أتمنى لو استيقظ يومًا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر..

هكذا كان يتمنى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق «إسحاق رابين» أن يكون مصير قطاع غزة الذي كان بحق رمزًا للصمود الحقيقي أمام عدو طالما زعم أنه لا يُقهر، فعلى مدار التاريخ الطويل للقطاع أثبت أنه كرة من اللهب تحرق كل من اقترب منها، أو حاول النَيل منها، وفي الذكرى الـ 59 للانسحاب الإسرائيلي الأول من قطاع غزة، وذلك في السابع من مارس عام 1957، كان لا بد أن نجوب في بعض من صفحات تاريخ هذا الشريط الضيق الذي طالما زلزل كيانًا لم يكن من السهل أن يرضخ.

غزة في عيون إسرائيلية

لم يكن قطاع غزة جزءًا من دولة يهودية منذ فجر التاريخ، فقد كان الفلسطينيون يسكنونه منذ القدم مع بقية أرض فلسطين وحتى بعد دخول بني إسرائيل، إلى مؤاب وعمون ومعكة وأورشليم وغيرها من الأراضي الفلسطينية، بقيت منطقة غزة وأشقلون وأشدود وعجلون وبئر سبع وغيرها مناطق للفلسطينيين، وكذلك في عهد يشوع (الذي قاد بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام)، ثم في عهد القضاة (أي الحقبة التاريخية التي بدأت بعد يوشع وامتدت لثلاثة قرون تقريبًا)، ثم داود عليه السلام وفي عهد داود خاصة كانت المنطقة من الساحل الفلسطيني شمالي يافا إلى جنوبي غزة تابعة لمصر، وظل الحال كذلك في عهد سليمان عليه السلام. لذلك، فإن متطرفي الصهيونية لا يرون في غزة أية قيمة توراتية بعكس مناطق أخرى مثل القدس وبعض مناطق الضفة الغربية.

لا يرى متطرفو الصهيونية في غزة أية قيمة توراتية بعكس مناطق أخرى مثل القدس وبعض مناطق الضفة الغربية

إلا أن قطاع غزة شكَّل طوال عقود طويلة مصدر إزعاج للاحتلال، فقد تمنى إسحاق رابين أن يصحو من نومه ذات صباح ليجد القطاع قد غرق في البحر، وذلك بسبب عمليات الفدائيين في السبعينات والثمانينيات، وقد زاد الازعاج عقب بدء عمليات المقاومة ضد قوات الاحتلال مطلع العام 1990.

فضلًا عن الانتفاضتين الأولى والثانية اللتين قضَّتا مضاجع الاحتلال، وحتى بعد الانسحاب الإسرائيلي الثاني من القطاع والذي تم في العام 2005؛ لم تدع غزة الاحتلال ينعم ويستقر بما في يديه من أراضٍ فلسطينية أخرى، لذلك تم فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع، فضلًا عن الحروب الثلاثة التي خاضتها غزة في الأعوام 2008، 2012، 2014، لذلك تمثل غزة إلى الآن شوكة في حلق الاحتلال الإسرائيلي.

انسحاب 1956

بعد قيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في 26 يوليو 1956، قررت فرنسا وإنجلترا وإسرائيل، القيام بعدوان على مصر. وكان لكل طرف من هذه الأطراف الثلاثة هدف خاص به يسعى إلى تحقيقه من وراء هذا العدوان. فقد وجدت إسرائيل في تسليح الجيش المصري سببًا يخل بتوازن القوى القائم آنذاك.

كما أن توجيه ضربة قوية إلى مصر ستؤدي إلى وضع حد لعمليات الفدائيين الفلسطينيين المنطلقة من قطاع غزة. وكان هدف فرنسا هو إنزال الضرر بمصر لدعمها الثورة الجزائرية، ولتأميمها شركة القناة. بينما سعت إنجلترا -إلى جانب الانتقام من مصر بسبب التأميم- إلى استعادة مركزها السابق في مصر قبل يوليو 1952.

وفي مساء 29 أكتوبر 1956، بدأ الهجوم الإسرائيلي على مصر، وتقدمت القوات الإسرائيلية باتجاه رأس النقب والممرات، وتم عزل قطاع غزة عن مصر. وفي الأول من نوفمبر 1956، بدأ الهجوم على القطاع من الناحية الجنوبية من منطقة رفح باتجاه غزة. ولم يتعرض الإسرائيليون للقطاع في بداية هجومهم، لاعتقادهم أن قطاع غزة ساقط من الناحية العسكرية خاصة بعد عزله عن مصر.

