في كتابه «ما لا يمكن شراؤه بالمال» تناول الفيلسوف والأستاذ في جامعة هارفارد «مايكل ساندل» علاقة المال بحياتنا وانتقد عالمنا الذي أصبح كل شيء فيه بثمن، فقد باتت الأسواق وقيمها تحكم حياتنا في سابقة لم تحدث أبداً من قبل، فيما تحولت الكثير من الأساسيات في حياتنا الاجتماعية إلى سلع لها مقابل. فاليوم هناك القليل من الأشياء التي لا يمكن شراؤها بالمال، حيث إن التفكير الاقتصادي أخذ يسيطر على الحياة العامة. فقد ارتفع في المجتمعات الرأسمالية الديموقراطية «المُعتقد السوقي» أو «انتصار الفكر السوقي»، بمعنى أن الأسواق والآلية السوقية أصبحت هي الأدوات الأولية لتحقيق الصالح العام، فالفكر السوقي قد هيمن على العلاقات الشخصية والحياة الأسرية، والصحة، والتعليم، والحياة المدنية، مما أدى إلى تآكل النسيج الأخلاقي للمجتمع، وهذا بالطبع ليس شيئاً جيداً من أجل الديموقراطية.

مجتمع كل شيء فيه للبيع

يتصور ساندل أن هذا يحدث لسببين: الأول يتعلق بانعدام المساواة، والآخر يتعلق بالفساد، فبالنظر إلى انعدام المساواة في مجتمع حيث كل شيء فيه للبيع، فإن الحياة ستكون أصعب بالنسبة لأولئك الاقل حظاً.

إذا كانت الميزة الوحيدة للثراء تتمثل في القدرة على شراء اليخوت، والسيارات الرياضية، وقضاء العطلات الفاخرة، فإن انعدام المساواة في الدخل والثروة لن يهم كثيراً. ولكن عندما يقوم المال أكثر فأكثر بشراء النفوذ السياسي، والرعاية الصحية الجيدةـ ومنزل في حي آمن بدلاً من حي يُشتهر بالجريمة، فإن توزيع الدخل والثروة سيلوح في الأفق أكثر وأكثر، حيث أنه عندما يتم بيع وشراء كل الأشياء الجيدة فإن امتلاك المال يمكن أن يصنع كل الاختلافات في العالم.

وهذا يُفسر السبب في أن العقود القليلة الأخيرة كانت صعبة خاصة على الفقير وعلى عائلات الطبقة المتوسطة، حيث أن تسليع كل شيء قد زاد من حدة انعدام المساواة بجعل المال أكثر أهمية.

أمّا السبب الآخر الذي يجعلنا نتردد في وضع كل شيء للبيع -وهو أكثر صعوبة في وصفه- لا يتعلق بانعدام المساواة والإنصاف، ولكنه يتعلق بالميل الفاسد للأسواق، فوضع سعر للأشياء الجيدة في الحياة يمكن أن يُفسِدها، فالدفع للأطفال لكي يقوموا بقراءة الكتب يمكن أن يجعلهم يقرأوا أكثر ولكن يُعلّمهم أيضاً اعتبار القراءة كمهمة يقوموا بها من أجل الحصول على المال، بدلاً من اعتبارها مصدر للارتياح أو الرضا. كذلك فإن تأجير المرتزقة الأجانب لكي يقاتلوا في الحروب يمكن أن يحفظ حياة المواطنين ولكنه يُفسِد معنى المواطنة.

يفترض الاقتصاديين غالباً أن الأسواق خاملة بمعنى أنها لا تؤثر على السلع التي يتم تبادلها، ولكن ساندل يري أن هذا غير صحيح، حيث يتصور أن الأسواق تترك بصمتها وتقتحم في بعض الأحيان القيم الغير سوقية التي تستحق الاهتمام بشأنها.

بالطبع تختلف الناس بخصوص القيم التي تستحق الاهتمام بها، ولذلك لكي نقرر ما الذي يجب أن يشتريه المال، وما الذي لا يجب أن يكون قادر على شرائه، فعلينا أن نُقرِر ما هي القيم التي ينبغي أن تحكم المجالات المتنوعة للحياة المدنية والاجتماعية.

وفي هذا الصدد يقول ساندل:

عندما نقرر بأن سلع معينة يمكن أن يتم بيعها وشرائها فإننا نقرر على الأقل ضمنياً بأنه من المناسب أن نعاملهم كسلع، كأدوات للربح والاستخدام. ولكن لا يتم تقييم كل السلع بصورة صحيحة بهذه الطريقة. والمثال الأكثر وضوحاً هو الكائنات الإنسانية، فالعبودية كانت مُفزعة أو مُروعة لأنها عاملت الكائنات الإنسانية كسلع يتم بيعها وشراؤها في مزاد، فهذه التعاملات تفشل في تقييم الكائنات الإنسانية بطريقة مناسبة كأشخاص مستحقة للكرامة والاحترام بدلاً من كونهم أدوات للكسب وأشياء يتم استخدامها. شيء ما مُشابه يمكن أن يُقال للممارسات والسلع العزيزة، فنحن لا نسمح ببيع وشراء الأطفال في السوق حتى ولو لم يسئ المشتريين معاملة الأطفال الذين يقومون بشرائهم، فسوق الأطفال تُعزز طريقة خاطئة في تقييمهم، فمن غير المناسب اعتبار الأطفال سلع استهلاكية، ولكن يجب اعتبارهم كائنات مستحقة للحب والعناية. كذلك إذا تم استدعاؤك إلى هيئة المحلفين فلا يجوز لك استئجار بديل ليحل محلك، كذلك نحن لا نسمح للمواطنين ببيع أصواتهم حتى لو كان الآخرين حريصين على شرائهم. لماذا؟ لأننا نؤمن بأن الواجبات المدنية لا يجوز اعتبارها كملكية خاصة ولكن بدلاً من ذلك يجب رؤيتها كمسئوليات عامة. [1]

