في إطار كهذا يكون على أنيس صايغ أن يلملم اغترابه ويمشي، يترك إدارة (مركز الأبحاث) لأنه أراده مؤسسة علمية، وأراده السياسي (دكانًا) مبتذلًا، ثم يتخلى عن (الموسوعة الفلسطينية) لأنه أرادها تقويمًا علميًا، وأرادها السياسي المسئول مساحة للمدح والهجاء.

هكذا قيّم «فيصل دراج»، في كتابه «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية» علاقة السياسي الفلسطيني بالمثقف الفلسطيني، من خلال تجربة أنيس صايغ، معلقًا على كتاب أنيس صايغ: «13 أيلول».

كتاب «13 أيلول» مجموعة من المقالات والمداخلات والمقابلات التي نُشرت لأنيس صايغ في عدد من الصحف اللبنانية والسورية حول اتفاقية أوسلو. وكان أنيس صايغ قد أعلن بتحليل متأخر في مذكراته التي كتبها تاليًا تحت عنوان «أنيس صايغ عن أنيس صايغ»، أنه قد فهم أخيرًا سر خلاف ياسر عرفات معه شخصيًا، ومع المشاريع التي وقف على رأسها، ولاسيما مركز الأبحاث الفلسطيني، ومجلته الصادرة عنه «شؤون فلسطينية»، والموسوعة الفلسطينية، وحتى مجلة «شؤون عربية».

يقول صايغ إن عرفات عمل على تدمير تلك المشاريع، وخاصة المركز ومجلته والموسوعة؛ لأنها كانت عقبات في وجه المشروع السياسي لتلك القيادة المتنفذة، ويلخص ذلك بقوله: «لا بد من شطب النضال الثقافي لتحقيق الاستسلام السياسي».

تأسس مركز الأبحاث في العام 1965 تابعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرأسها أحمد الشقيري، وتولى رئاسته فايز صايغ، ثم في العام 1966 تولاه شقيقه أنيس، وذلك كله قبل التحاق فصائل الثورة الفلسطينية في ذلك الزمن بمنظمة التحرير، وقبل أن يصبح عرفات رئيس المنظمة. وأما مجلة المركز «شؤون فلسطينية» فقد صدرت عام 1971، بينما كان مشروع الموسوعة الفلسطينية – التي مولتها السعودية – ومجلة «شؤون عربية» يتبعان الجامعة العربية، باقتراحات من أنيس صايغ؛ بمعنى أنها لم تكن تابعة لمنظمة التحرير.

يقول أنيس صايغ إن عرفات عمل على تدمير مشاريعه الثقافية، وخاصة المركز ومجلته والموسوعة؛ لأنها كانت عقبات في وجه المشروع السياسي لتلك القيادة المتنفذة.

يقول أنيس صايغ إن أحمد الشقيري، أول رؤساء منظمة التحرير، رعى المركز وشجعه وحماه وحافظ على استقلاليته، بينما كانت علاقة يحيى حمودة – ثاني الرؤساء – بالمركز معقولة. أما ياسر عرفات فقد عمل على تحطيمه، بعدما فشل، بأساليب الرشى والحرمان، في تحويله إلى دار إفتاء تُوقّع للسياسي على ما يريد، وتكون ظلًا لسلطته؛ إذ تكمن قدرة السياسي داخل أحشاء المؤسسة الثقافية في كل شيء، من الموظفين، إلى المُستكتبين، إلى المضمون، وحتى حجم خط مقالته وشكل صورته على غلاف المجلة!.

شكّل مركز الأبحاث حالة ثقافية هائلة، بإمكاناته التي توسعت بالتدريج، مكتبة ووثائق، ومنشورات، وترجمات، أو بحضوره في الأوساط الثقافية والسياسية، إلى الدرجة التي خلقت عنه انطباعات أسطورية لا تخلو من الطرافة، منها أن حاكمًا عربيًا طلب من المركز أرشيفًا بأسماء جميع الجنود الصهاينة برتبهم وعناوينهم؛ كي يثبت للصهاينة أنه يعرف كل شيء عنهم!.