قامت إسرائيل بعد احتلالها لقطاع غزة بفرض نظام منع تجول على السكان، وقامت بما يسمى «أيام التفتيش العام في القطاع»، حيث يتجمع السكان بالأماكن العامة وغالبًا ما تنتهي تلك العمليات بارتكاب مجازر تؤدي إلى مقتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين كما حدث في غزة وخانيونس ورفح في نوفمبر 1956، وكان لهذه العمليات أثر كبير على الفلسطينيين.

أما عن العلاقة مع الحكومة المصرية، فقد زاد التأييد بشكل كبير للحكومة المصرية في داخل قطاع غزة، حيث تضمنت بيانات القوى الوطنية في فترة الاحتلال وخاصة حركة المقاومة الشعبية أقوال وتصريحات الرئيس عبد الناصر حول ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وعودة الإدارة المصرية للقطاع الذي اعتبره عبد الناصر جزءًا يسري عليه ما يسري على الأراضي المصرية.

وفي ختام هذه المرحلة تم إجبار الدول المعتدية على الانسحاب، وكانت قوات الطوارئ، التي صدر قرار الأمم المتحدة بتشكيلها وتكليفها الإشراف على هذا الانسحاب، قد توالى وصولها إلى منطقة الصراع تحت قيادة الجنرال أيدسون بيرنز، وقد بلغ عددها نحو 4,000 ضابط وجندي.

وتحت إشراف هذه القوة تم انسحاب قوات العدوان وعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العدوان، وبدأ الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في يوم 7 مارس 1957.وقد اتخذ أبناء القطاع من يوم 7 مارس مناسبة للاحتفال به في كل عام، وقد اُطلق على شارع هام في مدينة غزة «شارع الجلاء» تقديرًا لهذه المناسبة، وهو من أكبر شوارع المدينة، كما كان يوم عطلة لطلاب المدارس يتم فيه الاحتفالات الوطنية، والشعبية حتى تم احتلال قطاع غزه مرة أخرى من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، في الخامس من يونيو عام 1967.

عدوان 1967 وتغيير بنية القطاع

أعادت إسرائيل احتلال قطاع غزة بعد عدوان 1967 الذي شنته على الدول العربية. وقد عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى تغيير بنية القطاع، حيث بدأ النشاط الاستيطاني مباشرة في عام 1968، عندما تم بناء مستوطنة «إيريز»، وتم بعدها بناء مستوطنة «كفارداروم» عام 1970، إلى جانب مستوطنات أخرى، فوصل عدد المستوطنات الإسرائيلية التي تم بناءها على أراضي قطاع غزة 21 مستوطنة، احتلت مساحة 23 كيلو متر مربع، من أراضي القطاع، هذا بالإضافة إلى مناطق أمنية للمستوطنات، وهو ما يشكل نسبة 41.8%، من الأراضي الحكومية، و12.6% من مساحة القطاع.

ترك الاحتلال والمستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت في القطاع آثارًا سلبية على كافة نواحي الحياة للمواطنين الفلسطينيين

وقد ترك الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت في القطاع آثارًا سلبية على كافة نواحي الحياة للمواطنين الفلسطينيين، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو دينيًا أو اجتماعيًا، حيث تم تدمير وتخريب الممتلكات الفلسطينية سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتم الاعتداء على المؤسسات المدنية والبنية التحتية للأراضي الفلسطينية، وتدمير كل ما تحتويه تلك المناطق من محطات المياه والآبار والطرق الرئيسة، والكهرباء وخطوط الهواتف.

كما تم مصادرة وتجريف الأراضي الزراعية، ومن جهة أخرى تم توسيع الطرق الزراعية لصالح الجيش الإسرائيلي، وإغلاق الكثير من الطرق أمام المواطنين الفلسطينيين، وتدمير المحاصيل الزراعية من خلال عدم السماح بجنيها في موسمها المتعارف عليه، أو عدم تصديرها إلى المدن الفلسطينية مما يكبد المزارع خسائر كبيرة، كما يتم منع غالبية المزارعين من الدخول إلى الأراضي الزراعية إلا بتصريح من الاحتلال.

