أعلن «إنييستا» ما كان متوقعًا، هذا آخر مواسمه بقميص برشلونة، الفارس سيترجل، سيخرج من قلعة كتالونيا مرفوع الرأس، فلم يخذل البارسا طوال 22 عامًا قضاها داخل جدرانه. يأتي خروج «الدون» في ظل ظروف كئيبة تحيط بفريق المقاطعة، خروج مأساوي من دوري الأبطال، تكلله دموع الموناليزا في الأوليمبيكو – قد يخفف من وطأته حصد ثنائية الليجا وكأس الملك – لربما كان التتويج بالأبطال قادرًا على إثنائه عن قرار الرحيل.

«إنييستا سيرحل»، هكذا تبدو العبارة بسيطة، لكنها تحمل دلالة لا تبدو في بساطتها، تمامًا كما إنييستا، وجه طفولي لم تتغير براءته حتى بعد أن اكتسى ما تبقى من شعره بالشيب، وتمامًا كما يكون في الملعب، يقتل الخصم بوداعة، يبدو أنه يتمشى بالكرة وإذ فجأة ينسل، ينزلق، كما وصفه «فيلانوفا»: «صاحب المراوغات غير المنطقية».. ويقول عنه «بيب»:

إنييستا ساعدني على فهم الكرة بشكل أفضل.

قد يتعجب البعض، لكن إنييستا فتنة في عالم الكرة، يقتلك ويجبرك على التصفيق له! أينما حل صفقوا له كأنما أصبح العالم مدينًا له بشيء. أنا لا أقصد الكرة الذهبية، فتلك لها شأن آخر من الحديث، وعدم حصوله عليها عار على الجائزة ذاتها!

بين كل أساطير كرة القدم الذين لم يحالفهم التوفيق للانضمام لقائمة الفائزين بالـ Ballon d’Or، يبقى غياب أندريس إنييستا عن تلك القائمة هو الغياب الأكثر ألمًا لمتابعي كرة القدم. عذرًا إنييستا..
«باسكال فيري» رئيس مجلة فرانس فوتبول

إننا نتحدث هنا عن فتى لا يضع الوشوم، لا يصفف شعره حسب آخر الصيحات على حد تعبير بيب، الذي أجبره على الاعتراف لـ«تشافي»: هذا الفتى سيجبرنا على الاعتزال. تلك المقولات أصبح الكل يعرفها، لكنها تصبح الآن ذات مغزى أكبر. إنييستا لم يكن يومًا مفتول العضلات، ليس طويلًا، لا يلتحم كثيرًا، لكن إن كنت جيدًا بما فيه الكفاية حاول أن تفتك منه الكرة، أن تضغط عليه حتى على حدود صندوق برشلونة، فلديه ما يكفي من القدرة على إظهارك كمهرج أمام العالم.

أحد إحصائياته العجيبة هي تلك التي أوردتها شبكة «هوسكورد»: منذ 2015/ 2016 قام إنييستا بـأكثر من 150 محاولة مراوغة بمعدل نجاح 78.5 %، ونحن نتحدث هنا عن إنييستا ما بعد الثلاثين الذي لم يستعرض عضلات بطنه، ولم يحاول إيهامنا بأنه يقضي يومه في رفع الأثقال، ولم يصدعنا بالارتقاء المهول ولمس المريخ بأطراف أصابعه. إنييستا ظل هو إنييستا حتى وهو يتقدم في السن، ويغزو الأبيض رأسه، ظل هو صانع الوهم الذي يتمركز في الفراغ ويقدر تمريرته بالملليمتر، يعرف متى يراوغ، متى يهدئ اللعب، متى يرفع الرتم لينهك الخصم، تراجع البارسا تكتيكيًا وأصبح يئن تحت الضغط العالي، ويلتفت لا يجد تشافي، ليبزغ إنييستا يطلب الكرة تحت الضغط ويتصرف فرديًا.


أجمل من أن يرحل

سيرحل أندريس، لكنه أجمل من أن يرحل، هو أجمل من هذا الشقاء الذي سيترك الكتلان يقاسونه، إنييستا ليس كتالوني المولد لكنه صار يشعر أنه كتالوني، إنه ينتمي لهذه الأمة المقهورة، وتلك الأمة لا ترى فيه سوى بطل من أبطالها. إنييستا، لن يكون رحيله رحيل موهبة قلما تتكرر، فما أكثر من رحل عن برشلونة، «رونالدينيو» رحل، «ريفالدو» و«روماريو» و«رونالدو»، لكن رحيل إنييستا يحمل أكبر مما يبدو.

