر لها، يعني صداماً مبكراً مع بايدن، وهو آخر ما يتمناه نتنياهو، وهذه معضلة إسرائيلية جدية تشكل حيزاً كبيراً من الانشغال بهذه الآونة لإيجاد توافق مع واشنطن.

يُعوِّل الإسرائيليون على مجموعة من العوامل الأمريكية التي قد تحول بينهم وبين الوقوع في هذا الشَّرَك، وتتمثل في سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، مما قد يُعد كابحاً جاداً أمام بايدن، في حال حاول ممارسة ضغوطه على نتنياهو في المسار الفلسطيني، إضافة إلى انشغال الإدارة الديمقراطية الجديدة بملفات داخلية أكثر حرجاً، وعلى رأسها مواجهة كورونا، وآثارها الاقتصادية الكارثية، بجانب التصدي للنفوذ الصيني حول العالم، والتعامل مع الملف النووي الإيراني.

يؤكد ما تقدم من معطيات، أن استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لن يكون بهذه السهولة، في ضوء المواقف الأمريكية والإسرائيلية والفلسطينية المتعارضة، لكنه لا يعني أن تفشل إدارة بايدن بأول خطواتها في هذا الصراع المتواصل، مما قد يجعلها تذهب باتجاه تفكيك الملفات العالقة فيه، تحضيراً لتحقيق الهدف الأهم وهو العودة لطاولة المفاوضات.

أولى الملفات التي تبدو إدارة بايدن ماضية باتجاهها مع الفلسطينيين والإسرائيليين عودتهما للتنسيق الأمني المتوقف منذ مايو/أيار 2020، وهو مطلب إسرائيلي حقيقي وجدي، حيث تتهم الأوساط الأمنية الإسرائيلية مستواها السياسي الحاكم بالتسبب بدفع السلطة الفلسطينية لاتخاذ قرارها الخطير بوقف التنسيق، الذي شكل للأمن الإسرائيلي إنجازاً كبيراً طوال السنوات السابقة، وبفضله حقق ما يصبو إليه من ملاحقة لقوى المقاومة، وتجفيف منابعها، واستئصال شأفتها، في الضفة الغربية بشكل خاص.

لا تبدي السلطة الفلسطينية من جهتها رفضاً لاستئناف التنسيق الأمني مع «إسرائيل»، وحين يأتيها طلب من الإدارة الأمريكية الجديدة التي قد تطلق الوعود الإيجابية باتجاهها لجمع الضباط الأمنيين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت سقف واحد، فلن تجد مبرراً للرفض، خشية أن يسبب ذلك استمرارًا للقطيعة الفلسطينية الأمريكية التي بدأت مع قدوم ترامب، ويأمل الفلسطينيون أن يضعوا حداً لهذه القطيعة، بالاستجابة للطلب الأمريكي باستئناف التنسيق الأمني.

جاء لافتاً أنه في أثناء كتابة هذه السطور أعلنت السلطة الفلسطينية عن استئناف التنسيق الأمني مع «إسرائيل»، في مسعى واضح تحضيراً لقدوم بايدن. ولعل هذه الخطوة سبقها تواصل حثيث مع الإدارة الأمريكية الحالية، واتصالات مع الفريق الرئاسي المقبل، دون توفر معلومات دقيقة حول ذلك، لكن توقيت استئناف التنسيق الأمني مع بدء التحضيرات الأمريكية لنقل مقاليد الأمور إلى بايدن، لا يبدو أمراً عفوياً.

ثاني الملفات الفلسطينية الإسرائيلية، التي قد تقدم الإدارة الأمريكية الجديدة على حلها، يتمثل في عودة السلطة الفلسطينية لاستلام أموال المقاصة من الحكومة الإسرائيلية، مع أن الأخيرة دأبت على مطالبة السلطة باستلام هذه الأموال، لا سيّما في ظلّ أزمتها المالية الخانقة، مما قد يشكل للإدارة الأمريكية لحظة مناسبة لتحقيق إنجاز لها أمام الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو ما تمّ فعلاً في 2 ديسمبر/كانون الأول 2020، مما عُدَّ بادرة إيجابية من قبل «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية تجاه إدارة بايدن المقبلة.