كما دأب الاحتلال على اتخاذ سياسة هدم البيوت والمنشآت منذ احتلال القطاع، وبشكل خاص بعد اندلاع انتفاضة الأقصى. وجاء التصعيد الإسرائيلي من خلال عمليات، بهدف الانتقام وإلحاق أكبر الخسائر المادية والمعنوية بالشعب الفلسطيني، ولم تتوقف سلطات الاحتلال عن تلك العمليات، وكانت النتيجة فقدان الكثير من الأسر لمساكنها ومنازلها، إلى جانب الحاجة السنوية المتزايدة للوحدات السكنية بسبب التزايد المستمر في عدد سكان القطاع من الفلسطينيين، وكذلك تعرضت الكثير من المدارس للهدم مما تسبب في نقص عدد الفصول الدراسية، بالإضافة إلى الحاجة لبناء مدارس جديدة للطلبة الذين تتزايد أعدادهم بتزايد عدد سكان القطاع.

انسحاب 2005

بعد احتلال استيطاني عسكري لقطاع غزة، دام لـمدة 38 عامًا، قام الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء مستوطناته، وتفكيكها وتدمير ما بقي منها، وأعاد انتشار جنوده على حدود القطاع. وقد صرح شارون أنه على الرغم من أمله بإبقاء إسرائيل على مستوطنات غزة، إلا أن الواقع حتّم العكس فقال «اتخاذ هذه الخطوة أمر خارج عن الإرادة وليس ضعفًا». ولا شك أن انسحاب إسرائيل من غزة كان مدفوعًا بعدة أسباب، رأت فيها خطرًا وجوديًا على مستقبلها، وقد تمثلت الأسباب في الآتي:

1. تفادي الخطر الديموجرافي

لقد كان من أهم الأسباب التي جعلت الاحتلال يتخذ خطوة الانسحاب، هو أنه يريد أن يمنع خطرًا جديدًا ومختلَفًا للغاية على وجوده، وهو الخطر الديموجرافي. لذلك، جاءت خطة «فك الارتباط» التي تبناها شارون، والتي قضت برسم حدود جديدة لإسرائيل، بحيث تضم أكبر قدر ممكن من الأرض الفلسطينية، وتستثني في الوقت ذاته أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين، وذلك تحت شعار الحفاظ على يهودية «الدولة الإسرائيلية».فقد جاء الانسحاب نتيجة لقلق إسرائيل من الخلل الديموجرافي، الذي تسببه الكثافة السكانية الفلسطينية، ونتيجة لما سببته المقاومة الفلسطينية من الإرباك، وما خلقته من مخاوف أمنية.

2. التخلص من العبء الأمني للقطاع

فقد ظهر الفشل الأمني لشارون من خلال عجزه عن إخماد المقاومة، فظهرت فكرة إقامة «الجدار الفاصل» في محاولة مستميتة من شارون للتخلص من الهواجس الأمنية، حيث اعترف بأن المقاومة سبب الانسحاب من غزة، قائلًا أن الانسحاب «جاء تحت ضغط الوضع الأمني المتردي»، وما أسماه «معاناة المستوطنين»، وطالما شدد على أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة سيتم في الموعد المحدد.

أجمع المحللون الإسرائيليون عند الإعلان عن خطة الفصل الأحادي الجانب على وصفها بالهزيمة أمام المقاومة.

وقد أجمع المحللون الإسرائيليون عند الإعلان عن خطة الفصل الأحادي الجانب على وصفها بالهزيمة أمام المقاومة. وقد علّق على المشروع في صحيفة «معاريف» كل من «بنتسي ليبرمان» رئيس مجلس يشع للمستوطنين، و«يوسي بيلين» وهو يساري معروف، حيث أجمعا على أن شارون قد قدم بمشروعه هدية للمقاومة وأثبت هزيمته أمامها.

3. إلغاء خيار الدولة ثنائية القومية

سعت حكومة شارون إلى تدمير وإلغاء خيار الدولة ثنائية القومية من خلال عزل قطاع غزة، وفصل الضفة الغربية، وجدار الفصل العنصري وتهويد القدس وتطويقها بالمستوطنات، كي يصبح السعي من أجل دولة ثنائية القومية. وفي الوقت الذي قام فيه شارون بإخلاء نحو ألفي وحدة سكنية من مستوطنات قطاع غزة، قام ببناء أضعاف هذا العدد من الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة الغربية.