هذه الأمثلة توضح نقطة أوسع: أن بعض الأشياء الجيدة في الحياة تفسد أو تنحط إذا تحولت إلى سلع، لذلك لكي نقرر أين تنتمي الأسواق وأين يحب أن تبقى بعيدة، علينا أن نقرر كيفية تقييم السلع في السؤال عن الصحة والتعليم، والحياة العائلية، والطبيعة، والفن، والواجبات المدنية. فهذه أسئلة أخلاقية وسياسية وليست فقط اقتصادية، ولحلها علينا أن نناقش المعنى الأخلاقي لهذه السلع والطريقة المناسبة في تقييمها.

يقول ساندل أن هذا النقاش لم نتناوله خلال عصر انتصار الأسواق، ونتيجة ذلك فقد تحولنا من «امتلاك اقتصاد السوق» إلى «مجتمع السوق». الاختلاف هو أن: «اقتصاد السوق» يتعلق بتنظيم الأنشطة الإنتاجية، أمّا «مجتمع السوق» فهو طريقة في الحياة حيث تتسرب القيم السوقية إلى كل جوانب الحياة الاجتماعية، إنه مكان حيث العلاقات الاجتماعية قد انتهت إلى صورة سوقية. [2]

النقاش المفقود في السياسات المعاصرة يتعلق بوصول الأسواق الي مناطق من الحياة لا يجب أن يكون لها فيها وجود. هل نحن نريد اقتصاد سوق أم مجتمع سوق؟ ما الدور الذي يجب أن تلعبه الأسواق في الحياة العامة والعلاقات الشخصية؟ وكيف نقرر ماهية السلع التي يجب أن يتم بيعها وشرائها؟ وأيّ منها يجب أن تكون محكومة بقيم غير سوقية؟

إعادة التفكير في دور الأسواق

يري ساندل أن عصر انتصار الأسواق قد وصل إلى نهاية مدمرة، والآن يجب أن يكون وقت الحساب الأخلاقي، ولكنه يؤكد أن الأمور لا تسير على هذا النحو. حيث أن النقاش الجاد حول تقييم عصر الأسواق يظل غائب بصورة كبيرة عن حياتنا السياسية، فكلاً من الديموقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة يتناقشون فقط -كما فعلوا منذ فترة طويلة- حول الضرائب والإنفاق والعجز في الميزانية. وبالتالي فإن خيبة الأمل في السياسة قد تعمقت مع تزايد شعور المواطنين بالإحباط، بسبب عدم قدرة النظام السياسي على العمل من أجل الصالح العام، أو معالجة الأسئلة التي تهم أكثر.

يقول ساندل إنه في الوقت الذي تتشكل فيه المحاورات السياسية أساساً في الصياح في البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون أو الراديو أو المعارك الأيديولوجية في الكونجرس، فإنه من الصعب أن نتصور نقاشًا عامًا معقولاً بخصوص هذه الأسئلة الأخلاقية كطريقة صحيحة في تقييم قضايا الإنجاب والتعليم والصحة والبيئة والمواطنة وغيرها. ولكن يؤمن ساندل بأن هذا النقاش ممكن، وأن هذا يمكن أن يُنعِش حياتنا العامة. فالنقاش حول الحدود الأخلاقية للأسواق ربما يمكننا من أن نقرر كمجتمع متى تخدم الأسواق الصالح العام ومتى لا تنتمي. إنه يمكن أن ينعش سياساتنا من خلال الترحيب بالتصورات المتنافسة للحياة الصالحة في المجال العام. [3]

بالكاد يكون من المنطقي التحدث عن فساد نشاط مثل الأبوة أو المواطنة، ما لم نفكر بأن طرقًا معينة لكي تكون أبًا أو مواطن هي أفضل من غيرها، فنحن لا نسمح للآباء ببيع أطفالهم أو للمواطنين ببيع أصواتهم والسبب في عدم سماحنا بذلك هو أننا نؤمن بأن بيع هذه الأشياء يُقيِّمها بطريقة خاطئة ويغرس عادات سيئة.

فالتفكير في الحدود الأخلاقية للأسواق يجعل هذه الأسئلة لا مفر منها، إنه يتطلب أن نفكر معاً في المجال العام حول كيفية تقييم السلع الاجتماعية التي نُثمِّنها، وسيكون من الحماقة أن نتوقع أن تؤدى المناورات العامة الأكثر قوة من الناحية الأخلاقية -حتى في أفضل حالاتها- إلى الاتفاق على كل مسألة محل خلاف، ولكن ربما ستجعل حياتنا العامة أكثر صحة، وستجعلنا أكثر وعياً بالسعر الذي ندفعه من أجل العيش في مجتمع كل شيء فيه للبيع.

المراجع
  1. Michael Sandel, “What money can’t buy? The moral limits of markets”, Farrar Straus and Giroux, New York, 2012, p15:25.
  2. Michael Sandel, “What money can’t buy? The moral limits of markets”, Farrar Straus and Giroux, New York, 2012, p28.
  3. Michael Sandel, “What money can’t buy? The moral limits of markets”, Farrar Straus and Giroux, New York, 2012, p29.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.