كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ وأُمرُّ كالضوءِ المراوغِ في المدَى حين الخشوعْ أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ … أنا ما بدأتُ لأنتهي أنا لمْ أزلْ في طـَوْرِ تكوينِ الأنوثةِ بينَ جدرانِ الرَّحِمْ أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ مخبوءةٌ بينَ العطورِ المُثقلاتِ بنشوةِ الوجدِ العَفيّْ.. بينَ التشظِّي عندَ مُفترقْ الجنونِ وعندَ وشوشةِ البَخورِ لمَنْ تمخَّضَ حُلمُها وعدًا حَيـِيّْ خمريةُ النَّبضاتِ تابتْ جبهتي مِنْ قبلِ قبل التنشئةْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** تاريخُ أشواقي أنا لا ينتهي.. متجدِّدٌ مهما أطاحَ بهِ الوهنْ خمسونَ حُزنًا أفحموا غيري أنا خمسون حُزنًا ضد أحوالِ الزمنْ لمْ أُغلقِ الأبوابَ في وجهِ البراءةِ حين جاءتْ منْ حدودٍ شائكةْ… أنا للحدودِ مباركةْ …. أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ .. وأكسِرُ الصَّمتَ الخجولْ وأنحني لأخيطَ منهُ سوسناتٍ يانعاتٍ في الحقولْ قلقي لِحافي إنْ استطالتْ تحتهُ قدمايَ أيضًا يستطيلْ ويفكُّ قيدي عقدةَ الزمن البخيلْ تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلاً لا أميلْ وبُجعبتي خمسونَ وهمًا صغتـُها أعطيتـُها اسمًا واحدًا المستحيلْ ناريةُ الخطواتِ أسكُنُ سدرةً مسفوكةَ الدَّمِ واكتشفتُ اليومَ أنـِّي السَّافكةْ تتشابهُ الفتياتُ في بُستانها لكنني سأظلُ وحدي الواثقةْ… وأظلُ وحدي الرائقةْ وأظلُ نهبًا للظروفِ الطارئةْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ.. أتشمَّمُ الحُزنَ البهيّْ أرتـِّبُ الوجعَ الذكيّْ… أُعدُّ نفسي للغيابِ العبقريّْ أنا لا أمر كعابرةْ… أنا ماكرةْ أنا أجمعُ الآهاتِ من تحت النوافذِ كي أُشـَبِّكُها حُليا مزهرةْ أتسوَّلُ الفقرَ المُدَمَّى كَيْ أُحيلَ رمادَهُ نغمًا نديّْ وأزرعُ الأفقَ انتصارًا سرمديّْ وأغلفُ الهرمَ الكبيرَ بأمنياتي الهادئةْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** أنا لا تُشابهُني امرأةْ أنا ظامئةْ لجميعِ أنهارِ الحياةِ… لكل أوديةِ الشتاتِ… إلى الجروحِ الناتئةْ ثوبي بياضٌ… ليس يخدشهُ اختراقُ العابرينَ وإنْ تمكَّنَ شيخُهمْ اليـُتـْمُ يشبهُني أنا رغمَ ازدحامٍ يستلذُّ بوحدتي المُستمرأةْ أنا للطلاسمِ قارئةْ أستكشفُ الآتي إليَّ فأزُمُّ كلَّ حقائبي وأحُطُّ فيها كلَّ آلامي لكيْ تُدمِي يديّْ وأغلـِّقُ الأبوابَ دوني أكتمُ الألقَ الفتيّْ سَلِمتْ يدا حُزني الذي في لحظةِ الترحالِ عرَّفني عليّْ أنا أكتبُ العبراتِ حتى لوْ بدتْ متواطئةْ وأجيءُ بالبرقِ العفيِّ مفاجئةْ.. أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** العزمُ يعشقـُني أنا.. فيحُطـُّني في أولِ السَّطرِ الطويلِ الأسئلةْ وعلامةُ استفهامِ تقفزُ لا تملُ المهزلةْ وهزائمي تقفُ انتظارًا في مطارِ أنوثتي (ماراثون) هناكَ علَى موائدِ رحلتي .. ماراثون قويّْ.. بين انشطاري واحتفاظي بالشموخِ تطلعًا برماليَ المتحركةْ وعواصفي تمتدُ تقصفُ خيمتِي المتهالكةْ فتشـُدُ أزري أزمتي وتشـُدُ أزري قوَّتي ملفوفةً بندَى معاركِ رقـَّتي مرآةُ قلبي ترمُقُ الكُحلَ الـ يُكَملَ زينَتي وتمدُّ لي قلمًا لأرسمَ حُمرةً في وجنَتي أسفي لها يرتاحُ مُتكئًا على طرفِ احتضارِ أنوثتي فتهُبُ كلُ حضارتي ويهبُ تاريخي المُسجَّى في كهوفِ وسادتي ومُدافعًا عنِّي يمرُّ على الدُروبِ الشائكةْ ويلُفـُّني بحدائقِ الصَّبرِ الوفيّْ وأعودُ يأكُلُني الضَّبابُ وما قبلتُ التجزئةْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** أنا يا حبيبي لستُ أجلسُ قاعدةْ… أنا صاعدةْ أتنفسُ النفسَ الصَّعودَ بأنفكَ الــ يُحيي مَمالكَ هالكةْ هو صالحٌ للشربِ حتى أنني استخدمتُه ماءَ الوضوءِ بهِ أنا متوضئةْ أنا قهوتي مِنْ لونِ صوتكَ في الصباحِ البابليّْ خُبزي كذلكَ حكمةٌ هجرتْ نظامَ العقلِ حتى أُرهقتْ فتدحرجَتْ قـُبَلاً عليّْ أنا لا أجيدُ العزفَ لكنْ كم عزفتـُكَ يا حبيبي في القصيدِ وفي القصصْ أعطيتـُكَ الدورَ البطولةَ، والأماكنَ، والزمانَ، وكل كل حكايتي أصبحتَ أنتَ قضيَّتي وبكَ احترقتُ وذقتُ طعناتِ الغرامِ الفاتكةْ صُغتُ احتلالَكَ لي دهورًا رغم أنفَ الواطئةْ وختمتُهُ بمفاوضاتٍ تستبيحُ مبادئَهْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ *** أنا مَنْ تزيَّنَ سيفُها بالنُبلِ في وقتِ الحِممْ فتهندستْ فيَّ الخناجرُ لمْ تدعْ حتى القَدَمْ نامتْ خيولـُكـَ في جزيرتي التي كالدَّهرِ تسبحُ في القِدَمْ وتزامنتْ مع كل سحري والحبور وثورتي صدَّقتُ بي أكذوبتي ووقفتَ ترقصُ عندَ نهري لا تملُّ مرافئَـهْ.. وأكلتَ وردي نيئـًا مِنْ نيئَـةْ … عشتارُ تقسمُ إنني في الخصبِ كنتُ البادئةْ. أرضي يليقُ بها حضورُك يا عبيرَ ملائكةْ.. يا روعة ً تهدي إليَّ سنابلاً بل أوكسيجينـًا ينقذُ الصمتَ المديدْ كيمياءُ ذاتي جازفتْ وتعلقتْ بدبيبِ صمتكَ بينما هوَ لا يريدْ حسبي لقاؤكَ لحظةً أو ما يزيدْ يا سيدًا يمشي بقلبي مشيةَ العبقِ العنيدْ أنا منكَ أُخلقُ من جديدْ أبديةُ الآهاتِ تمطرُني شموسُكَ قهقهاتٍ ترفعُ الوجعَ المُدمَّى مِنْ سجلاتِ الزمنْ أنا فيكَ أقسمُ لا مِحَنْ أنا فلسفاتٌ مارقاتٌ في ذُرَى أنقَى نشيدْ أخطُو بكلِّ العنفوانِ على جسورِ التهلُكةْ كي أزرعنـَّك سهرةً ورديةً عُمْقَ الرِّئةْ مصباحيَ المفتوحُ شباكًا عليكَ وإن مضَى دهرٌ فلا لنْ تُطفئَهْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ..

