كانت قصة فرعون وموسى -وما زالت- تحمل العديد من العبر والعظات التي تناقلتها الأجيال، ولكنها أيضاً صارت مادة خام للعلماء والباحثين، يحاولون إثباتها تاريخياً وعلمياً، أو نفيها في ضوء علوم التاريخ والآثار والحفريات والجيولوجيا.

ولقد حاول كثيرون منذ زمن ليس بالبعيد الربط بين ما ذكرته الكتب السماوية وعلمي التاريخ والأركيولوجيا (علم الحفريات)، في ضوء تطور هذه العلوم في القرنين الماضيين، في محاولة لإيجاد سردية متماسكة تاريخياً ومتوافقة دينياً، بشكل يثبت صحة ما ورد في هذه الكتب المقدسة.

وكنتيجة مباشرة لهذا التوجه ظهر علم المصريات نفسه، فمع قدوم الاستعمار إلى مصر مدفوعاً بدوافع توسعية واقتصادية لم يكن يخفى على أحد نهم العلماء الغربيين لإيجاد تفسير تاريخي للروايات التوراتية لا سيما رواية الخروج من مصر زمن موسى، عليه السلام. ولعل ذلك كان دافعاً جعل شامبليون يقضي قرابة الـ20 عاماً من عمره عاكفاً على فك رموز حجر رشيد. وهكذا انهال العلماء من كل حدب وصوب على الآثار المصرية باحثين هنا وهناك عن ذكر لموسى أو لفرعون بشكل صريح على جدران المعابد والمسلّات.

ولربما أدى ذلك إلى ظهور تيار يوصف بتيار (الأركيولوجيا التوراتية – Biblical Archeology)، محاولاً بشتى الطرق العلمية إثبات وجود صلة ما بين الآثار التاريخية والنص الكتابي التوراتي، ولكن ربما لم تؤت هذه المجهودات ثمارها بشكل واضح على الأقل بين الأوساط العلمية الرصينة، ففي المقابل ظهر تيار أكثر تحرراً ورصانة ينفي تماماً الرواية الدينية، ويحاول أن يدحض مزاعم الأركيولوجيين التوراتيين ويعتبر أبحاثهم واستنتاجاتهم نوعاً من العلم الزائف (Pseudoscience)، لأنها –من وجهة نظرهم– تعتمد على النصوص الدينية في تفسير التاريخ، وهو ما يعتبر بين الأوساط العلمية تابو يُحظَر الاقتراب منه. ولعل المتابع المهتم يستطيع أن يلمس بوضوح كيف امتلأت الساحة العلمية مؤخراً بكتابات ومؤلفات ومرئيات ينتصر فيها كل طرف لوجهات نظره.

والحقيقة أن السرد القرآني يتقاطع كثيراً مع السرد التوراتي، فيتفق معه في كثير من أحداث التاريخ وعلى الأخص في قصة فرعون موسى، ويختلف ويتضاد معه أحياناً أخرى في تفاصيل كثيرة بعضها مهمة، قد تجعل القصة القرآنية تختلف بشكل جذري عن مثيلتها التوراتية. ولعل أحد أبرز هذه الأمثلة على اختلاف القصة التوراتية عن القرآنية، هو تفصيلة بسيطة ذُكرت في آية من القرآن تتحدث عن أن فرعون أمر البنّائين بصناعة صرح من طين لعله ينظر ويرى إله موسى. فهل استخدم المصريون القدماء الطين في البناء؟

لقد سعى الكثير من المفسرين والمثقفين والمهتمين لتفسير الآية الكريمة التي تقول:

«وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ»
سورة القصص: 38.

وذكر المفسرون الأوائل ما ملخصه أن فرعون أمر المهندسين بأن يستخدموا قوالب طينية بعد حرقها لبناء الصرح المذكور، وأن فرعون هو أول منْ استخدم الطين المحروق في البناء، فيقول مجاهد: الطين هو اللبن المطبوخ، ويقول ابن جريج: أول من أمر بصناعة الأجر (الطين اللبن) هو فرعون، ويقول ابن زيد: هو طين مطبوخ يوقد عليه ويبنون به البنيان.

إشكالية هذا التفسير

ولكن من الناحية العلمية والأركيولوجية لم يُذكر مُطلقاً في أي مرجع علمي عربي أو أجنبي أن المصريين استخدموا الطين أو مشتقاته كعماد رئيسي في بناء معابدهم وأهراماتهم، لا سيما صرح عملاق كالمنسوب إلى فرعون بغض النظر عن ماهية هذا الصرح.

