رَفَعْ رْوَاقْ ذِيل البِّيت عَلَى صْيَاح حُولِيةْ الْغَلَمْ
من شعر التقدير البدوي.

تسعى هذه المقالة إلى تحليل الشعر البدوي، وذلك في ضوء القراءة التأويلية/السيميائية لنصوص شعر البادية، اعتماداً على الدراسة العلمية الميدانية الرائدة التي قام بها «د. صلاح الراوي» حول الشعر البدوي في مصر، ومحاولة منَّا لقراءة نصوص الشعر البدوي، وذلك لما تحويه تلك النصوص من استعارات ورموز ودلالات تُمثل حقلاً خصباً لمزيد من التأويلات حول هذه التجربة الرمزية، والتي تُعد بمثابة مدخل مركزي من أجل التعرف على هوية الإنسان باعتباره كائناً يأتي إلى العالم من خلال ممكنات اللغة في المقام الأول.

ولا شك أن نصوص الشعر البدوي زاخرة بالدلالات المستمدة من حياة البادية بكل مفرداتها، ومن خلالها يكوِّن الإنسان الشعبي رؤيته لهذا العالم من حولهِ، فنحن جميعاً منتجات اللغة، وكذلك التجربة الإنسانية من تصورات ومعتقدات وقيم، وجميع أنواع المعمار والفنون جميعها لغة ونصوص، وما هو خارج هذه اللغة ليس له وجود في العالم المادي الذي يعيشه وينسجه الإنسان.

فالتأويل جزء من التفسير والوصف وكذلك التمثيل، فكلما عرف الإنسان شيئاً، كانت تلك المعرفة مدخلاً لمعرفة شيء آخر، ومفهوم «النص يعني كل مفردة مُتعينة من المفردات التي ينتجها النشاط الإنساني، بما في ذلك التصورات والأفكار والمعتقدات، حتى الحلم الذي يراه أو يعيشه الإنسان فيكون بالنسبة له حالة نفسية وعصبية، ثم ينقله إلى غيره على هيئة جُمل ذات بناء خاص فيُصبح بذلك نصاً» [1].

والتأويل نشاط معرفي انحازت إليه السيميائيات واعتبرته منطلقاً مركزياً لتحديد المعاني المختلفة، وذلك لأن هناك حاجة دائمة للخروج عن ظاهر اللفظ والبحث عن شيء آخر داخل سياق النص ومن نسيج مفرداته، وذلك لأن التجربة أغنى من مجرد معنى حرفي، ويقول تودوروف: «النص هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القارئ بالمعنى». [2]

فن التقدير وارتباطه باحتفالية التجليم

يعتمد اقتصاد المجتمع البدوي على حرفة الرعي، فهو بمثابة المحور الرئيسي الذي يتفرع منه عدة أنشطة أخرى تتعلق بمنتجات الأغنام مثل الألبان والأصواف، ويُنتفع من هذه الأصواف في اتجاهين: الأول بيعها خام، والثاني تحويلها إلى منتجات أخرى للاستخدام الوظيفي، وأيضاً بغرض بيع هذه الأصواف بعد تحويلها لمنتجات يدوية، ويرتكن هذا الجانب في غزل الأصواف على المرأة كحرفة يدوية تمثل مصدراً من مصادر الدخل.

وأشعار فن التقدير ترتبط بمرحلة أساسية تتصل بهذه الأصواف، وهي مرحلة استخراجها من مصدرها الحيواني أو ما يُعرف بـ «الجز أو التجليم» بمعنى القص، أمَّا عن السياق الاجتماعي فإن العُرف يقتضي إلى حد الإلزام أن تتعاون الجماعة كلها تبادلياً في إنجاز مهام العمل الذي يتجاوز إمكانيات الفرد أو الأسرة الواحدة، وهو ما يُسمى بـ «الرغاطة». فنحن إذن أمام ممارسة اقتصادية في إطار سياق اجتماعي /ثقافي محدد. [3]