تفاجئنا الشاعرة «شريفة السيد» بقصيدة جريئة، وعنوان أكثر جرأة، لتجعل من عين كل أنثى ألف عين وعين، لتتأمل نبضها الصارخ، وتستكشف حسها القوي بذاتها، وتتحسس بوعي أو بدون وعي بواعث الصوت المجلجل في ترانيم والهة عاشقة، ثم تنظر كل أنثى إلى نفسها لتعيد اكتشاف ذاتها من جديد. إنه صوت خارج من أعماق النفس الإنسانية مطلقا قذائفه المدوية في وجه الزمن، ذلك الذي لا يلين لأحد، مهما بلغت سطوتها وجبروتها، إن الزمن وحده لقادر على تشظي الإنسان وتناثره.

«ثلاث كلمات تشكل بنية العتبة النصية، أنا .. لا تشابهني.. امرأة»

فالأنا فضلة، يمكن الاستغناء عنها في العنوان، يؤدي باقي الجملة المعنى دون نقصان؛ لأن لغة الشعر تعتمد التكثيف والتركيز وبتر الزائد من الكلام، والشاعرة تعي ذلك بوضوح، ومع ذلك فإن وجودها بادية في صدر الجملة يشي بالكثير من الدلالات النابضة والمعبرة، فقد تكررت ظاهرة الأنا أكثر من عشرين مرة، ومثلها مضمرة، ومثلهما في تاء الفاعل وياء المتكلم، هذا الحشد والزخم للضمير بمشتقاته المختلفة إيذان بإعلان الاعتداد بالذات وتضخمها بشكل لافت ومثير.

ربما توقع المتلقي أنه إزاء امرأة تجأر من تضخم ذاتها وامتلائها، ويؤيد هذا التوقع عبارات: «أنا ظامئة»، و«أنا ماكرة»، و«أنا داهية»، وغيرها من العبارات الدالة، ولكنها في حقيقة الأمر أشبه ما تكون بقارعة أغطية الأواني الفارغة لتوهم نفسها أنها تعيش في جلبة وصخب، وهي أشد ما تكون إلى حالة السكون والهدوء والسكينة، فهي تعيش الفزع والخوف إزاء طي السنوات تلو الأخرى حتى وصلت إلى الخمسين (حزنا) عندئذ تستشعر شمس أنوثتها تطويها الذبول والانكماش فتتشبث بما بقي لها من أنوثة ودلال، وتصارع من هو أقوى منها في محاولة يائسة لاسترجاع ما مضى. وليس هناك أقوى من الزمن وعثراته المحتملة فتأخذ في الدفاع عن نفسها ضد هجوم محتمل.

والمضارع (لا تشابهني) بصيغة النفي الدالة على عدم المماثلة والشبيه، وكان من الممكن هنا أن تستبدل بالصيغة المكتوبة صيغة أخرى تؤدي المعنى مثل (لا تشبهني)، ولكن الواقع أن الصيغة المكتوبة في العتبة النصية أكثر دلالة وعمقا من أي صيغة أخرى لما فيها من مفاعلة ومشاركة وإطالة حرف الألف، والنبر، وكأنها تريد أن تنبه القارئ باستحالة مشابهتها بامرأة أخرى، فهي فقط تدري من تكون، وهي فقط من تقدر ذاتها احتراما لذاتها.

والعنوان هو جزء أصيل من النص، وليس هامشا منعزلا؛ فالمرأة المشار إليها في العنوان في الحقيقة تتأرجح بين الحقيقة الذاتية لها، وحقيقة الوطن الكبير مصر، وهذا يسوغ لها المباهاة والتيه والزهو والخيلاء بألا امرأة أخرى تشبهها. إنها حقا لا تشابهها امرأة!

