قرأت ذات مرة مقالة للمخرج «محمد خان»، يقول فيها إن المخرج يصنع فيلمًا واحدًا فقط، ليظل يعيد صياغته بطرقٍ مختلفة بعد ذلك!


مخرج ذو ريشة خاصة

إذا كان من الممكن وضع مثال توضيحي لهذه الكلمات، فلن يوجد أفضل من المخضرم «كوينتن تارانتينو». للرجل بصمة واضحة وريشة – إذا صح التعبير – لا تخص أي رسام شخصيات دونه، هذا ما سيشعر به أي متفرج ومتابع لمسيرته السينمائية التي بدأت منذ أواخر الثمانينيات تقريبًا وما أثمرت عنه من تحفٍ فنية لا يسعِنا الوقت للحديث عنها، حيث الكوميديا السوداء والدموية المفرطة المختلطة أحيانًا بالعبثية كأن يقتبس مقولة من على لسان أحد شخصياته مثلًا داخل أحد أفلامه بفيلمٍ آخر، أو أن ترى الشخصية تمدح في الموسيقى التصويرية الخاصة بأحد المشاهد!

هو خليط غريب رغم ما لاقاه من نقد إلا أنه أثمر لغةً سينمائيةً مميزة وغير تقليدية، ولها جمهورها وعشاقها المولعون بها. لغة جديدة حولت Inglorious Bastards إلى Inglourious Basterds الخطأ الهجائي الذي وعند سؤال «تارانتينو» عن سببه أجاب بأسلوبه في صناعة السينما، وكأنه شخصية داخل أحد سيناريوهاته، بأنها طريقته الخاصة لنطق الجملة!


فيلم جيد جدًا!

ووفقًا لما سبق، ففيلم Inglorious Basterds هو حالة الوهج الحقيقية التي تظهر فيها تفاصيل لغة «تارانتينو» وتتجلى فيها معالم لوحته السينمائية وضوحًا، وإذا صح ما قاله ذات مرة بأن يكفي أن يكون المرء عاشقًا للأفلام ليصنع واحدًا جيدًا، فصناعة هذا الفيلم تؤكد أنه كان عاشقًا نهِمًا للأفلام!

الفيلم وعلى طريقته المعهودة مقسم لفصولٍ، كان عددها هنا خمسة، كل فصلٍ فيهم يصلح بأن يكون فيلمًا على حدة، وإن لم يخُنّي ظني فأعتقد أن الفصول تمت كتابتها على مراحل متفاوتة، ولن أبالغ إن قلت إن المشاهد نفسها قد كُتبت على مراحل متفاوتة، وما يرجح النظرية هو الوقت الذي قضاه في كتابة السيناريو. عشر سنوات!

فما يصلك منذ المشهد الأول بالفيلم، وهو أن «تارانتينو» يتعامل مع كل مشهد، وكأنه المشهد الأخير والأهم بفيلمه، وباعتناق نفس وجهة النظر بشكل أكبر، فإنه يتعامل مع الفصول بنفس الطريقة، الدقة المتناهية في حركة الكاميرا وما يود قوله بها، واستخدام كل شخصية داخل المشهد لكلماتٍ منتقاة بعناية وكأنها قد مرت على فلتر للشخصية لا يسمح بوجود أي كلمة لا تناسبها، ثم الحوارات الطويلة ومشاهد الـ Master Shot، والتي تصلك من خلالها وجهات نظر الشخصيات ومعتنقاتهم المختلفة.

فتارانتينو هنا لم يذكر على لسان أي شخصية أي صفة من صفاتها أو مبدأ من مبادئها، بل جعلك تستنبط كل ذلك بحواراتٍ حول السينما، والموسيقى، وأحيانًا السياسة. حوارات قد تبدو غير ذات قيمة إلا أنها تغلف داخلها فلسفات ووجهات نظر وأبعاد نفسية لكل شخصية من شخصياته.