في موسم محدد من السنة شهر مارس وأبريل تقوم أسرة ما بجز أغنامها، ومن ثَمَّ تلتزم الجماعة المحيطة بالمعاونة الفعلية في إنجاز هذه المهمة، وينتج هذا الوضع ظاهرة احتفالية في سياق اجتماعي اقتصادي ثقافي، وإن ظاهرة جز الأغنام في ظل الاعتماد على جزازين محترفين من خارج الجماعة سيجعلهم مغتربين عن تلك المنظومة الثقافية للمنطقة، ويعني ذلك صعوبة إدراكهم لمرامي هذا الشعر الغامض المعاني لقيامه على الرمز البعيد [4]، ومن هنا جاء إلزام العرف الرغاطة المشاركة في عملية الجز، ويلتزم من يمر أثناء عملية الجز أن يُشارك فيها ويمسك المقص (الجلم)، ويبدأ في تجليم وجز بعض الأغنام وفق ما يسمح به وقته، وأيضاً وفق درجة العلاقة والقرابة بصاحب القطيع.

الجانب الفني (الشعري) في الاحتفالية هو التقدير

«الشعر الشعبي» هو ظاهرة أدبية فنية تتسم بسمات مماثلة لتلك التي يتسم بها الشعر الرسمي، وذلك في جميع البيئات والمجتمعات، وللشعر الشعبي خصائص مميزة باعتباره نمطاً تعبيرياً قولياً يعتمد على اللغة الشعبية، فهي حاملة لمنظومة ثقافية شعبية كاملة ومعبرة عنها، والشعر هو أداة للتشكيل الفني وله علاقة بأداة أخرى هي الإيقاع الموسيقي المحدد [5]، والذي يتمثل في أداء نمط شعري قوامه بيت واحد يرسبه المؤدي وينتقل بعد فترة إلى أداء نص آخر أو يقوم غيره من الجزازين بالرد عليه داخل المضمون، إذا ما تضمن تعريضاً يقتضي الرد. [6]

إنَّ الغالبية العظمى من النصوص التي تُتداول في هذه الممارسة تتوجه إلى المرأة من خلال الصياغة الرمزية، والتي لا يمكن دونها توجيه الخطاب للمرأة أو عنها، لأنها مخاطبة تعريضية في جوهرها ينطوي مضمونها على قدر كبير من الإباحية في التعبير والتصوير، وهي من أخطر المظاهر الشعرية التي يتعرض بها وفيها الرجل للمرأة، ومن ثَمَّ فإن نصوص التقدير من حيث الدلالة من أكثر النصوص مشاكسةً للمرأة، بل تعريضاً رمزياً صريحاً بها، ولا جناح على مؤديها ولكن داخل الظاهرة الاحتفالية.

وعلى الرغم من كم القيود العرفية والمجتمعية التي تحظر الغناء على مقربة من المرأة أو منزلها، فإن احتفالية التجليم تنعقد أمام بيت صاحب الغنم وعلى مرأى ومسمع من أهل بيته (زوجته وبناته)، وتلك النصوص التي يؤديها الرجال تكون موجَّهة أغلبها لنساء البيت أو بعض نسائه على مسمع منهن.

وتحتوي هذه النصوص على تعريض وتعبيرات مكشوفة لو نُحي الرمز، وهو رمز مُنحى لا محالة وإلا فقدت معناها وفقد الأداء وظيفته، وذلك في إطار فهم مشترك أو تواطؤ بين الجميع على أن الرموز الحيوانية وما يتصل شفرات دلالية تدل مباشرة على المرأة، وتلك الشفرات المتفق عليها ضمناً لها دلالتها في العقل الجمعي، إذ إن المعنى يكاد يكون مُستقراً في الأذهان وفي وعي المتلقي/المرسل إليه على نحوٍ مأثور، حتى قبل أن يُرسل المؤدي رسالته في هيئة نص.

