إذا كنت من مصر، فلابد أنك سألت نفسك يوما، وبعد أي احتكاك مرير مع مؤسسة حكومية أو قسم شرطة، لماذا يتعاملون معنا كالعبيد، ولا نتساوى مطلقا في أي معاملة مع الغرباء الوافدين علينا من بلاد أخرى؟

في فلسفة الواقع ردود تقليدية، لن تشفي بالنهاية صراع تدفق الأسئلة بداخلك، لكن التاريخ يحكي لنا تفسيرا منطقيا في هذه القضية، ولم يرجعها إلى العوز والفقر، أو ينسبها إلى شيوع حالة من اللا أخلاقية في المجتمع، ولكنه أشار بعصا الاتهام مباشرة إلى تراث «الدقشرمة المماليك» وحملهم المسئولية عن ذلك.


من هم الدقشرمة؟

الدقشرمة مجموعة من «العبيد البيض» يشار إليهم بأصابع الاتهام والمسئولية عن تلويث ثقافة الدولة المصرية الرسمية، في التعامل مع رعاياها، وظهروا بقوة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، كنتيجة مباشرة لسعي السلطة المركزية للدولة العثمانية، إلى حشو الجهاز الإداري للبلدان الخاضعة لمظلة حكمها بالعبيد، وجعلهم أساس النظام العسكري والإداري في بلدان الخلافة الإسلامية.

وتحكي بعض المصادر التاريخية أن الدقشرمة يعود أصلهم لشرق أوروبا التي كانت مصنعا للرقيق من خلال ما عرف وقتها بضريبة الدم، ويحصل من خلالها «العثمانيون» من المناطق التابعة لنفوذهم على الأطفال الصغار، يربونهم ويخضعونهم لتدريبات شاقة عسكرية وإدارية، ثم يلحقونهم بالجيش والمناصب المهمة.

ووصل إلى مصر من الدقشرمة أعداد كبيرة مع الحاميات العثمانية، وصولا إلى عصر محمد علي، ومكثوا فيها وتزوجوا وتناسلوا، واختلطت دماؤهم بدماء المصريين.

وخلال سنوات من تطبيق رؤى الدولة العثمانية في الاعتماد على الدقشرمة بمؤسسات الحكم، أصبحت الحكومات المتتالية، عبارة عن مصانع للرقيق، وكما هو متعارف عليه، ليس للعبد أن يفكر، وإنما عليه انتظار أوامر السلطة، وتنفيذ رغباتها بكل دقة وحدة وصرامة.

وربما لم يكن يدرك العثمانيون وقتها أن التراث يوّرث، كما توّرث الصفات الفيزيقية، وحسب إجماع غالبية الرحالة الأجانب، الذين زاروا مصر، ودونوا ملاحظاتهم على المدة الزمنية التي طالعوا فيها أحوال المصريين منذ مطلع القرن السادس عشر؛ احتل الدقشرمة مراكز مهمة، ووظائف غاية في الخطورة بالدولة المصرية، على رأسها جهاز الشرطة.

وكانوا يعاملون أهل البلاد معاملة قاسية للغاية، ويكنون لهم احتقارًا شديدًا، خاصة إذا ما وصل أحد «العبيد البيض» إلي أي منصب حكومي، أو تولى سلطة شرطية، وارتدى زيًا رسميًا، حيث تتبدل قناعاته، وتتغير نظرته تجاه من حوله، ويصبح هو الحكومة، وأبناء الشعب المصري رعايا تابعين له، ولتأكيد هذه المزايا سن الدقشرمة أعرافا تحقر من أي شخص يقف أمامهم، حتى لو كان صاحب مظلمة.


للمصريين وحدهم: «الضرب على القفا» شرط الاستماع إليهم

وكان المصري إذا ما أوقعته الأقدار وذهب إلى قسم الشرطة لأي أمر؛ لابد وأن يُضرب على «قفاه»، وليس مهما أن يكون متهما أو لا، فكل من يذهب للقسم ينتظر دوره في صف طويل، حتى يأخذ كل منهم ضربة على قفاه، وهذه العقوبة تخص المصري دون سواه، فالأجنبي كان معفي منها، بل يتم تسليمه على الفور، بعد الكشف عن هويته لقنصلية بلاده.