«بيكاسو» يرحل ومعه جزء آخر من قلب البارسا، أندريس لا يرحل كفرد بل كرمز، جزء من ثلاثي تاريخي غزا العالم: «تشافي» و«إنييستا» و«ميسي»، انكسر المثلث التاريخي برحيل تشافي وها هو يفقد مقومات بقائه برحيل أندريس، في انتظار لحظة التلاشي.. يقول الرسّام:

هكذا يراها الرجل وهكذا نراها. منذ انفرط عقد الثلاثي؛ لم ير البرسا خيرًا أبدًا، انتزعوا جزءًا من روحه مع كل رحيل، لم يتبق سوى القليل. لم يكن الثلاثة سوى فنانين، حولهم بنى «بيب» أسطورة البارسا التاريخية، كما بنت إسبانيا مجدها بأقدام أفضل لاعبين في تاريخها. هؤلاء قال عنهم سير «أليكس فيرجسون»: إنهم قادرون على الاحتفاظ بالكرة ليلة كاملة. وقال عنهم خصمهم «مورينهو» الذي كان يخطط في حال توليه البارسا التخلص من صغيري الحجم تشافي وإنييستا لصالح «مايكل إيسيان»! عنهم قال المترجم: سيتناقلون الكرة حتى لو أغمضت عيونهم.

يخرج الدون من برشلونة مرفوع الرأس كونه أعطى ولم يضن، لم يبخل حتى في أقصى لحظات الضعف البدني، ظل ثابتًا، مقاتلًا كجندي يرفع راية وسط نيران الحرب. يخرج الدون بشرف، لكن جريح القلب، لأنهم أضاعوا البرسا الذي يحبه، أضاعوا الفريق الذي أدمن اللعب الموضعي وأتقن الاستحواذ والضغط والهجوم، لقد أضاعوا برشلونة الذي أصبح إنييستا جزءًا من لحمه ودمه، ما تبقى من البارسا التاريخي هو أطلال، قاتل عليها إنييستا وليو بشرف.

يذهب إنييستا ليترك ليونيل وحيدًا يتهدم المعبد فوق رأسه، البارسا يربط رجاله بنهايات مليئة بالشجن، كان تشافي أكثر الثلاثة حظًا؛ ودعوه بثلاثية، رحل ودموعه في عينيه تمامًا كرفيق عمره، وتمامًا كما سيفعل ثالثهما، لكنه حظي برحيل أكثر هدوءًا. لم يستطع البارسا أن يودع بيكاسو على ذات الطريقة، ربما لم يكن هذا الموعد ملائمًا لنهاية قصة إنييستا مع البارسا، نهاية مؤقتة بالطبع، كان عليه أن ينتظر عامًا أو أكثر، ربما كان عليه ألا يرحل كما لم يكن على تشافي ألا يرحل، لأن السؤال الذي سيظل يؤرقنا: كيف سنشاهد البرسا بلا تشافي، بلا إنييستا، ثم بلا ليو؟!

تبدو كرة القدم موحشة اليوم، يبدو البارسا في حالة فصام، البارسا لم يعد كما كان، برشلونة تحت حكم «البهلوانات» تنكر لرجالاته، خان مبادئه فتحولت السنون الأخيرة إلى مأساة كبيرة!


الذين لا يرحلون!

كوني كنت قادرًا على اللعب مع «تشافي» و«ميسي» فهذا أكثر سحرًا من الفوز بالكرة الذهبية.

سيرحل إنييستا، لن نراه بعد هذا الموسم يتجلى في الملعب كعادته، لكنه لن يرحل! يبدو أنه أصبح يشكل جزءًا ما من وعي كتالونيا، طريقة رؤيته للكرة، أصبح الثلاثي مرجعية، تواصلهم في الملعب، إيمانهم بالفكرة، مثالية التنفيذ، جمال اللوحة، كل شيء يأبى الرحيل. تشافي رحل وبقي، إنييستا سيبقى وإن رحل، وميسي لن يرحل مهما كان حكم الزمن قاسيًا عليه كما حكم على إنييستا وتشافي.

إنييستا ليس قابلًا للوصف، تشاهده فتحاول أن تصف عبقريته، فتبدو الكلمات ساذجة، لأن جمال اللوحة لا يوصف من فرط روعتها.. وداعًا مؤقتًا أندريس، نحبك كثيرًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.