والجدير بالذكر أنَّ دائرة المُحرّمات (التابوهات) هي الميدان الواسع لفنون الأدب الشعبي، سواء كان بدوياً أو غير بدوي، فلا تسمع شعراً أو نثراً يتغزل به رجل في امرأة تربطه بها علاقة (زواج)، بل الأغلب والأعم أن يتغزَّل الرجل في امرأة لا تحل له، أو ربما يصل الأمر طبقاً لبعض الأعراف أن المجتمع لا يُرخص للرجل التعلق بامرأة بعينها، ونجد أن أغلب نصوص الأدب الشعبي المتعلقة بتلك المسألة غالباً ما تحتفي بتلك العلاقات أو المشاعر الموجهة للمرأة، والتي تندرج تحت دائرة التحريم والتابوهات المفروضة اجتماعياً.

فعلى سبيل المثال، كلمة (صيد) تعني في مجال الجنس استحواذ رجل على امرأة، وتعني في أدب الغرام إقامة رابطة بينهما، والعاشقة تُوصف بالغزال التي ينصب لها الصياد شباكه، فإذا لم يكن الصيد أو الاقتناص وسيلة العاشق في الاستحواذ على المرأة، فإن الأدب الشعبي يُصوِّر لنا طريقة أخرى أقرب ما تكون إلى شراء هذه المرأة. [7]

ونجد ما يُعبر عن تلك الحالة في البيت التالي (أشعار التقدير):

1. التَّاجر عَطَى عَرْبُون حلاَوَهْ عَلَى صُوفْ الجَّلَدْ

يحتمل هذا النص دلالة مباشرة عن فرح وابتهاج التاجر بجودة صوف الشاه غير العشراء [8]، فقد أعجبه صوفها قبل أن يجز فبادر إلى دفع مقدم دلالة على أنه تعاقد على شرائها، فيتوجه المعنى صوب المرأة حيث يرمز التاجر إلى الرجل (الشاري) والجلد إلى المرأة البكر والتي ليس لديها مانع من الارتباط، والصوف تعبير دقيق عن طبيعتها، فيصبح المعنى: إنَّ الرجل أعجب بصفات هذه المرأة واشترى ودها، يريدها وحتى يستحوذ عليها، بادر بالهدايا أو دفع بعض الأموال، دلالة على الخطبة أو جزء من المهر، وذلك ما يرمز إليه (العربون).

فالمرأة على هذا النحو مُستهدفة للافتراس أو (للصيد) كما أوضحنا سلفاً، ولفظ العربون يمكنه أن يُحيلنا لتأويله على نحو شعبي صرف، حيث يُقال (عربون محبة) دليل على أن هناك عطية ما (مادية أو معنوية) من شأنها أن تفتح باب الود بين الأطراف.

ويمكننا ان نُلاحظ أيضاً أن النص يُعزز صورة المرأة كونها من أملاك الأب (صاحب الغنم)، فالفتاة تُباع وتُشترى ويمكن أن يتم زواجها حتى دون الرجوع إليها، والتاجر هنا له دلالة على ما لديه من كثرة الأموال والغنى، وذلك جعله أهلاً للدفع والشراء، فهو بطبيعة الحال سيشتري كل ما يعجبه من النساء، فهو المقتدر مادياً، وربما ذلك العربون ما كان ليُدفع لولا صرامة التقاليد التي تجعل تلك الفتاة عُرفياً من نصيب ابن العم من أجل رابطة الدم والرابطة القبلية.

2. عَاطِكْ الله يَا ضَانْ توازي فِ النَّفَلْ

أعطاك الله يا ضأن غزال الخير والبركة وها هي غازلة صوفك الماهرة تنقيه مما اختلط به من النفل تحاشياً أن يُفسده. وهنا توجيه جوهر الدلالة إلى المرأة قائم بوضوح، ويتمثل في انطواء وجدان الناص على الرغبة في الاستحواذ على المرأة، بحيث يراها غازلة في بيته ومهارتها وإخلاصها في أداء العمل، فالمرأة البدوية تساهم بشكل كبير وأساسي في منظومة العمل خاصةً غزل الأصواف، فهي من مهامها المتوارثة، والتي تُشكل داعماً مادياً موازياً لما يقوم به الرجل من أعمال داخل المنظومة الثقافية البدوية.