4. يهودية الدولة

كان من أهم أسباب الانسحاب، هو فكرة ترسيخ مسألة يهودية الدولة، فثمة تغيير أيديولوجي أصاب الحركة الصهيونية المعاصرة، جاء بعد احتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية عام 1967، حيث انصب الهدف الصهيوني على تحويل كل فلسطين إلى دولة عبرية ذات أغلبية يهودية مطلقة، وبموجب ذلك جرت محاولات دؤوبة ومكثفة لتحويل الجغرافيا وتحويل الديموجرافيا، وذلك بتنفيذ مخطط احتلال قام على عملية استيطان يهودي واسع، بالتزامن مع تطبيق خطط واضحة لطرد أكبر عدد من الفلسطينيين، إلا أن تحقيق هذا الهدف الصهيوني كان صعبًا للغاية.

ومن هنا كان على الصهاينة أن يختاروا، إما الاستمرار في الاستيلاء على كامل أرض فلسطين بالفلسطينيين الذين يعيشون عليها، وإما التخلي عن السيطرة على الأغلبية العظمى من الفلسطينيين، للحفاظ على يهودية الدولة، الأمر الذي يفرض التخلي عن أراضٍ فلسطينية للفلسطينيين، وهو ما تم تطبيقه بالفعل في الانسحاب من قطاع غزة.

والخلاصة: على الرغم من انسحاب الاحتلال من القطاع؛ إلا أنه في المقابل أبقى سيطرته وتحكمه في المعابر البرية والجوية والبحرية للقطاع، كما استمر في ممارسة انتهاكاته لحقوق الفلسطينيين في المجالات المختلفة، فقد حرمت إسرائيل قطاع غزة بعد إخلائه من كافة المقومات التي تمنحه القدرة على الاستقلالية وحرية الحركة، مما أدى لعدم تأهيل إعمار القطاع، حيث يمنع الاحتلال إعادة فتح مطار رفح الدولي، وإقامة ميناء غزة أو الإبحار خارج منطقة تمتد من 8 – 10 كم من شاطئ غزة، بما يعزل القطاع عن العالم ويُقيّد من حرية سكانه في التنقل والسفر والتجارة، من وإلى القطاع.

كما أعلنت إسرائيل صراحة أن لها الحق بالدخول إلى القطاع متى اقتضت حاجاتها الأمنية لذلك. وبعد، فما زال القطاع يشكِّل خطرًا كبيرًا على الاحتلال، فهو ما يزال مركزًا للمقاومة، ومعقلًا لانطلاق العمليات الفدائية، فمن الصعوبة أن يفكر الاحتلال بالعودة إلى داخل القطاع فهو منذ البداية لم يستطع الصمود ومقاومة الظروف التي جعلته في نهاية الأمر يلجأ للانسحاب، فتكلفة أن يعود الاحتلال لداخل القطاع تكلفة باهظة لا يستطيع أن يدفعها على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو السياسي أو العسكري.

المراجع
  1. “عشر سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة”، موقع البشير، 13 أغسطس 2015.
  2. “سليمان بن قاسم، الانسحاب من غزة وعقيدة اليهود”، موقع الألوكة، 6 يناير 2008.
  3. “المدلل: انسحاب 2005 طور عمل المقاومة ومكنها من العمق الإسرائيلي”، موقع فلسطين أون لاين، 23 سبتمبر2013.
  4. “ألون بن مئير يكتب في مغالطة الإنسحاب من غزة”، موقع CNN العربية، 16 نوفمبر 2014.
  5. زكريا محمد العثامنة، “بحوث ودراسات: أثر حرب السويس 1956 على الخطاب السياسي للقوى الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة (1957 – 1964)”، موقع موسوعة التأريخ والتوثيق الفلسطيني.
  6. “حرب 1956″، موقع الموسوعة الفلسطينية، 5 ديسمبر 2013.
  7. “الإعلام الإسرائيلي يتساءل عن جدوى احتلال قطاع غزة لأكثر من 38 عامًا”، موقع الحياة، 9 ديسمبر 2005.