ثم تأصيل قديم راسخ لمبدأ التجديد والإحياء الإسلامي، ليس في المشتَهِر من السنة النبوية وحدها، على حضرة صاحبها أكمل الصلوات وأتم التسليمات؛[1] والتي تتسِقُ في ذلك مع القرآن وتُفسِّرُه، بل وفي جمعٍ كبيرٍ من الاستدلالات والتأويلات الكلامية والحركية التالية، والتي تنبني على جمع ونسج ما صحَّت به المصادِر، ثم الاطراد التاريخي معه وبه لفهم مغزى ودِلالة ختم النبوة والرسالة، وأثره على تاريخ الإنسانية وصيرورة حركتها التاريخية إلى الله، ومن ثم ضرورة التجدُّد المستمر للقراءة بعد توقُّف الوحي، لحفظ هيمنة الكتاب على التاريخ بحفظ حيوية الدين في النفوس وعمق أثره في السلوك، وبالتالي قدرته على توجيه الإنسانية. وهو ما لا سبيل لتحقيقه سوى بدوام العودة ودوام القراءة لأصل الوحي المعصوم، والمتجسِّد في الكتاب ثم في هَدي النبوة الشارِح والمبيّن.

ومبدأ التجديد أو الإحياء هو في ذلك غنيٌّ عن الحاجة لتأصيلٍ أو استدلالٍ جديدين، ليس بالنصوص الشرعية فحسب، والتي قد يحاول البعض تحريفها عن مواضِعها؛ بل بتعدُّد تأويلاتها وتواتُرها على مر العصور، وكثرة ما استنبطه أهل المذاهِب جميعًا من النصوص الأخرى التي تدعم هذا المبدأ التاريخي التأسيسي، وذلك إلى الدرجة التي صار معها مبدأ التجديد أقرب ما يكون إلى خانة ما يُسمَّى «معلومًا من الدين بالضرورة»، وإن كنا نُفضِّل أن نُطلق على التجديد الإسلامي: المعلوم من التاريخ (أو الحركة) بالضرورة. ذلك أن تغيُّر أحوال بني آدم وطرائق معيشتهم لا يقتضي فحسب العودة إلى الوحي لاستنباط أحكام أفعال أعيان المكلفين على المستوى الفقهي البرّاني، بل يقتضي كذلك، وهو الأهم، دوام محاكمة البنية المعرفية (الجوّانية) لواقع الجماعة البشرية المتغيِّر، والتي صدرت عنها الأفعال ابتداءً، محاكمتها إلى الرؤية الكونية التوحيدية كما جسَّدتها أصول الإسلام.

وهو أمر يَقعُد عنه أصحاب الصنعة الفقهية المجرَّدة، ولا يستطيع الاضطلاع به سوى أولي العزم ممن صدقوا الله وباعوا أنفسهم له. ومن هذا المنظور، فلا يقتصِرُ عمل المجدِّد على النظر في أفعال المكلفين والحُكم عليها، بل وليس هو أولويته؛ إذ يمتدُّ للنظر في الوجدان الذي صدرَت عنه، ليس للحُكم عليه حُكمًا مُتعينًا قد تترتَّبُ عليه أحكام وحدود آنية كالحُكم الفقهي ذي الطبيعة الإلزامية، ولكن لتفكيك أصوله المعرفية والحُكم على مدى قُربها من أو بُعدها عن أصول الإسلام، ومن ثم توجيه أو إعادة توجيه الحركة الإنسانية، ليس في انحرافاتها السلوكية البرانية فحسب كما يتوهَّم أكثر ذراري المسلمين ممن يحلُمون بـ«تطبيق الشريعة»، بل في تقويم تصوّرات الحركة الإنسانية المشوَّّهة من خلال القدوة والدعوة إلى الله بالنفس. وهو جوهر فعل التجديد وحقيقته. إذ المجدد مُربٍ صوفي أكثر منه فقيه أو متكلم، وإن كان يجمع بينهم جميعًا.