3. نِسْقِكْ من شَرابْ النيل إِنْ كَانْ يا غِرِيرة تْطَوعِي

لو أطعتني أيتها الشاة ذات الوجه الأبيض لرحلت بكِ وسقيتك من ماء النيل. وهنا يوجه الناص كلامه دلالية نحو المرأة ويعلن عن إعجابه بها ورغبته في الاقتران بها واصطحابها إلى وطنه.

ونلاحظ أن هذا الخطاب ينطوي على صيغة شرطية لو طاوعته فستذهب إلى مصر، والهدف منها أيضاً الإغواء وفيه توجيه مباشر نحو المرأة (الفتاة) حتى تتحمس وتطاوعه. ويمكننا أن نؤول هذا البيت على نحوٍ آخر، فربما يقصد الناص هنا شرطاً عكسياً، بمعنى أنها لو طاوعته فهذا سيكون حافزاً كبيراً له ليجعله يتحمل مشقة الغربة والسفر من الصحراء إلى النيل، وكل ذلك في سبيلها.

4. طُوقَة عْيُونِك سُودْ يَا نْعَجَهْ يا عُونْ كَاسْبِكْ

أيتها الشاة البيضاء التي أحاط اللون الأسود بعينها، ليعن الله ويسعد من كنت في حوزته. فيؤول هذا البيت على نحو موجه للمرأة البيضاء ذات العيون الكحيلة، وكم هو سيسعد من تكونين له. وحول كلمة (كاسبك) مرادفة لكلمة (راقعك)، نازلاً بالدلالة إلى مستوى حسي مباشر بما تعنيه كلمة راقعك من دلالة جنسية مباشرة، ولا يمكن بطبيعة الحال استخدام تلك المفردة الأخيرة كبديل أثناء الاحتفالية، لأنه بذلك سيستخدم الناص المعنى المكشوف وذلك غير ملائم للرمز.

وجاء هذا الوصف في كتب الرحَّالة والمستشرقين، ويُكادون يجمعون على أن الفتاة البدوية تتميز بجمال عينيها، وقد أحيطتا بالكحل الأسود ونقاء البياض داخل العين إضافة إلى الأهداب الرجراجة. [9]

5. رَفَعْ رْوَاقْ ذِيل البِّيْت عَلَى صْيَاح حُولِيةْ الْغَلَمْ

رفع الذئب الجانب الخلفي من الخيمة مُتسللاً إلى الشاة الصغيرة، مُستدلاً عليها من صوتها. فالرجل (وتم وصفه بالذئب) يتشوق إلى الاتصال بهذه الفتاة الشابة، وقد دلته على مكمنها بصوتها، فتسلل باحثاً عنها، متخفياً عن العيون، وتعني هذه الصورة المسلك غير الشرعي الذي اختاره هذا الرجل الموصوف بالذئب، وفيما يبدو أن الناص قد أدخل على النص صياداً جديداً يستهدف الفتاة، فهو بالضرورة ليس الرجل الأول الذي دفع العربون، ولكنه صوَّره بالذئب دليلاً على أغراضه في الافتراس والمكر والمهارة في التسلل والإغواء للإيقاع بالفريسة، وما يكشف لنا ضمناً على الدلالات الرمزية الموجهة، أن الأغنام لا توجد داخل البيت أو الخيمة حتي يرفع الذئب ذيل الخيمة مُتسللاً لاصطياد فريسته.