ويفرد الأستاذ سليم حسن (عميد علم المصريات في مصر وأحد أبرز الأسماء الموثوقة في علم المصريات) في موسوعته الشائقة «موسوعة مصر القديمة» في الجزء الثاني، فصلاً كاملاً (الفصل السابع) للحديث عن أنواع الأحجار التي استخدمها المصري القديم في البناء. وذكر أن المصريين القدماء استخدموا الحجر الجيري الأبيض والحجر الرملي وحجر الجرانيت كحجارة رئيسية لبناء المباني الشاهقة كالمعابد والمسلّات والأهرامات، إلى جانب أنواع أخرى كانت تُستخدم كثيراً في صنع التماثيل والأواني كالمرمر وحجر البازلت والكوارتاسيت. وذكر أن الطين كان يُستخدم على استحياء في المنشآت الملكية، وإنما كان مادة شائعة الاستخدام لبناء المنازل في طبقة عامة الشعب، ولم يكن له ذكر مُطلقاً في معرض الحديث عن الأهرامات أو المعابد أو المسلّات.

ولقد تعددت محاولات الكثير من المفسرين المعاصرين والمثقفين والباحثين الاسلامييين لإيجاد تفسير يتلامس بشكل ما مع العلم في هذه المسألة. فذهب بعض الباحثين استناداً إلى بعض النقول الغربية إلى أن المصريين ربما كانوا يضعون الطين في قوالب كبيرة ثم يسخنونه الى درجات عالية فيتحول إلى جرانيت. وهو ما يستحيل علمياً، لأن الجرانيت صخر ناري يتشكل في باطن الأرض ولا يمكن صناعته بهذه الطريقة، وإنما قد تُستخدم هذه الطرق في صناعة أحجار خفيفة ليست ذات بال كالسيراميك والبورسلين والخزف، والتي بالطبع لا يمكن بأي حال استخدامها كعماد مبنى ضخم شاهق كهرم أو معبد (صرح)، كما جاء في النص الكريم.

وذهب بعض الباحثين الآخرين -بسبب العجز عن إيجاد تفسير متماسك لهذه الآية- إلى الافتراض القائل إنه طالما أن فرعون كان يستخدم الطين في البناء، وطالما أن المصريين القدماء لم يستخدموه، فإذن لم يكن فرعون ولا قومه ولا بني إسرائيل مصريون، واستخدموا هذه الآية ليدعموا افتراضهم. ولسنا الآن في معرض مناقشة هذا الافتراض برمته، ولكن المهم أن أحد الدواعم الرئيسية لهذه الفرضية مبني على تفسير الطين في الآية المذكورة.

لم يتوقف الأمر عند هذا، بل زعم بعض الباحثين أن فرعون وبني اسرائيل لم يوجودوا في مصر مُطلقاً، استناداً إلى بعض الشواهد اللغوية والتاريخية واستناداً إلى هذه الآية، ومرة أخرى ليس هذا المقال معنياً بمناقشة هذا الافتراض برمته، ولكننا نرى أن محاولة إيجاد تفسير مقنع لهذه الآية تحديداً يمثل حجراً أساسياً في البناء الفكري للافتراضات السابقة.

وقد دفعت مثل هذه التفاسير والاجتهادات علماء الحفريات والتاريخ الأكاديميين إلى التشكيك في صحة مثل هذه الافتراضات ودحضها من منطلق علمي بحت، حيث استندوا –كما وضحنا- إلى أنه لم يُذكر في التاريخ ولا يوجد في الواقع الجيولوجي والأركيولوجي أن الملوك المصريين القدماء قد استخدموا الطين بمفرده كمادة أساسية لبناء منشآت عملاقة.

اكتشاف جديد ومثير قد يرفع الخلاف

في عام 2015 قام الباحث النرويجي توم هيلدال [1] بنشر بحث أكاديمي رصين نُشر في دورية علمية ذات معامل تأثير ومعامل اقتباس جيد جداً، ذكر فيه أن المصريين القدماء كانوا ومن عهود الدولة القديمة -وربما قبلها- يستخدمون الطوب اللبِن المصنوع من الطين مع الفحم لإضرام النار في أحجار الجرانيت غير المتشكلة أو التي يترسّب عليها بقايا عضوية أو غير متجانسة، إمّا لصقلها أو لإزالة هذه الرواسب عنها أو لإحداث تغيرات فيزيائبة في خواصها.

يقول الباحث نصاً:

إن اكتشاف بقايا الرماد والفحم مرتبط بشكل وثيق بالمحاجر المصرية منذ عهد الدولة القديمة، وخصوصاً في محجر الملك خفرع، كما وُجد أيضاً في الدولة الحديثة في محاجر استخراج الأحجار الرملية في أسوان، وكل هذا يدل على أن تقنية استخدام النار لتسخين الحجارة وحرقها يعد من أهم التقنيات المستخدمة في محاجر مصر القديمة.