وبمعنى من المعاني، فإن الاجتهاد والتجديد الإسلاميين هما شكلٌ من أشكال «علمنة» الرؤية المذهبية والدينية السائدة؛ بتقويضهما المقدَّسات الزائِفة التي علَقَت بالممارسة والتصوّرات، وفتحهما البنية المعرفية للجماعة البشرية للاستمداد من الوحي مرة أخرى، وبصورةٍ مباشرة. لكن هذه العلمنة التي عادةً ما تبدأ بها عمليّة التجديد الديني يجب أن تنتهي باستعادة «المقدَّسات الحقيقيّة» عن طريق إعادة تأويل النص الديني المؤسِّس عمليًا وحركيًا، استهداءً بالنبي وتأسيًا بسيرته. إن نفي الألوهية عن كل شيء يجب أن يُتبع مباشرة بإثباتها لله وحده لا شريك له (لا إله إلا الله)، وإلا آلَت عملية التجديد المرغوبة إلى تفكيكٍ إلحادي يؤدي إلى العبثية. إن التجديد الديني في الإسلام هو استعادةٌ لحاكمية الوحي وهدي الموحى إليه على التاريخ، بعد تقويض كل ما عداها من الحاكميات الطاغوتية، وليس تكريسًا للتاريخ البشري والتقاليد الأسبق تاريخيًا في تأويل كتاب الله.

ولهذا، فإن عملية التجديد الفاعِلة والمؤثرة تاريخيًا لا يُمكن أن تتم على مستوى نظري من خلال تفكيك وتركيب تصورات «عقدية» وتأويلات «دينية» ثم محاولة تنزيلها على الواقع اعتسافًا، وإنما هي عملية تمثُّلٍ وتجسيدٍ للقرآن واحتذاءٍ للسُنة من خلال الاحتكاك بالواقع. إنها جدليّة عبادية حركية حيّة، وليست عملية فلسفية نظرية يضطلع بها القاعدون. وذلك رغم أن للتجديد بُعدًا أو تقليدًا نظريًا قديمًا في الإسلام قِدَم القعود عن الحركة وانفصال النظر عن العمل في الوجدان الإنساني، وهو اطرادٌ مع الشق العلماني في النفس الإنسانية، شق الإخلاد إلى الأرض، السابق في الوجود والفعالية على تشرُّب مؤثرات ومُحفِّزات الحضارات الأخرى التي سبقتنا إلى هذا الإخلاد، وهو عين الشق الجوّاني الذي يجعل كل البشر وكل الحضارات مؤهلين لهذا الإخلاد إذا ما استسلمت له النفوس، وتوفَّرت له الظروف الملائمة.


وبمعنى ما، فإن التجديد لا يتحقَّق إلا من خلال التقليد؛ أي أن الاجتهاد وتجديد الدين ليس وظيفة كل مسلم وليس في طاقة كل أحد، حتى من الراسخين في العلم؛ بل هو مهمة مُجدِّدٍ مُخلِصٍ مُخلَصٍ يُسخَّر لذلك، وجدانيًا وروحيًا؛ ليُقلِّده الناس إلى حين، إلى المرحلة التي يتكلَّس فيها تقليده ويعجز عن مواكبة حيوية الوحي في إصلاح أحوال العباد بتقويم تصوراتهم وتصحيح وجهة حركتهم. ساعتها تحِقُ على من كان مُجددًا يومًا ما الإزاحة كُليًا أو جزئيًا، ليُفسِحَ المجال لمُجدِّدٍ آخرٍ يُعيدُ الحيويةَ إلى وجدانات المسلمين في استلهام الوحي. ومسألة إزاحة بعض نتاجات أئمة التقليد الإسلامي، الذين كانوا في زمانهم طليعة المجددين، أمرٌ لا يُقصَد منه الإهدار أو القطيعة التاريخية، بل التنحية من البؤرة إلى الحاشية ومن المركز إلى الهامش، ليلعب التقليد الأقدم دورًا استشاريًا استرشاديًا فحسب في عملية تجديد القراءة بالحركة وتجدُّد الإدراك بالمكابدة، بما أن كل مُنتج بشري تاريخي قاصِر بتعريفه عن مواكبة كافة المُتغيِّرات الزمانية، وإن واكب بعضها بتوفيقٍ من الله ورحمة. وما من مجتهدٍ أو مجدِّدٍ أخلَص وجهه لله، إلا وألهِم اجتهادًا يعيش دهورًا تفوق حياته القصيرة، لكن ذلك لا يصح قطعًا على جُل اجتهاده، وإلا دخل دائرة العصمة المقصورة على أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في التشريع.