ومن أوصاف الذئب الصبر على الجوع ومن عجائبه أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظة، وهو أكثر الحيوانات عواءً وألد أعدائه الكلب، وقال الأصمعي: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها فقالت أتدري ما هذا؟ قلت لا، فقالت جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا قتل شاتنا، وقال العرب عنه أغدر من ذئب، وأخبث وأخون وأجون وأظلم، وقالوا أخوك أم الذئب؟ وقالوا في الدعاء على العدو رماه الله بداء الذئب أي الجوع [10]، وقال الدميري: قال الجاحظ ومن أشد سلاح الثعلب عندهم الروغان والتماوت وسلاحه سُلاحه، فإن سلاحه أنتن وألزج وأكثر من سلاح الحبارى. [11]

6. قَلَقْ مَنَامْ الضَّانْ ذْوِيبا عَوَى فُوقَ رِيحِّا

إن الضأن قلقة لا تنام لأنها تسمع عواء ذئب تحمله إليها الريح في سكون الليل. فلقد أرقَّ صوت الرجل الفتاة التي يريدها، فصوته يتردد في الفضاء وتحمله إلى سمعها الريح. ويقول الدميري في عجيب طبع الضأن: عندما ترى الذئب يعتريها خوف عظيم. [12]

فمن الممكن أن يؤول هذا البيت على نحو خوف الفتاة من ذلك الرجل الغريب الذي يحوم حولها وتشعر بوجوده متربصاً بها، وسبب خوفها أنها صغيرة وضعيفة وتخشى أن تقع فريسة له. ويصف الناص الشعبي هذا الغريب بالذئب ليُصعد من الإيقاع الدرامي وليساهم ذلك أيضاً في دينامية الأحداث وأطراف الصراع التي ستنشأ داخل النص وعملية الشد والجذب والتي تُضفي سيميائية جمالية حول النص كاملاً.

7. عَليـــــكْ بالثَّني يا ضَــــانْ إلا الكَبشَ مَواْله تــــْرِكّ

8. عَليـكْ بالثَّني يا ضَانْ إلا الكَبشَ لافِيـهْ الضــــَّررْ

أيتها الضأن أنصحك بأن تختاري الشاب من (الخراف)، فقد انتهى أمر الكبش ولم يعد يصلح لك. والبيت التالي يحمل نفس المعنى والرمز والدلالة: أيتها المرأة بأن تختاري الشاب من الرجال، وألا تعولي على الشيخ كبير السن فهو لا يصلح لكِ فيما تريده المرأة من الرجل، فقد انتهى أمره.

يأتي هذا الخطاب على لسان المؤدي الشاب، ويدل أن هناك مساحة من حرية الاختيار في يد المرأة البدوية تُمكنها من الاختيار والقبول والرفض، ويوسوس لها الشاب أن تختاره وتبتعد عن الرجل كبير السن الكهل، فهو فاقد لحيوية وعنفوان الشباب.

9. عَلِيه تِلِدْ ميلادينْ الكبش خِير يا ضَان م الثَّنِـــي

10. عَلِيه تِلِدْ ميلادينْ الضَّان مُو دِعِيشيشْ كَبْشَهَا

إن الكبش ما زال هو الأقدر والأكثر نفعاً من الثني، إذ هو قادر على أن يلقحها فتنجب مرتين في السنة، وهي مبالغة في قدرته. والبيت التالي تكرار لنفس المعنى. فالرجل كبير السن هو الأفضل لك من الشاب وهو الأقدر على تلبية رغبتك وفي ذلك رداً على النصوص 7 و8، ويُرددهم الكهول ويسمى تبادل النصوص على هذا النحو مكاسرة [13]. وتُبرِز هذه المناظرة ثنائية الشباب والكهل واستعراض القدرات الجسدية.