قصة ذات بداية غير متوقعة

تبدأ أحداث الفصل الأول «حدث ذات مرة في فرنسا.. تحت الاحتلال النازي» عام 1941 داخل الريف الفرنسي بمشهدٍ هادئ تمامًا وبعيد كل البعد عن أن يصلح كبداية لفيلمٍ حربي. لكنه ذلك الهدوء الذي يُشعرك بأن أمرًا ما سيحدث، المزارع «بيريه لابديت» يعمل بحقله في هدوء تام، إلى أن يظهر الكولونيل النازي «هانز لاندا» الذي أدى دوره الممثل ألماني الأصل «كريستوف فالتز» في أولى انطلاقاته الهوليودية، التي كانت موفقة تمامًا فحصل على جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد عنها، والتي كانت مستحقة بجدارة! بالإضافة للجولدن جلوب وجائزة مهرجان كان.

يستقبل «لابديت» الكولونيل الملقب بصائد اليهود، اللقب الذي يعود لأسبابٍ عدة كما أوضح هو نفسه، أهمها أنه يفكر مثلهم! يستقبله داخل منزله ليبدأ أول وأعظم المشاهد الحوارية بالفيلم أو السينما بشكلٍ عام، «هانز لاندا» الذي يتقن وبشدة أربع لغات داخل الفيلم والمزارع الفرنسي الذي لا يفهم سر الزيارة المفاجئة حتى الآن.

لغة جسد «لاندا» المحسوبة وخطواته الرزينة وتحول تعبيرات وجهه المدروسة لا تسعك إلا أن تركز كامل وعيك لما يحدث وسيحدث. تمامًا مثلما فعل «لابديت».

يتضح سبب الزيارة فيما بعد، فهانز يبحث عن عائلة يهودية ضمن أربع عائلات كانت تعمل بالزراعة في نفس منطقة عمل «لابديت»، لكنها العائلة الوحيدة منهم التي تبخرت تمامًا ولم يعثر عليها لاندا الذي يُرجع الأمر حسب قوله إلى أنه «إما أنها عائلة بارعة في الهروب أو أن شخصًا ما لا يعرفه بارع في إخفائها».

ينتهي المشهد وبعد تحول الحوار من اللغة الفرنسية للإنجليزية بطلب من الكولونيل بنتيجة مفادها أن المزارع يُخبئ العائلة بمنزله، لتُقتل بذلك كل أفرادها عدا «شوشانا/ميلاني لوران» التي تنجو من «لاندا» نجاة مؤقتة حيث يؤكد الرجل قائلًا: «سنلتقي مجددًا»، ليكون هذا المشهد بمثابة ميلاد الشخصية الأهم بالفيلم وعقد اتفاق مع «تارانتينو» أن الأمور لن تسير على ما يرام!

وعند هذه النقطة تبدأ أحداث الفصل الثاني «أوغاد مجهولون»، والذي نتعرف فيه على الفرقة التي تحمل نفس الاسم بقيادة الملازم «آلدو رين» الذي لعب دوره «براد بيت». الفرقة التي تحاول تلقين النازيين درسًا ما يؤكد آلدو أنه «درس بعيد عن الإنسانية حيث إن النازيين لا يعرفون الإنسانية» بينما كانت تستعرض كاميرا «تارانتينو» حركته وأعضاء الفرقة في إمتاعٍ بصريٍ فريد، وينتهي الفصل بنتيجة مفادها أن الفرقة لا تعرف الإنسانية مع النازيين!

يبدأ الفصل الثالث «ليلة ألمانية في باريس» بالعودة مرة أخرى لشوشانا بعد أربعة أعوام من نجاتها وما وصلت إليه. فنتعرف على هويتها الجديدة كمالكة لسينما، واسم جديد هو «إيمانويل ميمييه»، ونتعرف كذلك على صاحب الإنجازات الحربية «فريدريك زولر» الذي يلاحق «إيمانويل» ويعرض عليها أن تقوم بعرض فيلم «فخر الأمة» الذي صُنع عنه تقديرًا لإنجازاته بصالتها، يتقابل في نهاية الفصل أيضًا «لاندا» مع «شوشانا» أو «إيمانويل»!