ثالث الملفات التي قد تضطلع بها الإدارة الأمريكية الجديدة، يتعلق بالمصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، التي بدأت لتوها منذ سبتمبر/أيلول عقب التوقيع على اتفاقات التطبيع العربية الإسرائيلية، وهو ما وجد رفضاً إسرائيلياً، واتهاماً للسلطة الفلسطينية باللحاق بركب المعسكر المعادي لأمريكا في المنطقة، لا سيّما وأن اجتماعات المصالحة حصلت في بيروت وإسطنبول والدوحة، وبقيت العواصم المتحالفة مع أمريكا، والقريبة من «إسرائيل»، بعيدة عن هذه اللقاءات، وهي مصر والسعودية والإمارات.

لم يكن عفوياً أن يحصل تناسب عكسي بين إعلان نتائج الانتخابات الأمريكية وتراجع السلطة الفلسطينية في المصالحة، وعدم استكمالها، مما يدفع للاعتقاد بأن الأمر مرده رغبة السلطة بانتظار دخول بايدن للبيت الأبيض، وفحص قدرته على جلب «إسرائيل» والفلسطينيين لطاولة التفاوض، فإن نجح في ذلك، فمن المتوقع أن تدير ظهرها لحماس، خصوصاً وأنها ربما عادت تصالحت معها من باب التلويح باستخدام ورقتها تجاه «إسرائيل» وأمريكا والدول العربية، وليس بالضرورة توجهاً جدياً بطي صفحة الانقسام.

خامساً: التطبيع العربي الإسرائيلي

يدين الإسرائيليون بالفضل لإدارة ترامب في إحداث الاختراق الإسرائيلي للعواصم العربية، والخليجية تحديداً، لا سيّما عقب اتفاقات التطبيع الإسرائيلية مع الإمارات والبحرين والسودان، والأخطر أن هذا التطبيع حصل بالقفز عن القضية الفلسطينية، والنظر للفلسطينيين على أنهم ليسوا ذي صلة بالتحركات السياسية الجارية في المنطقة، في تجاوز واضح لـ«المبادرة العربية للسلام» لسنة 2002، التي اشترطت أي تطبيع عربي إسرائيلي بتحقيق حلّ عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

دفعت اتفاقيات التطبيع العربية الإسرائيلية الفلسطينيين إلى الزاوية، وأظهرتهم مهمشين ومغيبين عما تشهده المنطقة، وفي الوقت ذاته منحت واشنطن وتل أبيب إنجازات سياسية بعيدة المدى، وهو بالفعل ما سعت إليه الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية على حدّ سواء، على الرغم من أن هذه الاتفاقات كان لها أغراض داخلية تخص ترامب ونتنياهو، وغلب عليها الطعم الانتخابي لكليهما معاً، إضافة إلى الأهداف الخارجية الخاصة بإقامة تحالفات جديدة في المنطقة.

من المتوقع أن يواصل بايدن تحقيق التطلعات الإسرائيلية بإحداث المزيد من الاختراقات في الساحات العربية، ليس بالضرورة انطلاقاً من التطلعات الترامبية ذاتها، بمعنى أكثر وضوحاً، فإن بايدن سيواصل الدفع للأمام لتوقيع اتفاقيات التطبيع مع عدد إضافي من العواصم العربية والخليجية مع «إسرائيل»، مع إبقاء الفلسطينيين في المشهد السياسي، من خلال إعادتهم لطاولة المفاوضات مع «إسرائيل»، وفي هذه الحالة تأمل واشنطن «الديمقراطية» أن يحظى مسار التطبيع بموافقة فلسطينية، وهو تطور لا يشكل بُشرى لـ«إسرائيل».

بالتزامن مع تحضيرات بايدن لدخول البيت الأبيض شهدت مدينة نيوم السعودية الساحلية لقاء سرياً جمع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ووزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، وعدَّت الأوساط الإسرائيلية أن الاجتماع يحمل رسالة إلى بايدن بأن العلاقات بين تل أبيب والرياض قوية إلى حدّ ألا تؤثر فيها أي تراجع في العلاقة مع واشنطن على خلفية انتقاداتها لسجل حقوق الإنسان للمملكة.