إجمالاً، فقد حاولنا إنتاج حقل دلالي من الكلمات والتأويلات التي من خلالها نكتشف روح النص، وهي ما أفرزته قراءة النص البدوي وأوحت به، فلا شيء يُستعار من خارج ما يقوم التمثيل الرمزي بالكشف عنه، والتي تُعد طبقاً للسيميائيين سيرورة الاستدلال التي تبحث عن معاني الوقائع، فيما اختفى في تفاصيل الموصوف في اللفظ أو فيما استوطن في وقائع المعيش اليومي، وليس معنى ذلك أننا نسجنا نصاً موازياً للنص الشعبي الأصلي، ولكننا أنتجنا خطاباً تأويلياً آخر، فاللغة لا تشتمل على مرادفات فالكلمة التي تشرح لا تكون موازية في المعنى الحرفي الدال عليها.

فالنص البدوي في جوهره جزء من الثقافة التي أفرزته، ولكنه يحتمل الشرح والتأويل، ومن ثم نجد أن الشعر البدوي رغم شدة خصوصيته اللغوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية استطاع أن يؤسس لنفسه منظومة فنية نابعة من المُخيلة الشعبية، متفق عليها بطبيعة الحال ضمن العقد الاجتماعي المتفق عليه بين أفراد الجماعة الشعبية، والتي من خلال تلك النصوص وما تحمله من شفرات رمزية استطاع الإنسان الشعبي أن يقاوم حتميات وصراعات الواقع، التي لطالما عاش تحت وطأتها، رجلاً كان أو امرأة.

فكما يعاني الرجل من شدة صرامة الأعراف والتقاليد، نالت المرأة النصيب نفسه، وتعكس لنا نصوص فن التقدير صورة المرأة بوضوح – بعد فك الشفرات الدلالية – عن حياة المرأة وما يُحيطها من صراعات حول جسدها رغم كل ضوابط المنع، ولكن دوماً الممنوع مرغوب، ومع ذلك وطبقاً للأعراف والتقاليد ومعايير المجتمع، تظل المرأة هي من تتحمل وزرها إذا ما ابتعدت عن مأمنها أو تخلت عن حجابها، سواء المادي أو الرمزي، فكانت عُرضة للذئاب والافتراس، وإذا ما أصبحت ضحية فستتحمل هي أيضاً عقاب الجماعة الذي لا تهاون فيه، وربما ذلك يقع على الفتاة العذراء، فتحوم حولها المخاطر الجسدية/الجنسية، ربما أكثر من المرأة التي سبق لها الزواج.

والزواج داخل المنظومة البدوية تربطه علاقة الدم والقرابة، وكذلك القدرة المالية والتباهي بالقدرة الجسدية أيضاً، سواء كان شاباً أو شيخاً، فمنظومة الزواج راسخة في العقل الشعبي، ويدور حولها أغلب التصورات، بل تُوظَّف من أجلها الرموز والدلالات، وسيظل الذئب شارداً باحثاً عن فريسته الضالة.

المراجع
  1. صلاح الراوي، الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة: كيف نقرأ نصاً بدوياً، ص496، معهد الشارقة للتراث، 2016.
  2. أشار لها، أُمبرتو إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة د. أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة.
  3. صلاح الراوي، الشعر البدوي في مصر، ج2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، ص541.
  4. منقول بتصرُف، المرجع السابق، ص543.
  5. منقول بتصرف، صلاح الراوي: الشعر البدوي في مصر، ج1.
  6. المصدر نفسه.
  7. أحمد رشدي صالح، فنون الأدب الشعبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص110.
  8. مرجع سابق، صلاح الراوي، الشعر البدوي في مصر، ج2، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  9. هارولد ديكسون، عرب الصحراء، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1996، ص110.
  10. كمال الدين محمد بن موسى الدميري، حياة الحيوان الكبرى، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، طبعة 1992، ص 66-68.
  11. صلاح الراوي، الفولكلور في حياة الحيوان للدميري: تصنيف ودِراسة، ج2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2003، ص99.
  12. مرجع سابق، كمال الدين محمد بن موسى الدميري، حياة الحيوان الكبرى، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، طبعة 1992، ص104.
  13. مرجع سابق، صلاح الراوي، الشعر البدوي في مصر، ج2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص564.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.