واستنادا إلى ما سبق فإن الذات الشاعرة توظف طاقتها الفنية في محاولة استقطاب المتلقي من خلال كسر أفق توقعه، فهي تدرك أن بنية استجابة القارئ إنما تتم عبر خلخلة ما ورثه من إرث قديم يُعْنَى بمكنونات النساء اللائي يجأرن بالحب، ويبُحْن بعواطفهن فتكاد تصدم ذلك القارئ المحمّل بذاكرة الماضي عبر سياقات متناقضة، تميل تارة إلى البوح بالعشق، والتشبث برونق الحياة، وتارة أخرى إلى الهلع والرعب من آثار الزمن وتبعاته:

تاريخُ أشواقي أنا لا ينتهي.. متجدِّدٌ مهما أطاحَ بهِ الوهنْ خمسونَ حُزنًا أفحموا غيري أنا خمسون حُزنًا ضد أحوالِ الزمنْ

إن الذات الشاعرة هنا تدرك أهمية «القارئ الضمني» الذي تفترضه دوما أثناء عملية الخلق والإبداع، وهو أحد التأثيرات المركوزة في حناياها الخفية كعنصر افتراضي قائم، وهو بدوره يخلق شبكة من البنى المثيرة للاستجابة، وهو غير محدد في النص، وربما أشارت إليه إشارة عابرة عامدة في قولها: تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلا لا أميلْ.. فقولها (تخيلوا) يفترض ذلك القارئ الضمني بقوة؛ لخلق شيء من التوتر بين النص المقروء أو المسموع وذلك القارئ الضمني، وهذا التوتر الناشئ ينبه القارئ ويطرق سمعه، وبصره، وسائر حواسه لإقامة علاقة ما بينه وبين النص، هذه العلاقة تخلق نوعا من المشاركة الفاعلة، ولذا تتوجه إليه عامدة مخاطبة إياه أنها لا تميل إلى مجرد الحلم في المساء! فأي يأس قد أصابها إلى الدرجة التي تكره فيها الأحلام؟

وحتى ينشأ تفاعل جاد بين النص والمتلقي تتكئ الشاعرة على تداعيات حرة في صورها الشعرية، وهي صور سلبية غالبا، يكفي أن تقف على أي مقطع من مقاطع القصيدة لترصد بنفسك تداعي الصور الشعرية بشكل متوال ولافت، يبدو في ظاهرها التناقض والتوتر والقلق إزاء مشاعرها القلقة. وتأتي هذه الصور متتابعة، محدثة جلجلة سمعية وبصرية قوية تنفذ من خلالها إلى المتلقي لتنبه حواسه، وتنشد تفاعله.

تستمد الشاعرة صورها الشعرية من الفضاء الكوني، وكل ما يحيط بها، في لغة غير تقريرية وغير مباشرة، على الرغم من السهولة البادية للعناصر المكونة لها، وهذا ما جعلها تنأى عن الغموض والتعمية، وتجنح إلى ألفاظ وتراكيب أكثر سهولة ويسرا، ولعلها بذلك تحاول استقطاب متلقيها إلى متابعتها على نطاق أوسع، ولكنها أحيانا تميل إلى الصور المركبة، لا الصور البسيطة، وذلك لبثها طاقة شعورية أكبر ابتغاء استمالة القارئ أيضا .. فتأمل قولها:

أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ.. أتشمَّمُ الحُزنَ البهيّْ أرتـِّبُ الوجعَ الذكيّْ… أُعدُّ نفسي للغيابِ العبقريّْ أنا لا أمر كعابرةْ.. أنا ماكرةْ أنا أجمعُ الآهاتِ من تحت النوافذِ كي أُشـَبِّكُها حُليا مزهرةْ أتسوَّلُ الفقرَ المُدَمَّى كَيْ أُحيلَ رمادَهُ نغمًا نديّْ وأزرعُ الأفقَ انتصارًا سرمديّْ وأغلفُ الهرمَ الكبيرَ بأمنياتي الهادئةْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ

إن قراءة السطور الشعرية بشكل تتابعي كرسم خط مستقيم، لا اعوجاج فيه، فما إن توشك أن تنتهي من السطر الأفقي حتى يواجهك خط رأسي يتقاطع مع ذلك الخط الأفقي. في محاولة إقامة رسم هندسي منمق متواز مع إنتاج الدلالة المطلوبة. ففي السطر الأول تشير الدلالة المبتغاة من بدايته إلى أنها لا تمر على الأمور مرور الكرام دون أن يعلق بذهنها تفاصيل قد تبدو لا قيمة لها بيد أنها من الأهمية القصوى بمكان، ولذا فإنها تهتم بتلك التفاصيل الدقيقة ثم تنسج من دقائقها أكواما من الأمنيات والتكهنات والإرهاصات تتسلح بها جميعا، فهي أسلحة قد تبدو دقيقة في جوهرها لكنها ثقيلة في مغزاها، ولذا تقول بما يشبه كسرا لأفق توقع القارئ (أنا داهية) تلك الجملة بسيطة المبنى قوية المعنى.

ثم تتواصل بجمل تداولية سريعة لتؤكد أنها على قدر كبير من قوة الملاحظة لأدق التفاصيل التي تستهدف رصد الحركات والسكنات في الحياة المعيشة لتدرع بها ضد وخزات الزمن القاسي العنيد، فما إن تقرأ بطريقة أفقية السطر الثاني والثالث وبداية الرابع، وهي جميعا جمل فعلية (أتشمم .. أرتب .. أعد .. ) لترسم صورة في خيال المتلقي بأنها ليست بريئة من هذه التفاصيل الدقيقة بل هي ماكرة، والمكر هنا دليل ضعف أنثوي باد في تكرار ضمير المتكلم .. وكأن الذات هنا تعاني كثيرا من وهنها أمام زمن قوي، فتعطيك من الخطوط الأفقية والرأسية قناعا واقيا ضد عثراته القاسية. هي حقا لا تشابهها امرأة!!

يلعب المضارع في تلك اللوحة الفنية دورا جوهريا في تشكيل الصورة التي تبدو بسيطة سهلة، لكنها صورة معقدة مركبة، فالمضارع هنا مركز الصورة ومنطلقها الأساس (أمر.. أتشمم.. أرتب.. أعد.. أجمع.. أشبك.. أتسول.. أحيل.. أزرع.. أغلف.. ) عشرة أفعال مضارعة تبدأ بالمرور وتنتهي بالتغليف مرورا بالتشمم والترتيب والعد والتسول والإحالة والزراعة.. حتى تصل إلى تغليف الهرم الكبير بالأمنيات الهادئة.. وهذه الأفعال العشرة في معظمها أفعال ذات تضعيف، أي بها قدر كبير من الجهد والمشقة، وأن الذات هنا تكشف عن معاناة شديدة في إنتاج دلالاتها، وتكوين صورها.

فإذا دل المضارع على الحاضر أو المستقبل القريب أو البعيد فإنها سرعان ما تحوله إلى الماضي بعبارة واحدة هي العنوان ومركز ثقل النص ونتيجته المبتغاة: أنا لا تشابهني امرأة .. فهذه العبارة المركزة تتخلل النص من بدايته ووسطه ونهايته، فهي العلة والنتيجة معا .. فالذات الشاعرة هنا تدرك وهنها الأنثوي وتتشبث باللغة والصورة في محاولة الدفاع عن النفس حتى لو لم يكن ثمة هجوم حقيقي.. إنها الذات القلقة دائما، المتوترة، التي تخشى هجوما قويا فتحاول التصدي له بما أوتيت من ملكة فريدة متخذة من الاعتماد على المضارع وتماهيه عبر

الأزمنة المختلفة سلاحا تصد به هجوما محتملا. فمن منا يملك هذا القدر من الوعي ؟ إنها حقا لا تشابهها امرأة!!