سادساً: ترميم العلاقة الإسرائيلية مع الحزب الديمقراطي

كثيرة هي إنجازات الإسرائيليين في سنوات ترامب الأربع، وبات لديهم اعتقاد راسخ بأنه حرق معهم سنوات ضوئية في حصول المزيد من الامتيازات الداخلية والخارجية، لكن ذلك لا يلغي أنها منيت بخسائر وانتكاسات كبيرة، أهمها تراجع علاقتها بالحزب الديمقراطي الأمريكي الذي يترأسه بايدن، وهو الضيف الثقيل على كثير من الأوساط الإسرائيلية، التي ألقت بكل بيضها في سلة الجمهوريين عموماً، والمسيحيين الإنجيليين خصوصاً، ممن أحكموا سيطرتهم على إدارة ترامب.

صدرت في الشهور والسنوات الأخيرة العديد من الدعوات الإسرائيلية التي حذرت من الانسياق الكامل مع متطرفي الحزب الجمهوري الأمريكي، مما أفقدهم الكثير من مواقع النفوذ في الساحة الأمريكية، دون أن تتحسب لفرضية هزيمة ترامب الجمهوري، وفوز بايدن الديمقراطي.

مع أن السلوك الإسرائيلي دفع بأصوات كبيرة في الحزب الديمقراطي لاعتبار «إسرائيل» اليمينية خطراً على التحالف التاريخي الوثيق بين واشنطن وتل أبيب، وربما آن الأوان لتصحيح هذا الخطأ بإعادة الأمور إلى نصابها من خلال سياسة أمريكية شرق أوسطية عموماً، وتجاه «إسرائيل» خصوصاً، «أكثر توازناً»، بحسب رأيهم، وبعكس سياسة ترامب المندفعة.

تنامى القلق الإسرائيلي من توجهات الحزب الديموقراطي مع وجود أعضاء عرب ومسلمين ويساريين، يرون في «إسرائيل» دولة احتلال، ويعدون الفلسطينيين أصحاب حقوق مشروعة، حتى أن تناسباً عكسياً شهدته أروقة الحزب الديمقراطي لصالحهم، كلما زادت السياسة الجمهورية انحيازاً لـ«إسرائيل»، التي فقدت مواقع متقدمة في الحزب الذي يحظى بأصوات معظم يهود الولايات المتحدة، ممن صوتوا تلقائياً لبايدن.

اليوم مع وصول بايدن للبيت الأبيض، واستقطاب أعضاء الإدارتين الديمقراطيتين السابقتين من عهدي أوباما وكلينتون، فقد تواجه «إسرائيل» صعوبة في التأقلم معهم، لا سيّما إن بقيت محكومة بالتشكيلة اليمينية القائمة حالياً ذاتها.

الخلاصة

ما زال أمام الإسرائيليين نحو شهر بانتظار إجراءات التسلم والتسليم في البيت الأبيض، ودخول بايدن لمكتبه البيضاوي، مما يجعل منها مدة زمنية كافية لبلورة سياسة إسرائيلية واضحة المعالم باتجاه واشنطن، على الرغم من أن مثل هذه السياسة تعترضها جملة من العقبات والعوائق لعل أهمها عدم استقرار الساحة الحزبية والسياسية في «إسرائيل»، وإمكانية حدوث تغيرات مفاجئة فيها، لا سيّما على صعيد إمكانية انفراط عقد الائتلاف الحكومي، والدعوة الى انتخابات مبكرة.

في مثل هذه الحالة، قد تزداد المدة الزمنية ذات الشهرين الكاملين، وتضاف إليها شهور عديدة أخرى، سواء بانتظار اتضاح الخريطة الحزبية والسياسية الإسرائيلية المقبلة، أو معرفة هوية رئيس الحكومة القادم.

على الصعيد الأمريكي الداخلي، يعتقد الإسرائيليون أن أجندة بايدن الرئاسية متخمة بالملفات التي تحتاج حلولاً عاجلة، سواء مواجهة كورونا، أم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، أم التوتر مع الصين، أم التعامل مع الملف النووي الإيراني، مما يجعل ترتيب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يأتي في مرحلة متأخرة، وهو خبر جيد للإسرائيليين، الذين سيسعون بكل ما أوتوا من قوة لترحيل مثل هذا النزاع إلى إشعار آخر، إلا إن جاءت حكومة جديدة تظهر انسجاماً مع توجهات إدارة بايدن المقبلة تجاه حلّ النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.