والتجديد لا يتحقق تاريخيًا إلا بتقليد لا لأن جمهرة المسلمين (أو جماعة منهم) في زمانٍ مُعيَّنٍ قد تعمَد لتقليد مُجتهدٍ بعينه، بل لأن المجتهد المخلِص يعمَد ابتداءً للتأسي برسول الله واحتذاء دربه في مُكابدة الحياة بالقرآن، حتى يستطيع إدراك أبعاد وجود القرآن في واقع أهل زمانه ومن قبل في وجداناتهم، فهو إدراكٌ لا يتشكَّل من المعرفة القاصِرة بالجزئيات النظرية/التقنية ولا حتى بإحكام الكليات الأصولية وحدها، ولكنه يُقذَف في روع العبد المخلَص الذي تزكَّى. ومن ثم، فإن تجديد كل مجدِّد هو في جوهره وحقيقته محاولة مُخلصة ليُحسِن تقليد النبي المعصوم، ويستقيم ما شاء الله له على بعض هذا التقليد. كذا، فإن تقليد العوام للمجدِّد هو محاولة للاستقامة على تقليد من أدرك (في الحركة والنظر) بعض هدي النبي المحبوب، للاستمداد من معينه صلوات الله وسلامه عليه ولو بصورةٍ غير مباشرة.


ووظيفة المُجدد في التصوّر الإسلامي هي كسر وتقويض كافّة الأنساق المعرفية (التي آلت إلى أيديولوجيّات/مذاهب نهائية) المنغلِقة بركود الاجتهاد فيها وانفصالها التدريجيّ عن الوحي الإلهيّ، لدرجة حجبها إياه بوجودها حتى لتصير دينًا بدل الدين؛ وذلك لإعادة نهر التاريخ إلى مساره بإعادة الاجتهاد/الجهاد واستمرارُه في رحاب المركز المتجاوِز. إن المُجدِّد يتعامل مع الأنساق المعرفيّة الإنسانيّة باعتبارها اجتهادات تاريخانيّة تؤكّد ديمومة الكبد الإنساني داخل التاريخ، ومن ثم فهو يُدرِك أنه ليس مركزًا لأي شيء، بل هو مُجتهدٌ يُخطئ ويُصيب، ويؤمن بأن الاجتهاد البشري ليس نهائيًّا ولن يكون كذلك أبدًا. فالوحي الإلهيّ (يليه التجسيد النبوي له) هو المركز النهائي والدليل الوحيد الذي لا يأتيه الباطل، وما عداه يؤخذ منه ويُرَد، وأنه رغم تفاوت الاجتهادات في ظلال المركز، فيما لم يرد فيه نصّ، قُربًا وبُعدًا، فإنها تظلُّ آراءً احتماليّة بدرجةٍ ما، وفهمًا تاريخانيًّا للمركزٍ المتجاوز للتاريخ، ومحاولة لإدارة الواقع الإنساني بهذا الفهم المؤقَّت حتى يأتي تأويله في يومٍ موعود. وبذلك يصدُر المُجدد عن تصوّرٍ بأن الخير والشر كليهما مُعطى جوّاني مفطور في جبلَّة الإنسان، وأنهُ قادر على الاختيار بينهما، وتحمُّل تبعة اختياره، فهذا هو جوهر التكليف.

وعلى عكس المخلِّص في التصورات الطوباوية والمشيحانية/المهدوية، فإن وظيفة المُجدِّد ليست إيقاف التاريخ/الكبد وتأسيس فردوسٍ أرضي لا تاريخي يُملأ عدلًا كما امتلأ التاريخ جورًا؛ ولكن وظيفته تكاد تنحصِرُ في تقويم مسار التاريخ البشري لإعادة توجيه الطاقات الإنسانية إلى الوجهة التي ارتضاها الله لعباده. وهو تقويمٌ قد يتحقَّق بعضه نماذجيًا على يد المجدِّد وفي حياته، وقد يكون المجدِّد مُقيمًا للحُجَّة فحسب كما كان الحسين بن علي عليهما السلام.

وفي الجزء الثاني من هذا المقال سنتناول نمطي التجديد الإسلامي في القرون الثلاثة الأخيرة، كما تمكَّنا من تجريدها، وانعكاس طبيعة كل نمط على الدور الذي يؤديه في الاجتماع الإسلامي، إضافة إلى بعض الفوارِق المحورية بين النمطين.


[1]– أشهر الأحاديث في هذا الباب قاطبة حديث صحيح مشهور رواه أبو داود عن أبي هريرة؛ أن حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يُجدد لها دينها».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.