توافق «إيمانويل» على عرض الفيلم ليبدأ الفصل الرابع «عملية كينو» الذي تتحدد خلاله أهداف الشخصيات أكثر، فنتعرف على خطة «إيمانويل» وخطة البريطانيين وخطة فرقة «الأوغاد المجهولون» أيضًا. لننتقل إلى الفصل الخامس والأخير من الفيلم «انتقام الوجه الكبير».


المنطقة الرمادية وفقدان البوصلة

تبدأ هنا – في الفصل الأخير – مرحلة يتميز بها «تارانتيو» وليس فيها، فهي خاصته فقط من وجهة نظري. يُتقن اللعب فيها جيدًا، ولعلها كانت متوهجة وساطعة هنا بشدة مقارنة بجميع أفلامه، فتشعر وكأن كل ما حدث كان هدفه صناعة تلك المساحة لاستقبال ما سيحدث، حيث يقوم بتجميع شخصياته داخل مكان واحد كان هنا هو السينما نفسها، تمامًا مثلما فعل في تجربته الاستثنائية Reservior Dogs وكررها مؤخرًا في Hateful Eight لتفاجأ بمعادلة كيميائية متفاعلاتها الشخصيات وناتجها خام من المتعة الفريدة التي لن تجدها عند سواه.

إنها المرحلة التي تتعطل فيها بوصلة كل طرف من أطراف المعادلة والصراع فلا تعد تشير إلى أي جهة ليصلوا بذلك لمنطقة رمادية يفقدون فيها كل شيء. «تارانتينو» نفسه تشعر وكأنه «شال إيده من الموضوع» وترك شخصياته تتصرف على سجيتها التي كونها منذ البداية ليشاركك المشاهدة والترقب لما سينتج عن خلطته السحرية ذات المقادير الرائعة والموزونة.

لا وجود هنا للخطط والحسابات والتوقعات، فكل ما يحدث يصبح عشوائيًا وعبثيًا إلى أقصى حد وعلى كل المستويات، بما فيها الموسيقى التصويرية!

المشاهد الأخيرة كانت سريعة تمامًا مقارنةً ببقية مشاهد الفيلم، تقنية الـ Stead Cam تجلت في أكثر من مشهد مما ضاعف قدر التشويق والإثارة الموجود مسبقًا!


فيلم مختلف

رغم تصنيف الفيلم على أنه فيلم حربي فإنه لم يتبع أيًا من تكنيكات الأفلام الحربية المعهودة والمعروفة، فلم يرد بالفيلم معارك حربية كبيرة باستثناء بعض مشاهد «فخر الأمة» الصغيرة جدًا، ولم يكن كذلك عن قصة حقيقية برزت فيها قومية الجيش ووطنيته، أو كان سيرة ذاتية لشخصٍ ما أثناء الحرب، ابتعد الفيلم عن كل تلك الأفكار، فمعظم الشخصيات وجميع الأحداث خيالية لأقصى حد.

كان بعيدًا كذلك عن تكنيكات التاريخ البديل المتعارف عليها فمُعظم المعالجات السينمائية والتليفزيونية لفكرة التاريخ البديل تلجأ في الأغلب إلى التعديل أو إلى اختراع أحداث خيالية وفقًا لمعطيات أحداث حقيقية حدثت بالفعل، أو تلجأ لمعالجة «ماذا لو» ومسلسل 11.22.63 يصلح كمثال جيد على ذلك.

«تارانتينو» هنا صنع مسارًا مغايرًا وبعيدًا عن السائد، كما سبق أن أوضحنا، صنع تاريخًا وأحداثًا خيالية ذات شخوص خيالية أيضًا. أحداثًا حربية لا توجد بها جيوش منتصرة أو منهزمة، لكنه انتصر للسينما فقط، ولأنه لا وقت هنا للرمزيات المتكلفة فقد كانت السينما هي المنتصر بالمعنى الحرفي للكلمة، ليصبح الناتج تاريخًا جديدًا تمامًا، لكنه على طريقة تارانتينو!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.