قد يسأل البعض ما هي القيمة من قراءة رواية إيروتيكية؟ أو لماذا أضيع وقتي في بعض السطور التي تتحدث عن هذا التابوه المحرم؛ الجنس؟ كثيرة هي هذه الأسئلة ومتعددة، ولكن لحسن الحظ يمكن أن نجد إجاباتها في موضع واحد، أو عند شخص واحد هو هذا الكاتب اللاتيني «يوسا»؛ فعندما يكتب عن الجنس فأنت تشاهد لوحة فنية لا تملك إلا أن تقف أمامها مشدوهًا، أنت تقرأ رواية مكتوبة بلغة شاعرية لا تملك إلا أن تقرأها بكل حواسك.

في هذه الرواية لا يتحدث «يوسا» عن الجنس فحسب، أو يقوم بتصوير بعض المشاهد التي لا ينبغي عرضها إلا على الكبار فقط، هو يكتب ويتحدث عن شيء أعمق، هو يقصد غاية أسمى من مجرد وضعيات يؤديها متحابان شبقان على فراش.

تدور أحداث الرواية في خط زمني متسلسل، يتخلله عرض وتأمل لبعض اللوحات الفنية. فنجد في الرواية مثلًا ثلاث شخصيات رئيسية، لكلٍ دورها في توصيل رسالة «يوسا» من الجنس، أو من هذه الرواية على الأقل. توجد شخصية فرعية وجدتها قليلة التأثير في الأحداث بعض الشيء، ولكن لم تؤثر سلبًا على أحداثها.


الشخصية الأولى هي «دون ريغوبيرتو». هو لا يتعامل مع الجنس على أنه مجرد لحظات ممتعة يقضيها مع زوجته يفرغ فيها شهوته كل نهاية أسبوع، بل الجنس بالنسبة له أشبه بعمل مقدس له، فرضه على نفسه كل ليلة، عمل مقدس له طقوس يجب عليه تأديتها كل ليلة حتى يتم الأمر على أكمل وجه. هو أيضًا يتعامل مع الجنس على أنه أسلوب حياة، فهو يخبئ في خزانته الكثير من الكتب واللوحات الأيروتيكية، التي يستلهم منها عشقه وشغفه بزوجته الجميلة.

قبل كل لقاء مع زوجته «دونيا لوكريثيا» يقوم بالاغتسال وكأنه يتطهر:

فقد كانت نظافته الشخصية بعد لوحات الرسم الأيروتيكية هي عمله المفضل لتزجية الوقت، أما النظافة الروحية فلم تكن تهمه كثيرًا.

إذ نجد أن ريغوبيرتو يكن الكثير من التعظيم لهذا الاغتسال، فهو يهتم بنظافة جسده أكثر من روحه، وهو الذي كان عضوًا مهمًا في المجمع الكاثوليكي، ثم لم يجد أي فائدة فيما يفعله، فتركه وقادته روحه إلى أنه يمكن تحقيق الكمال عن طريق النظافة الشخصية مثلًا، أو الممارسة الأيروتيكية. و هذا ما جعله يخصص لكل عضو من جسمه يومًا للاغتسال! أو يمكننا القول الطهارة.

فكل مرة يخرج من اغتساله يشعر على الرغم من كل شيء بأن الحياة تستحق أن تعاش.

في الواقع رسم يوسا شخصية ريغوبيرتو بشكل مبدع للغاية، وكأنه فرد مثالي أو على الأقل زوج مثالي. في شخصية الـريغوبيرتو نجد أيضًا أنه يحب نفسه ويفتخر بها وبتقبلها حتى مع عيوبه الظاهرة للناس، كأذنيه الكبيرتين مثلًا، وتقبله لهذا العيب في هيئته جعل على الأقل زوجته تحبه وتقبل به بل وحتى تداعبه ملاطفة: «دومبوياي المحببين»، و كأن يوسا يخبرنا أنه عليك تقبل نفسك بما هي عليها حتى يتقبلك غيرك.

نجده أيضًا فيما يخص لقاءاته الجنسية مع زوجته يخرج عن المألوف والمعتاد في الممارسات الجنسية. فيكتشف ويجرب أساليبَ جديدة في الجماع كل مرة.

هذه الليلة لن أفعل شيئًا سوى سماع الحب.

فهو لا يكتفي باستخدام أعضائه الجنسية فقط، بل يستخدم حتى أذنيه: «دعيني أسمع نهديك.. هذه الأصوات هي أنت أيضًا يا لوكريثيا، إنها الكونشيرتو الخاص بك». هو حتى يستخدم أنفه في الجماع: «دعيني أستنشقك يا حبي».

من أين لهذا الشيطان يوسا أن يأتي بهذه الممارسات التي ما زالت حتى هذا اليوم تعتبر شاذة؟ فما بالك عند صدور الرواية أول مرة؟ أرى أن يوسا كان له دور كبير في الخروج عن المألوف في الفراش بهذه الرواية.