لا يبوح النص الشريفي بكل تفاصيله رغم سهولة ألفاظه ومعانيه، بل يترك للقارئ فراغات مسكوتا عنها، ويتجه المتلقي باستبصاره لرتق هذه الفراغات وملئها، عبر إشارات نصية يتلقفها القارئ (غير العادي) بكفاءته وقدرته على تجميع الإشارات النصية وإعادة قراءة النص فيزداد بريقا ولمعانا نتيجة هذه المحاولة المتفاعلة، وربما استكشف القارئ أشياء ضمنية لم تبح لغة النص بها، عندئذ يتم التواصل بين القارئ والنص بشكل تفاعلي.

إن عملية «التواصل في الأدب لا يديرها ولا يقننها قانون، بل تفاعل بين الصريح والضمني، بين البوح والخفاء، فما يتم إخفاؤه يدفع القارئ إلى الفعل، إلا أن هذا التفاعل يحكمه ما يباح به، ويخضع الصريح بدوره للتحول، حين يخرج الضمني إلى النور». فإذا حاولنا أن ندرك الفراغ الذي تركه النص في قولها (لمْ أُغلقِ الأبوابَ في وجهِ البراءةِ حين جاءتْ منْ حدودٍ شائكةْ…) أو قولها (ثوبي بياضٌ… ليس يخدشهُ اختراقُ العابرينَ وإنْ تمكَّنَ شيخُهمْ ) فإننا بلا شك أمام تأويلات متنوعة تلهم القارئ بإشارات وعلامات تفسيرية ليزداد إحساسه اتقادا وانفعالا بالمسكوت عنه، ولعل الشاعرة في بعض مضامين النص وانحاءاته مالت إلى الرمزية، نتيجة توحدها واتحادها بالوطن الأم، فغدت الأنثى الصغيرة أما لكل المصريين باعتبارها مصر نفسها، وهنا يصير المحبوب وطنا بأكمله، أرضا، ومواطنا، وتراثا، وعبقرية خالدة.

تأمل معي هذا المقطع:

أنا يا حبيبي لستُ أجلسُ قاعدةْ… أنا صاعدةْ أتنفسُ النفسَ الصَّعودَ بأنفكَ الــ يُحيي مَمالكَ هالكةْ هو صالحٌ للشربِ حتى أنني استخدمتُه ماءَ الوضوءِ بهِ أنا متوضئةْ أنا قهوتي مِنْ لونِ صوتكَ في الصباحِ البابليّْ خُبزي كذلكَ حكمةٌ هجرتْ نظامَ العقلِ حتى أُرهقتْ فتدحرجَتْ قـُبَلاً عليّْ أنا لا أجيدُ العزفَ لكنْ كم عزفتـُكَ يا حبيبي في القصيدِ وفي القصصْ أعطيتـُكَ الدورَ البطولةَ، والأماكنَ، والزمانَ، وكل كل حكايتي أصبحتَ أنتَ قضيَّتي وبكَ احترقتُ وذقتُ طعناتِ الغرامِ الفاتكةْ صُغتُ احتلالَكَ لي دهورًا رغم أنف الواطئةْ وختمتُهُ بمفاوضاتٍ تستبيحُ مبادئَهْ أنا لا تُشابهُني امرأةْ

ففي السطر الأول تشير الشاعرة إلى الهيئة التي تتطلع بها إلى الأشياء، فهي إن جلست فإنها لا تجلس قاعدة .. بل صاعدة .. وهنا يبدأ دور المتلقي في محاولة منه لرتق الفراغ الكبير الذي تركته الشاعرة لتأويل الجلوس والقعود ثم الصعود .. وهنا فراغ ضمني تركه النص الشعري للقارئ استكمالا لحالة من الوثب والارتقاء إلى الأعلى والتطلع إلى دقائق الأشياء من عل، ومحاولة رؤيتها بعين الإلهام والترفع، وليس من اعتداد بالذات كما يتوهم من التركيز على الضمير الصريح والضمني في السطر الأول إذ تردد هذا الضمير خمس مرات في مساحة ضيقة.