وعلى كل حال فإن المركز يصلح مدخلًا لدراسة الحالة الفلسطينية من خلال علاقة المؤسسة الثقافية، لا بالقيادة السياسية فحسب ولكن أيضًا بالفصائل، وبالمؤسسات الثقافية المماثلة، وبالحكومات العربية.

ولأن المركز كذلك – بحسب ما يُقدّر صايغ – وربما وبسبب إصداره سلسلة من الدراسات الخاصة التي كانت توزع على المقاتلين، استهدفه الاحتلال عدة مرات؛ الأولى في العام 1971 بتفجيره مدخله بالديناميت، والثانية في العام 1972 بمحاولة اغتيال أنيس صايغ بظرف ملغوم، والثالثة في العام 1974 بقصفه بالصواريخ، ثم باحتلاله وسرقة أكثر من عشرة آلاف كتاب منه في اجتياح لبنان في العام 1982، ثم بنسفه في العام 1983.

ويروي صايغ قصة محزنة، إذ تمكنت جهود القيادة الفلسطينية عبر الصليب الأحمر من استرجاع الكتب التي استولت عليها قوات العدو حينما احتلت المركز في العام 1982، فقد أُرسلت الكتب في العام 1988 من داخل فلسطين المحتلة إلى جنيف ثم إلى الجزائر، وظلت عامًا كاملًا في الميناء إلى أن أنذرت سلطات الميناء القيادة الفلسطينية بأنها ستتلف الحمولة إذا لم تستلمها، ثم اختفت الكتب بعد ذلك ولم يعرف أحد عن مصيرها شيئًا، وعن ذلك يعلق صايغ قائلاً: «ومن يضيع بلدًا لا يصعب عليه إضاعة مكتبة».

وفي قصة أخرى تكشف طبيعة علاقة السياسي بالمثقف، يذكر صايغ أنه توجه إلى الكويت وقابل أميرها بهدف جلب تمويل لشراء كتب بديلة، إلا أنه تفاجأ ببرقية من ياسر عرفات تدعو أمير الكويت لعدم التعامل مع أنيس صايغ، وهكذا تبدو طريقة السياسي في التعامل مع أي مشروع ثقافي طالما أنه لم يكن ظلًا له، وهكذا حاول السياسي تعطيل مشروع مجلة «شؤون عربية» لأن القائم عليه مثقف لا يتبع له، وهكذا تمكن من وقف مشروع «الموسوعة الفلسطينية» للسبب نفسه.

على المستوى الشخصي بدأت العلاقة بين الاثنين مرتبكة، ولكنها لا تخلو من الأبعاد المتعلقة بموضوعة السياسي والمثقف. فأول معرفة لأنيس صايغ بشخص ياسر عرفات كانت في العام 1966 حينما رآه في القاهرة، وحذره منه القائد الفلسطيني في الجبهة الشعبية وديع حداد، أما أول مصافحة بينهما فقد تذمر فيها عرفات حينما تمتم، بعدما عرفه أحدهم بأنيس، بأنه «بتاع الشقيري».

ربما يظل تحليلًا محتملًا ما ذهب إليه أنيس صايغ من القول إن عرفات لم يُسفر عن ودٍ له لأن مشاريعه الثقافية كانت عقبة في وجه مشاريع التسوية التي بدأ عرفات بالولوج إليها مبكرًا جدًا، قبل انكشاف القناع – بحسب تعبير صايغ – في العام 1993، وبالتأكيد سيكون الصدام حتميًا ما دامت نزاهة المثقف قد تمسكت بما هي عليه في وجه سياسات الزبائنية التي يديرها السياسي، إلا أن المداخل الشخصية سيظل لها دور حاضر لا يخلو من تلك الأبعاد في تفسير العلاقة المتوترة التي جمعت الرجلين، وفي إدارة عرفات للأمور كلها.

فعبارة عرفات «بتاع الشقيري» تعني أن عرفات لم يكن مرتاحًا لشخص قادم من العمل مع رئيس سبقه إلى قيادة منظمة التحرير، فالعامل الشخصي الصرف الأساس تنبني عليه المواقف، فالمسألة هنا هي ذاتية السياسي، والمصلحة مبنية عليها أيضًا؛ أي مصلحة السياسي.