ويقول الباحث في موضع آخر من البحث:

تقنية استخدام النار في المحاجر المصرية يوجد عليها دلائل أركيولوجية منذ نحو قرن من الزمان… وقد وجد العالم انجلباخ عام 1923 دلائل تشير إلى استخدام النار في محاجر المسلات غير المكتملة بأسوان على هيئة طبقات من الرماد والفحم والقوالب الطينية المحترقة… يقول انجلباخ إنه يمكنك العثور على الجرانيت المحروق في كل مكان. [2]

ويضيف الباحث:

وقد وجد العالم جويون عام 1976 دلائل تشير إلى استخدام النار في محاجر أسوان، وقد تم التوصل إلى أن تنعيم بلوكات الجرانيت كان يتم في هرم منكاورع عن طريق التسخين ثم الطرق. وقد بنى هذه النتائج على وجود بقايا قوالب من الطين المحترق والفحم ومطارق الدولورايت في الجزء الشمالي من الهرم. [3]

ثم يمضي الباحث -كجيولوجي أكاديمي- في توضيح دور الحرارة العالية الناتجة عن حرائق النار الصغيرة هذه، في صقل الحجارة مثل الجرانيت، وإكسابها خواص فيزيائية تجعلها أكثر قابلية للتشكيل والاستخدام.

والحقيقة أن ما قرأته في هذا البحث وما تلاه من أبحاث علمية رصينة تؤكد نفس النظرية (وهي أبحاث غير مهتمة من الأساس بالصراع العلمي الديني القائم حول هذه النقطة)، قد يضع تفسيراً علمياً مقنعاً جداً عن كيف ولماذا استخدم المصريون القدماء الطين في بناء الصروح والأهرامات والمعابد، فالأبحاث تشير بشكل علمي وواضح أن الطين كان يُستخدم بشكل دائم وشبه مفروغ منه لصقل أحجار الجرانيت والأحجار الرملية وغيرها، ولتنظيفها من الشوائب ولإعادة وسهولة تشكيلها، بل ولزيادة حجمها في بعض أنواع الحجارة، وكان هذا يحدث بشكل منتظم ودائم منذ عهد الدولة القديمة وحتى عهد الدولة الحديثة. [4]

ولربما وُجدت أدلة تشير إلى ذلك أيضاً في عصور ما قبل الأسرات، وتوجد دلائل على ذلك في بناء الأهرامات والمسلات أيضاً. وإذا تعمّقنا في البحث سنصل أيضاً إلى أن هناك دلائل تشير إلى أن هذا الأسلوب لم يكن فقط مُستعملاً في مصر القديمة، وإنما كان مُتبعاً في كثير من الحضارات القديمة مثل الهند. [5]

من هنا نستنتج أن الطين لم يكن يستخدم كمادة مباشرة في البناء، ولكن كان الخطوة الأولية في المحاجر فور استخراج الأحجار الضخمة أو في مواقع البناء، كخطوة أولية وضرورية لإعداد قوالب البناء قبل استخدامها. ولعلّي أزعم أن في هذا الاستنتاج تفسيراً مقبولاً للآية الكريمة التي تذكر استخدام الطين المُضرم فيه النار لبناء الصرح العملاق.

وتؤكد خلاصة هذه الأبحاث العلمية الرصينة أن المصريين القدماء استخدموا عبر الحقب التاريخية المختلفة -منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى عصر الدولة الحديثة- هذه التقنية في حرق الطين، ليس من أجل استخدامه المباشر في البناء كقوالب طوب، لكن للاستخدام في صقل وتنعيم الجيرانيت، وهو ما يرفع الإشكال في تفسير وتأويل الآية الكريمة، ويفتح الباب لفهم أوسع وأعمق للنص القرآني العظيم الذي يحمل في طياته إشارات علمية دقيقة لأحداث من الأزمنة الغابرة.

المراجع
  1. Heldal, T., Storemyr, P. (2015). Fire on the Rocks: Heat as an Agent in Ancient Egyptian Hard Stone Quarrying. In: Lollino, G., Manconi, A., Guzzetti, F., Culshaw, M., Bobrowsky, P., Luino, F. Engineering Geology for Society and Territory – Volume 5. Springer, Cham.
  2. Engelbach, R., (1923). The problem of the obelisks: from a study of the unfinished obelisk at Aswan.
  3. Goyon, G., (1976). Un procédé de travail du granit par l’action thermique chez les Anciens Egyptiens. Revue d’Egyptologie, 28, pp.74-86.
  4. Goedicke, H., 1964. Some remarks on stone quarrying in the Egyptian Middle Kingdom (2060-1786 BC). Journal of the American Research Center in Egypt, 3, pp.43-50.
  5. Craddock, P.T., 1996. The use of firesetting in the granite quarries of South India. Mining History: The Bulletin of the Peak District Mines Historical Society, 13(1), pp.7-11.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.