أكبر دولتين من حيث السكان في العالم، صاحبتا أكبر ترسانتين نوويتين،  المتحكمتان في أكبر جيشين في العالم، تصارعا، مؤخرًا، بالحجارة والعصيّ الخشبية. النزاع الذي ظهر كأنه مشاجرة بين جيران في شارع شعبي أسفر عن مقتل 20 ضابطًا هنديًا، ووقوع 43 إصابة في صفوف الصين، حسبما أفادت وكالات الأنباء الهندية.

النزاع حدث في منطقة حدودية تفصل بين العملاقين الآسيويين، لكنها حدود الأمر الواقع لا حدود الاتفاق الرسمي بين البلدين. تُسمى تلك المنطقة «منطقة السيطرة الفعلية» في وادي جالوان الواقع في ولاية لداخ الهندية على هضبة التبت. زيادةً في الارتباك تقع كل تلك الجغرافيا في منطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان، لتصبح بذلك تلك المنطقة مكانًا لصراع نفوذ ثلاث قوى عاتية، الهند وباكستان والصين.

لكن إذا حيّدنا باكستان لوهلة وركزنا في الصراع الهندي الصيني فسوف تجد أن وادي جالوان كان موقعًا للعديد من الاشتباكات بين الدوريات الصينية والهندية، وغالبًا ما يتم وصفها إعلاميًا بالـحوادث. دوريات البلدين دخلت المواقع التابعة للطرف الآخر مئات المرات على مدار السنوات الماضية، كانت الأمور تُحل كل مرة بعد أسابيع مريرة من المفاوضات.

 آخر مرة كانت عام 2017 واضطر الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الهندي لعقد قمتيّن غير رسميتين لتهدئة الأوضاع. في تلك المرة كاد الأمر يقترب من حرب طاحنة، الصين كان تعمل على تمهيد طريق قرب منطقة مُتنازع عليها تُدعى «بهوتان»، فتحركت مئات القوات الهندية وأغلقت الطريق أمام القوات الصينية. الهنود منعوا الصينيين بالقوة العسكرية من التحرك، فاستدعى الصينيون الدعم العسكري كذلك. ولم يتزحزح أي جندي من الطرفين من موقعه إلا بعد الاتصال بين الزعيمين.

قتلى لأول مرة منذ 40 عامًا

جانب من الصراع الهندي الصيني

 لكن في أبريل/نيسان 2020 بدأ الطرفان في نشر دبابات وقوات مدفعية وصواريخ متوسطة وبعيدة المدى. التدعيمات على الأرض رافقها غطاء جوي كثيف من مقاتلات جوية وطائرات هجومية، لكن كل ذلك كان في محيط الوادي لا داخله.

بعد شهر من تلك التدعيمات، في مايو/ آيار، تحدث الإعلام الهندي عن قيام الصين بعمليات حفر ونقل معدات ثقيلة لعدة كيلو مترات داخل المنطقة التي تراها الهند جزءًا أصيلًا من أراضيها. لكن ما لم يذكره الإعلام الهندي أن خطوة الصين جاءت بعد قيام الهند بمد طريق لعدة مئات من الكيلومترات تصل من خلاله إلى قاعدة جوية هندية في مكان مرتفعٍ في الوادي.

لذا كان من المنطقي أن يكون يونيو/ حزيران الجاري شهر التصادم الفعلي إذا كانت التوترات قد وصلت لذروتها. الصين قالت إن الهند هي التي تقوم بأفعال مستفزة وتتعمد إثارة المشاكل، بينما قال الهنود: إن الصينيين هم من تجاوزا الحدود واستفزوا الجنود الصينيين. سيناريو يتكرر منذ 40 عامًا، المختلف فقط هذه المرة أنها المرة الأولى التي يسقط فيها ضحايا.

الهند والصين تجمعهما حدود مشتركة، جارتان بامتداد 3440 كيلومترًا من الحدود المشتركة، لكن بعض المناطق المشتركة هي مناطق يتنازع البلدان في السيادة عليها. التنازع بدأ لحظة زوال الاستعمار البريطاني، ورفضت الصين حينها الاعتراف بالحدود التي رسّمها البريطانيون منذ الخمسينيّات. خاصةً وأن الصفقة البريطانية كانت ستمنح التبت استقلالها رسميًا شريطة أن تبقى اسميًا تحت السيادة الصينية.

حلول مع إيقاف التنفيذ

تحرك القوات في المناطق الحدودية

 المناوشات استمرت حتى أدّت إلى حرب شعواء بين الهند والصين عام 1962، انتهت الحرب بهزيمة مهينة للجانب الهندي.

الحرب لم تُنهِ النزاع لكن سيطرت بها الصين على منطقة «أكساي تشين»، بينما ظلت المناطق الأخرى قيد النزاع كما هي. الهند تقول إن الصين تحتل قرابة 38 ألف كيلو متر من الأراضي هندية الأصل والسيادة، الصين من جانبها تطالب بولاية «أروناتشال براديش»، وتسميها التبت الجنوبية. بينما  توجد مناطق محددة كالسابقتيّن تحكمها دولة وتطالب الأخرى بها، لكن هناك مناطق أخرى كقمم جبلية مغطاة بالثلوج وأنهار وبحيرات لا يحكمها أحد من الدولتين حتى الآن ويتنازعان كذلك بشأنهما دائمًا.

النزاع كان غالب الوقت نزاعًا حول طاولة المفاوضات، 30 عامًا من المفاوضات الفاشلة، لم تحل المسألة لكنها حافظت على قدر من الاستقرار في المنطة. ووقع الطرفان اتفاقية «حفظ السلام والهدوء» عام 1993، لكن الاتفاقية والـ20 جولة تفاوض التي تلتها، لم يحسموا الخلاف، لا نظريًا ولا على أرض الواقع.