هكذا يقارب السياسي الفلسطيني علاقته بالمثقف، بأدوات السلطة ترغيبًا وترهيبًا، وعطاءً وحرمانًا، وتقريبًا وإقصاءً، وما يتصل بذلك من مراوغة ومخاتلة وتلفيق وخداع

وإن كان الأمر كذلك، فإن أي مشروع رائد، ثقافي أو غير ثقافي، معرض للإهمال أو التهميش أو التقزيم أو التحطيم ما لم يجد السياسي فيه نفوذه أو صورته أو حتى مصلحة له، وإن كانت هذه المشكلة جلية في الرواية التي نعرض لها، فإنها للأسف لم تنحصر فيها، فلطالما عطلت صراعات مراكز النفوذ في الفصائل الفلسطينية، أو إهمال القيادة، أو إدارة المشاريع على أساس الزبائنية والعلاقات وشبكة المصالح العديد من المشاريع الطموحة، وأقصت العديد من الكفاءات الواعدة.

وتلك العبارة، «بتاع الشقيري»، تعني أن السياسي قد لا يفهم العلاقات إلا على أساس التبعية، وأن هذا مدخله لفهم علاقات الآخرين ببعضهم، فلا يمكن لأحد منخرط بالحركة الوطنية، مثقف أو غير مثقف، إلا أن يكون تابعًا، بحسب ما يرى هذا السياسي. بيد أن ثمة إشكالية أخرى، ربما ساهمت في تشكيل علاقة عرفات بأنيس صايغ، وهي بدورها لا تنفك عن سياسات عرفات عمومًا، وعن علاقته بالمثقف خصوصًا.

يبدو أن علاقة جيدة ربطت أنيس صايغ بالنظام السوري، وبشخص حافظ الأسد تحديدًا، الذي منح صايغ أحد أوسمة الجمهورية السورية، كما أن صايغ الفلسطيني من طبريا، ينحدر من عائلة الأب فيها من جذور سورية، والأم من جذور لبنانية، وذلك قبل تشكل الهوية الفلسطينية على صورتها النهائية ما بين النكبتين، كما وانتمى أنيس وأفراد من عائلته لـ «الحزب السوري القومي الاجتماعي».

بينما عرفات انطبعت علاقته بحافظ الأسد بالخصومة الشديدة، واتسم بنزعة وطنية فلسطينية حادة، إلى درجة اعتراضه على تخصيص صفحات في الموسوعة للتعريف بعز الدين القسام، واعتراضه على إدراج القسام بين الشهداء الفلسطينيين، وبهذا تتجلى النزعات والأمزجة الشخصية في تغلبها على المصلحة العامة والحقائق الموضوعية.

يخرج أنيس صايغ بخلاصة مفادها أن عرفات لم يكن يقرأ، وكان يبدي ملاحظات غير دقيقة على موضوعات المجلة والموسوعة، وكأنه كان يسمع من غيره ولا يقرأ بنفسه، وأن ملاحظاته لم تكن متعلقة بالمضمون بقدر ما تعلقت بانتماءات الكُتّاب، وتوزيع نسب الفصائل بين موظفي وكتاب المركز، وغيرها من الملاحظات التي يؤكد أنيس صايغ أنه لا يسردها بهدف التسلية والترفيه، والتي يجدر – على كل حال – قراءتها من المذكرات نفسها، فالحكاية أبلغ من أي تعقيب.

وهكذا يقارب السياسي الفلسطيني علاقته بالمثقف، بأدوات السلطة ترغيبًا وترهيبًا، وعطاءً وحرمانًا، وتقريبًا وإقصاءً، وما يتصل بذلك من مراوغة ومخاتلة وتلفيق وخداع، حتى لو انتهى الأمر بالسياسي إلى تدمير مشاريع رائدة طالما أنها لم تعكس صورته ولم تعبّر عن نفوذه، بيد أن السؤال الأهم: كيف لو كانت تلك طريقة السياسي في إدارة الأمور كلها؟!