إنها كما قلنا آنفا تحاول الدفاع عن أي هجوم محتمل من حبيب أو صديق أو عدو إذ سرعان ما تغير الضمير مباشرة من المتكلم إلى المخاطب في باقي المقطع، حتى إنه احتل المقطع كله حضورا نافذا، فمرة مشموم ومرة مسموع، ومرة مذاق، .. وفيها تظهر الأنثى على خلاف المتوقع فإنها قد أنزلته منها منزلة الروح التي لا تغادر الجسد، فهي تتنفسه عشقا، وتتذوقه مذاقا، وأصبحت لا ترى الأشياء إلا بعينه، ولا تشم إلا بأنفه، ولا تتذوق إلا بلسانه، ولا تعيش إلا به، ولكنه غدر بها، وهنا يأتي دور المتلقي ليضيف إلى النص نصا آخر موازيا للنص الأصلي، فعليه تخيل العلاقة أولا، ثم تخيل طبيعة الغدر ثانيا، ثم تخيل المفاوضات التي تمت لاستباحة المبادئ، فكل هذا يقوم به المتلقي انطلاقا مما باح به النص الأصلى، وعليه أن يضيف ويفسر ويئول ويعايش التجربة «لأجل هذا يتوقع المولف قارئا نموذجا يستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف ويستطيع أن يتحرك تأويليا كما تحرك المؤلف».

يبدو أن سهولة ألفاظ القصيدة كانت مدعاة لتأمل اللمحة اللغوية في اعتمادها على بعض الألفاظ غير العربية وما في ذلك من مأخذ نقدي لابد أن نشير إليه، فاللغة العربية قادرة على استيعاب جميع المعاني الدالة على الحالة، وما من اضطرار إلى امتطاء ألفاظ غير عربية، ولكن يبدو أنها تقترب بذلك من الحياة العادية التي يعيشها المصريون في الواقع، فربما أرادت نقل الواقع من خلال اللغة أو أنها اضطرت إلى ذلك لتقترب من المتلقي بشكل لافت وواضح، إنها أرادت اتساع رقعة متلقيها عن طريق استخدام ألفاظ متداولة في الواقع المعيش.

الشعر عند شريفة السيد هو الحياة، فلم أعهد امرأة تتنفس شعرا في حركاتها وسكناتها مثلها، فالشعر لديها ملاذ ومأوى ترتمي في عالمه المحبب ناسجة من خلاله عالمها الحقيقي والفني في آن واحد، أعطته روحها وربما جسدها فأعطاها شطحاته ومقدساته وخلجاته وأسراره وجواهره وظواهره، ولم يبخل عليها لحظة من اللحظات، فاستثمرته خير استثمار وامتطت جواده سالكة دروبه ووديانه حتى وصلت معه إلى أن تناديه قائمة أو قاعدة أو جالسة أو نائمة فيأتيها طائعا خافضا جناحه تذللا وتضرعا.

لكن عين النقاد لم تنصفها وضنت عليها بدراسات جادة تبرز عالمها الفني الثري، ومنجزها الأدبي الفريد، ودورها الفاعل في مسيرة شعرنا المصري المعاصر. وإن دراسة واحدة لمنجزها الخلاق غير كافية لتحديد دورها في مسيرة الشعر العربي عامة والمصري خاصة. فعلى الرغم من تناول بعض منجزها الأدبي كبار النقاد كفاروق شوشة، ود. حسام عقل، ود. يوسف نوفل، وتواجدها المميز على الساحة الثقافية المصرية واعتلائها صهوات المنصات فإن منجزها بحاجة إلى مزيد من الدراسات، ومن هنا أهيب بطلاب الماجستير والدكتوراه والباحثين عن الجديد في الشعر المصري الحديث بإعادة النظر إلى منجز ثقافي متنوع، وذات شعرية خلاقة،انطلقت من الشعر إلى تخوم الرواية والمسرحية والمدائح النبوية والمقال الأدبي التنويري، فهي مادة خصبة بكر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.