ويحكي الأمير رودلف، الرحالة النمساوي، الذي زار مصر أواخر عهد الخديوِ إسماعيل، أن المصري كان يخاف بشكل مرعب من الذين يرتدون زيا رسميا، وقال إنه شاهد بنفسه «خولي» أو رئيس أنفار، فرّ هاربا داخل أعواد القصب، بمجرد رؤيته لخادم ملكي، يرتدي ملابس رسمية، ويقترب منه في الشارع.

بجانب الضرب على القفا سن الدقشرمة مجموعة من الأعراف الشاذة، تعبر بجلاء عن إساءة استعمال السلطة المخولة لهم لخدمة الشعب، لا التفنن في إهانته وإذلاله، فكان الشرطي يمسح حذاءه مجانا، ويأتيه إلى محل عمله المشروبات مجانا، ومن المقهى الذي يحدده هو من باب «الواجب»، أما إذا كان رتبة عالية، جاءه الطعام من أفخم المطاعم التي يحددها، وأحيانا كانت تأتيه الوجبات المختلفة على مدى اليوم من أماكن متعددة، حسبما تتطلب رغباته.

وكان ابن الباشا في زمن الدقشرمة لا يدفع ثمن الدروس الخصوصية، وبنت الباشا تحيك الثياب مجانا من باب الواجب أيضا، فالباشا حكومة، وباقي طبقات المجتمع، بداية من ماسح الأحذية، نهاية بأصحاب أرقى المهن، وأفضل الدرجات العلمية، رعايا مهمتهم الأولى خدمتهم، ولا يجوز لهم مطلقًا طلب المساواة معهم.


بعض مؤسسات الدولة تطبق حرفيا «أفكار الدقشرمة»

رغم انتشار علوم الاجتماع، المعنية بتفسير الظواهر الاجتماعية؛ فإن الباحثين المختصين لم يجتهدوا بالشكل الكافي لكشف سوءات وعواقب استمرار ثقافة وتراث العبيد المماليك في مؤسسات الدولة المصرية حتى الآن، وربما أكثر ما يثبت ذلك الرغبة المحمومة التي تتسارع وتيرتها في الإبقاء على ثقافة التمييز والتفرقة بين المصريين، وتقسيمهم لأسياد وعبيد.

ورغم أن الأعراق اندمجت كما أسلفنا، وأصبح المسئولون أهل وإخوة وأبناء في المجتمع المصري، فإن بعض مؤسسات الدولة تتفنن حتى الآن في إعلان قائمة شروط تمييزية، لمن يريدون التقدم لشغل الوظائف السيادية، أو رفض بعض الجهات مطالب المساواة بين أفرادها والمواطنين، في كل الحقوق والواجبات.

ويمكن حصر أبرز أشكال الفكر الدقشرمي في إدارة الدولة المصرية من خلال التباين الواضح بين قوانين الدولة، والأشخاص المنوط بهم تنفيذها، ففي المصالح الحكومية ومراكز الشرطة نظام إداري هرمي مترابط ظاهريا، ولكن سياقات تنفيذ القوانين، تؤكد أن لكل فرد قانونه الخاص، يطبقه حسب مرجعيته الفكرية، وفلسفته النفسية في التعامل مع الآخر.

كما يعد قانون «فتح الدرج» الشهير، لابتزاز أصحاب المصالح، مقابل خدمات حكومية، منهج دقشرمي صاغه العبيد المماليك، للتغلب على ضعف الرواتب، واعتبروه حلا سحريا لإجبار المواطنين على الدفع لهم من أبواب خلفية، عبر التلكؤ الشديد في إنجاز المهام، أو إنجازها بطريقة تؤدي لنتيجة عكسية.

وترجع بعض المصادر التاريخية، حتى الكلمات الدارجة، التي تعبر عن فهلوة رثة في ثقافة المصريين، لا تزال تملأ المجتمع قبحًا حتى الآن، وخاصة في المؤسسات الحكومية، من أمثال «على قد فلوسهم» و«كبر مخك»، و«خليك مفتح» للمماليك الذين كانوا يعملون لصالح أنفسهم فقط، ويجتهدون في تحقيق ذلك عبر تسخير المجتمع بأكمله لحسابهم، فالمصلحة العامة في قاموس الدقشرمة أمر اضطراري يفعلونه إما بفعل أمر سلطاني مباشر، أو باعتباره منفذا نفعيا سيعود عليهم بالمكاسب من اتجاه آخر، وهو ما يحكم ثقافة المؤسسات الحكومية وبعض القطاعات الخاصة حتي اليوم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شلبي
  2. كتاب التطورات التعليمية والثقافية في إفريقيا
  3. نهاية الرتبة في طلب الحسبة