تقضي الباندا نصف يومها تقريبًا في البحث عن، والتهام، سيقان الخيزران «البامبو»، مصدر غذائها الرئيسي. والنصف الآخر تقضيه بين الغفوة والنوم على فترات بين وجبة وأخرى.

هل هذا يصم كائن الباندا بالكسل والخمول؟، كيف نتعامل نحن مع يومنا لنحكم على الباندا؟


ما هو العمل؟

يُعرّف العمل لغويًا على أنه نشاط يتطلب قوة عضلية ومجهودًا ذهنيًا لإنجاز شئٍ ما ويحصل العامل في المقابل على قوته ومعيشته، أو هو الوقت مدفوع الأجر الذي يقضيه الفرد في مكانٍ ما، ويُقسم «برتراند راسل» العمل إلى نوعين: أولهما: تغيير وضع المادة على سطح الأرض أو بالقرب منه بالنسبة لمادة أخرى، وثانيهما: إصدار الأوامر بإحداث هذا التغيير. أما العامل فهو كل شخص طبيعي يعمل لقاء أجر من صاحب العمل وتحت إدارته أو إشرافه.

بحسب «كارل ماركس»، كان الإنتاج هو أول وأهم حدث تاريخي فى حياة الإنسان، وإن كان لا يعنينا هنا الفكر الاقتصادي الماركسي، فلا يكون الأمر كذلك مع الفكر الفلسفي عند ماركس.

تتلخص فكرة المادية التاريخية في عمل الأفراد على تطوير قوى الإنتاج بما يزيد من إنتاجيتها وذلك أثناء سعيهم الدائم لتخفيف العبء عن كاهلهم، فيؤدي تطور قوى الإنتاج في المقابل إلى تغير علاقات الإنتاج سواء بين الأفراد وبعضهم أو بينهم وبين قوى الإنتاج. بتطبيق المادية التاريخية على حياة الإنسان نجد أن المجتمعات البشرية حتى الآن مرت بعدة مراحل: الحياة البدائية، العبودية، الإقطاع، والرأسمالية، مع انتقال بعض الدول في المرحلة التالية إلى الشيوعية.

تتلخص فكرة المادية التاريخية في عمل الأفراد على تطوير قوى الإنتاج بما يزيد من إنتاجيتها وذلك أثناء سعيهم الدائم لتخفيف العبء عن كاهلهم.

عاش الإنسان في العصر البدائي حياة بسيطة من ناحية احتياجاته وأدواته، فاعتمد على الطبيعة اعتمادًا كليًا في الحصول على غذائه عن طريق الصيد وقطف الثمار مستخدمًا أداوات إنتاجية بسيطة ممثلة في بعض الأسلحة والأدوات الحجرية، وانتقل من مكان إلى آخر متخذًا الكهوف سكنًا له، كما تعرض إلى مخاطر بالغة تمثلت في الكوارث الطبيعية والحيوانات الضارية.

بعد استخدام المعادن واكتشاف الزراعة تطورت وسائل الإنتاج وأصبحت الزراعة هي النشاط الاقتصادي الرئيسي مقترناً بالاستقرار وظهور الملكية الفردية، ومع عدم وجود مصدر آخر للطاقة غير الطاقة العضلية كان الإنسان هو مصدر الطاقة الوحيد ومن هنا ظهر الرق.

تطورت قوى الإنتاج من جديد وتمكن الإنسان من إخضاع الحيوان للقيام بالأعمال المختلفة مع ظهور بعض الحرف البسيطة، فتطور النظام السائد إلى الإقطاع وتحول الرقيق إلى قن الأرض مع السيطرة الكاملة للنبلاء الإقطاعيين.

أدى اكتشاف الطاقة البخارية بعد ذلك إلى قيام الثورة الصناعية وتطور وسائل الإنتاج بشكل كبير، وبالتالي تغير علاقات الإنتاج السائدة، فظهر النظام الرأسمالي مناديًا بتحرير العمال من جميع القيود وحرية التعاقد لجميع العاملين تحقيقًا لمصالح أصحاب رؤوس الأموال، حتى يتسنى لهم الحصول على الأيدي العاملة التي يحتاجون إليها، فأصبح هناك سيطرة واستغلال من جانب الطبقة الرأسمالية للطبقة العاملة التي ضمت إليها الأطفال مع ظروف عمل قاسية لساعات طويلة والحصول على مقابل أقل من الكفاف.


أسطورة الـ 8 ساعات

تعترف العديد من دول العالم الآن بنظام عمل الثمان ساعات يوميًا لمدة 5 أيام في الأسبوع؛ مما جعل الأمر مسلّمًا به بالنسبة للعاملين أيًا كان مجال عملهم، ولكن الأمر لم يكن كذلك على الدوام.

أحدثت الثورة الصناعية تغيرات كبيرة في نظام العمل وحياة العمال، جعلت لصاحب العمل الحق في إدارة أعماله بالطريقة التى تُدِر عليه دخلاً أكبر حتى وإن اضطر لظلم العاملين لديه، فضمت العمالة العديد من الأطفال الذين حُرموا من عيش حياتهم الطبيعية ووصلت ساعات العمل في الظروف العادية إلى 16 ساعة يوميًا في بيئة غير آمنة وبمقابل غير مُجزٍ. واستمر الوضع على هذا النحو حتى بدايات القرن التاسع عشر حين تزايدت المطالبات بتخفيف ساعات العمل إلى 12 ساعة ثم 10 ساعات استجابت لها في معظم الأحيان مبادرات فردية من أصحاب الأعمال.