إذن شخصية بهذا الكمال، هل يمكن أن نجد ما يعيبها؟ في رأيي الشخصي أكبر عيب في شخصية دون ريغوبيرتو هو تخاذله ناحية علاقة زوجته الجميلة بطفله من زوجته السابقة، ناسيًا أو متناسيًا أنه ذكر أيضًا، أو ظن أنه مازال في طفولته، فلن تؤثر عليه عوامل أخرى تجعله شاذًا مثلًا، نسي تمامًا أنه وبطبيعة الحال وبطبيعة فطرته الذكورية وهو في مرحلة البلوغ ينجذب جنسيًا للأنثى لا إردايًا، أم تراه كان مخدوعًا بالعبارة: «الطفولة رمز البراءة»؟ سأؤجل الحديث عن هذه البراءة قليلًا.


ننتقل إلى الشخصية الرئيسية الثانية وهي الزوجة الجميلة «دونيا لوكريثيا». في الواقع لم أستطع أن أرى هذه الزوجة إلا «عاهرة شبقة»، فكل ما كان يهمها هو إشباع شهوتها وفقط، سواء كان من زوجها مكتمل الفحولة أم من طفل لم يبلغ الحلم بعد! هذه الزوجة التي بلغت الأربعين عامًا وأصبحت في قمة شهوتها الجنسية، تهتم بنفسها وبجسدها كثيرًا وتحبه كثيرًا:

لن أهرم ابدًا، حتى لو اضطررت إلى أن أبيع روحي أو أي شيء آخر، لن أكون قبيحة أو تعيسة، سأموت جميلة وسعيدة.

في شخصية لوكريثيا يسلط يوسا الضوء على مشكلة الزوجة الثانية في وجود طفل من الأولى، وكيف تستطيع أن تضم الطفل إلى صفها، وتجعله يحبها حتى تنعم برغد العيش في كنف زوجها: «متى أمكن لزوجين أن يسعدا بوجود ابن امرأة أخرى؟» في حالة لوكريثيا لم تكتفِ بأن تكسب الطفل في صفها، بل جعلته يعشقها أيضًا: «فالفونسيتو يعبدها، وربما أكثر من اللازم!»

تتعجب لوكريثيا من حب ألفونسو الزائد، وكيف يقبلها ويقوم بضمها عندما تقترب منه: «كان يطلب منها القبلات وتمنحه إياها في كل هذا الوقت، بحماس يجعلها ترتاب أحيانًا». وتسأل نفسها عما إذا كان الطفل فعلًا يكتشف الشهوة. وأنا أرد على سؤالها: كيف لا يكتشف الشهوة وهو ابن دون ريغوبيرتو عاشق الجنس والممارسات الأيروتيكية حد الجنون؟ كيف لا يكتشف الشهوة في حضرة زوجة جميلة مكتملة الأنوثة شبقة جنسيًا لا تتوانى عن ضمه إليها وتمنحه القبلات في كل وقت وتذهب للاطمئنان عليه ليلًا وهي شبه عارية؟ هل يمكن أن نظل ندعوه بالطفل بعد الآن؟ حتى عندما أخبرتها الخادمة بأن الطفل يتلصص عليها عندما تستحم، احتارت في أمرها هل تخبر الوالد، أم تتحدث مع الصبي، وعلى العكس، قامت بتحويل هذا الفعل إلى شيء استمتعت به في إحدى الليالي بعدما عرفت بهذا الموضوع.

مع لوكريثيا أيقنت فيما يعتقده البعض في أن الأنثى هي ابتلاء، وهي سبب كل الشرور في هذا العالم؛ أليست هي من أغوت «آدم» وجعلته يأكل من التفاحة التي قذفت به من نعيم الجنة إلى جحيم الأرض؟ أليست هي من أرسلها «زيوس» ابتلاء لأبناء «برومثيوس» من البشر؟


الشخصية الثالثة وهي الطفل «ألفونسو»، إذا كنت تعتقد أن الطفولة رمز للبراءة، فأنت لم تتعرف بعد على هذا الشيطان الصغير الذي ابتدعه الشيطان الأكبر يوسا.

مع ألفونسو ينقل يوسا فعل الجنس من مجرد فعل محدود إلى فعل أعمق وتضاد أكبر، وهو الرذيلة والفضيلة، وكأن يوسا يقول لنا إنه لا فرق بين طفل صغير أو عجوز عتيّ، فالنفس البشرية واحدة، الرذيلة والفضيلة كالين واليانج بداخلها، الخير والشر بداخلنا جميعًا، والعوامل الخارجية فقط هي من تعطي الغلبة لأحدهما على الآخر.

يتخلل التسلسل الزمني للأحداث لوحات فنية يقوم يوسا بتأملها، وبإخبارنا قصة هذه اللوحات الرائعة، ربما أكثر ما أعجبني في هذه اللوحات هي اللوحة الأولى لزوجة الملك «قنداولس» ملك ليديا تركيا -، ولوحة البشارة التي يسرد يوسا قصتها، وهي قصة السيدة «مريم» مع حملها.

رواية مبهرة، رائعة، لا يمكننا إلا أن نقوم برفع القبعات والتصفيق لهذه العبقرية الشيطانية التي كتبتها على كرسي في العالم السفلي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.