 فعلى الأرض كانت الصين تخوض حربًا باردة حول المناطق المتنازع عليها بتدشين بنى تحتة ومد خطوط سكك حديد ورصف طريق برية. الحرب كانت من طرف واحد حتى قرر ناريندرا مودي، رئيس الوزراء الهندي، اللحاق بركب الصين في هذا الصدد. فبدأت الهند ببناء عشرات الطرق حول خط السيطرة الفعلية، يمتد أحدهم إلى وادي جالوان حيث المواجهة الأخيرة، ومن المفترض أن تنتهي تلك المشروعات في ديسمبر/ كانون الأول 2022.

السعي إلى ما وراء الحدود

الصراع لا يقتصر على كونه نزاعًا على منطقة حدودية، بل يعكس رؤية كل دولةٍ لنفسها. الصين ترى نفسها قوة عظمى ستحل محل الولايات المتحدة في الهيمنة العالمية لذا تريد إخضاع الهند، خاصةً والاقتصاد الصيني خمسة أضعاف الاقتصاد الهندي.  أما الهند، فهي تناطح الصين طمعًا أن يكون لها مكان مهم في عالم متعدد الأقطاب ربما يُوجد يومًا.

 لذا سعت الهند لإلغاء الحكم الذاتي الممنوح لإقليم جامو وكشمير، وأعادت رسم خريطتها لتُقدّم نفسها كدولة كبرى بحدود مترامية. الخريطة الجديدة تضع إدارة هندية فدرالية على ولاية  لداخ الهندية، لداخ تضم منطقة «أكساي تشين» التي تسيطر عليها الصين، لكن تدعي الهند أنها تعود إليها.

رغم أن النزاع على كشمير بين الهند وباكستان في المقام الأول، فإن الهند تراه أيضًا صراعًا بينها وبين الصين. فالتحالف الباكستاني الصيني مزعج للهند، وترى أن الصين هي مصدر كل الأسلحة النووية التي تمتلكها باكستان. في الناحية الأخرى تبدي الصين انزعاجها من العلاقات بين الهند والتبت، خاصة بعد أن فر «دلاي لاما»، الزعيم الروحي في التبت، إلى الهند عام 1959 بعد انتفاضته الفاشلة. ورغم أن الهند لم تعترف بحكومة التبت المنفيّة، فإن رئيس الحكومة كان من بين الحاضرين في حفل تنصيب مودي عام 2014.

ويتحسس البلدان كذلك من سيطرة أيهما على شركات الآخر، فقامت الهند بسن قانون يمنع الشركات الصينية من السيطرة على الشركات الهندية التي خسرت رأسمالها بسب جائحة كورونا.  لكن كل ما سبق كان سلميًا، لا دماء فيه ولا ضحايا، لذا فحادثة يونيو/ حزيران 20 20 قد تعني بداية جديدة في طريقة التعاطي مع التوتر بين البلدين.

الحرب الباردة اختيار الطرفين

هل يمكن أن تتصاعد الأحداث بين الصين والهند؟

 البداية الجديدة يمكن استقراؤها في تزامن المناوشات مع الارتباك العالمي بسبب جائحة كورونا، الهند قالت إن الصين تحاول شغل العالم بتلك المناوشات عن كونها المتسبب في تفشي وباء كورونا للعالم. حتى أن الهند ربطت المناوشات بانضمامها للأصوات العالمية المنادية بفتح تحقيق دولي في تفشي الوباء وبمسئولية الصين تجاه الدول المتضررة منه.

 بالتأكيد يُستبعد أن تكون حربًا نووية، لكن حتى الصواريخ الباليستية متوسطة المدى التي تضج بها ترسانة الطرفين يمكن أن تكون كارثية الأثر على كليهما. بجانب أن كليهما قوتان اقتصاديتان عالميتان، مما يعني أن الحرب سوف تُلقي بظلالها على العالم بكامله، لذا من المستبعد أن تسمح القوى العالمية لحربٍ كهذه أن تنشب أبدًا. ويبدو أن مودي هو الآخر يدرك حقيقة أنه لا  يستطيع أن يسمح للانفعال اللحظي المدفوع بالغضب الشعبي أن يورطه في حرب مع عدو مثل الصين.

لذا نجد مودي ذاته هو من يتكفل بالرد على القوميين والمتشددين داخل حدوده، حتى لو كان ذلك بالتقليل من شأن مقتل جنوده. لكنه في الوقت ذاته يخبر شعبه أن الجيش الهندي مستعد للانقضاض على كل من يهدد حدود بلاده، كلماتٌ لا يرافقها تحرك على المستوى الدولي، أو حتى على الأرض، لذا فهي أقرب لإظهار القوة للجمهور المحلي وتعزيز معنويات الجبهة الهندية فحسب.

التخوف العالمي من نشوب حرب يظهر في تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 27 مايو/ آيار الماضي أنه مستعد وقادر على الوساطة بين الطرفين وعلى التحكيم الحدوديّ بينهما. والهدوء الثنائي يظهر في رفض الطرفين تلك الوساطة بشكل سريع وصريح.

 الصين قالت إنها لا تريد طرفًا ثالثًا في الخلاف، والهند قالت، إنها قادرة على حل النزاع، وإن الصين تتصرف بشكل مسئول حين تتصاعد الأمور. مما يعني أن احتمالية الحل القريب تبدو بعيدةً، وسيناريو نشوب حرب خاطفة أو نووية يبدو مستبعدًا كذلك، إذن فالسيناريو الأقرب لرغبة البلدين هو حرب باردة لا تنتهي ومناوشات تتصاعد حينًا وتهدأ أحيانًا.