في عام 1914 فكر «هنري فورد» بأن ساعات العمل الطويلة من شأنها أن تقلل إنتاجية العمال فيصبحون أقل قدرة على العمل المتواصل، ومن ثم نفّذ فكرته بتطبيق نظام عمل الـ 8 ساعات يوميًا في المصانع والأعمال التابعة له بل وضاعف الأجر اليومي للعمال، وفي خلال عامين زادت إنتاجية مصانع فورد بدرجة ملحوظة حتى بلغت أرباحه الضعف مما حفز باقي أصحاب الأعمال على أن يحذوا حذوه، وبمرور الوقت أصبح شعار الثمان ساعات مطلب العديد من جماعات واتحادات العمال في دول مختلفة مما دفع تلك الدول واحدة تلو الأخرى لتعديل قوانين العمل لديها والاستجابة لمطالب العمال.


مستقبل العمل

8 ساعات للعمل، 8 ساعات للترفيه، 8 ساعات للراحة.
من لا يملك ثلثي يومه فهو عبد.
نيتشه

منذ 87 عامًا تنبأ عالم الاقتصاد الأمريكي مينارد كينيز أنه في غضون مائة عام وبحلول عام 2030 ستتقلص ساعات العمل الأسبوعية إلى 15 ساعة أسبوعيًا، بسبب التكنولوجيا وتطور وسائل الإنتاج الذي سيؤدي إلى تقلص المجهود المطلوب لإنجاز الأعمال، مما سيدفع الأجيال اللاحقة للعمل يومين فقط أسبوعيًا ويصبح لديهم حافزًا أقوى للاستمتاع بأوقات فراغهم مع من يحبون أو ما يحبون. هل أخطأ كينيز في نبوءته وتقدير قوة الحافز، أم أخطأنا نحن في اختياراتنا؟.

كان الهدف من التقدم والتكنولوجيا هو زيادة رفاهية الإنسان وتقليل الجهد اللازم لإنجاز الأعمال، ولكن خلال المائة عام الأخيرة بالطبع تطورت التكنولوجيا أضعاف ما كانت عليه في الماضي ولم يعد إنجاز الأعمال يتطلب التواجد في مكان ووقت محدد، ولكن بدلاً من أن يؤثر ذلك بالإيجاب على سياسيات العمل وعلاقات الإنتاج في العصر الحالي، أصبحت الأغلبية العظمى تعمل لمدد أكثر من ثمان ساعات وتواجه ظروفًا صعبة تؤثر بالسلب على صحتها النفسية والجسدية وعلاقاتها الإنسانية، وبالتالي على عملها أيًا كان. فهل تحتاج الأعمال فعلاً إلى كل هذا الوقت لإتمامها؟.

لا أعتقد أن أياً منا يقضي ساعات عمله اليومية المقررة في إنجاز الأعمال، بل واقعيًا تُنجز تلك الأعمال في وقت أقل ويُوزع الوقت الباقي بين المحادثات الجانبية والأنشطة الأخرى.

لا أعتقد أن أياً منا يقضي ساعات عمله اليومية المقررة في إنجاز الأعمال، بل واقعيًا تُنجز تلك الأعمال في وقت أقل ويُوزع الوقت الباقي بين المحادثات الجانبية والأنشطة الأخرى التي يدفع بها الأفراد الوقت حتى يمر. تخيل أنه تم أخبارك بأن أمامك فقط 4 ساعات لإنجاز العمل الموكل إليك، بالتأكيد سيصبح لديك حافز أقوى على العمل والتركيز لإنجازه في الوقت المطلوب وبالتالي ستزداد إنتاجيتك وفي نفس الوقت سيتوفر لديك فراغ أكبر لقضائه بالطريقة المناسبة لك.

تختلف اختيارات البشر حسب المنفعة التي يتوقعها كل إنسان من اختياره وتحمله تكلفة الفرصة الضائعة التي سيفقدها مقابل اختياره، فساعة أخرى تقضيها في عملك يُفترض أن تمنحك عائدًا ماديًا ومعنويًا أكثر من نفس الساعة التي تقضيها بمفردك أو مع من أو ما تحب حتى يصبح اختيارك عقلانيًا ومربحًا.

هذا ما دفع عدة دول إلى تقدير قيمة حياة الإنسان، وفي نفس الوقت حافظت على مستويات اقتصادياتها المرتفعة بتركيزها أكثر على جودة العمل في مقابل الوقت، فقامت بتقليل ساعات العمل وتوفير بيئة عمل أكثر مرونة، ومنحت مواطنيها ميزات وقت أكثر لقضائه مع عائلاتهم والتركيز على أنشتطهم التي تسمح لهم أن يحيوا حياة سعيدة، وبالتالي زادت إنتاجيتهم. فعلى سبيل المثال يبلغ متوسط ساعات العمل 33 ساعة أسبوعيًا في الدنمارك والنرويج، و 35 ساعة في ألمانيا وسويسرا، و 36 ساعة في السويد.

في النهاية توفي كينيز إثر تعرضه لأزمة قلبية نتيجة الجهد المضاعف الذي كان يوليه لأعماله المتزايدة، ولم يستمع لنصيحة زوجته بالحصول على قسط أكبر من الراحة.

قد لا يلائمنا نمط حياة الباندا، ولكن يجب أن نعيد النظر في نمط حياتنا ومدى عقلانية اختياراتنا قبل أن نصدر أحكامنا… حتى على الباندا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.