طفلي كلما تركته دقيقة واحدة، يبكي كأن القيامة تقوم، كنتُ معه منذ دقيقة واحدة، وأحاول تركه لدقيقة واحدة، لكنه لا يعي ذلك ولا يسمح بالابتعاد عنه ثانية واحدة، يبكي مفزوعًا كأنه صار بلا أم وكأنه لن يراني مرة أخرى!، يبكي عندما يجوع كأنه لن يأكل أبدًا.. لماذا يتعامل طفلي بهذه الطريقة؟ لا أخفي غضبي من عدم مراعاته لأي شيء، فهو يتعمد البكاء المستمر لتحقيق ما يريد دون الالتفات لأي شيء حوله، يراودني بعض الشعور أن طفلي يمتص روحي ولا يعبأ إلا بنفسه.. لماذا يفكر ويشعر طفلي هكذا؟.

تقول نظرية التحليل النفسي الحديثة إن النفس البشرية المستقرة ثلاثة أقسام:

1. الأنا العليا:

يمكن اختزالها في الضمير وهي الجانب النفسي المَعني بالفضائل والقيم والأخلاق والمبادئ المبتعد عن كل الأفعال الشهوانية والغرائزية.

2. الهو:

المعني بالشهوات وتحقيق أكبر كم ممكن من المنافع للشخص دون الالتفات لأي مفروض أو ممنوع أو منطق أو أخلاق، هو طفل يريد كل ما يريده فورًا وليحترق العالم بعد ذلك.

3. الأنا:

أنت. النفس الواقفة في المنتصف بين الشقين السابقين، حكمًا بينهما تفاضل في القرارات والأفعال بين تلك النفس التي تسعى للكمال والفضيلة دون أي غرائز والأخرى التي لا تعبأ بأي قاعدة أو مفروض أو إنسان آخر، وتريد حيازة كل شيء في العالم لها. لتخرج بصورتك وشخصيتك أنت في حالتك النفسية المُعتدلة.

مصطلح آخر علينا معرفته:

العقل الأول وهو العقل الأولي البدائي المعني بالغرائز الأولية لدى الإنسان، عقل غير متطور يعنى بالحاجة الأساسية الأولى للجسد مثل غريزة البقاء بما تتضمنها من السعي نحو توفير الأمان، الطعام، …إلخ

مثلاً في البالغين عندما يتعرض الفرد لمواقف تهدد حياته، قد تصدر منه بعض الأفعال الدُنيا غير المتوقعة (بغرض حماية حياته)، تلك الأفعال التي لم يكن ليقدم عليها لو كان في حالته الطبيعية، هنا العقل الأول (عند حدوث صدمات شديدة) يتولى زمام القيادة، ويبيح ما لم يكن يبيحه من قبل، في سبيل تحقيق السلامة والنجاة لنفسه.


مدخلك لعلم نفس النمو

تسيطر الغرائز على الطفل في شهوره الأولى قبل أن ينمو ويتطور نفسيًا، فنجده في شهوره الأولى يطلب ما يريد دون أن يبالي بأي ثمن يدفعه الآخرون جراء طلباته، يصرخ عندما تختفي أمه لثانية طالبًا تواجدها الأبدي بجانبه كأن لا شيء في الكون سواه، يبكي دون صبر أو مراعاة لأي ظروف كلما جاع كأنه لن يأكل ثانية!

الطفل الآن يتفاعل طبيعيًا وفقًا لعمره، فهو يطلب الأمان من الأم المتمثل فيها الحماية والغذاء، بل هي حرفيًا عالم الطفل كله، إن وثق فيها وثق في كل المحيطين به ووجد العالم كله (سواء الآن أو بعدما يكبر) مكانًا جديرًا بالثقة. وإن وجد أمه غير ذلك، فالعالم كريه مخفيف، فبالأم فقط يطمئن الطفل، وبدونها العالم قميء خطير مرعب.

دور الوالدين في علم نفس النمو في هذه المرحلة؛ تطوير مشاعر الطفل من سيطرة العقل الأول عليه، لعقل آخر أكثر تطورًا ومنطقية، عقل يفكر ويفاضل بين الأمور ويعقد الاتفاقات ويتخذ القرارات، وذلك عن طريق تحجيم العقل الأول الغرائزي ببناء الثقة الوطيدة بين الطفل وأمه، عن طريق التجاوب معه، تنمية المشاعر، وإقناعه أن ما لا يراه موجودًا، وما لا يحدث الآن سيحدث بعد قليل.

يحدث كل ذلك في الأساس بسبب غياب (الأنا)، فالطفل لم يتطور نفسيًا بعد وليست لديه (أنا) لتفاضل بين (حاجته) و(حاجة الآخرين) من حوله، أو لتتيح مساحة للتفكير واتخاذ القرار بتعقل وهدوء.

هنا دور علم نفس الطفل في توجيهنا لسبل تطوير نفسية الطفل للوصول للتصرفات المنطقية التي هي عمليات نفسية وعقلية مُركبة تستلزم أولاً (عدم الخوف/ الثقة) ومن ثم الهدوء لإتاحة المجال للعقل كي يمارس عملياته الواعية، ولا سبيل لذلك كما أسلفنا غير ثقة الطفل في أمه؛ فالطفل الذي لا يثق في (الأم أو الأب) لن يتطور نفسيًا ولن ينهي سريعًا هذه المرحلة الأنانية، بل ستستمر معه أكثر مما هو مفروض لها، وسيظل الطفل مذعورًا خائفًا لوقت طويل، ومن هنا تأتي كل شكاوى الآباء ومشاكل تربية الأبناء.


علم نفس الطفل يقدم الحل

يضع علم نفس النمو أيدينا على وسائل التصرف السليمة أثناء غياب (الأنا) العاقلة، فمهمة والديه في الشهور الأولى أن يساعداه على تطوير (أناته) بأن يحلا محلها ويقومان بدورها في التوجيه والقيادة كأنهما هما الصوت الداخلي inner voice للطفل، ذلك الصوت الذي يخاطب الطفل في نفسه ويوجهه للتفكير بهدوء وحساب النتائج المستقبلية ومن ثم اتخاذ القرارات الواعية.

بعد مرور الأشهر الأولى -يختلف عددها باختلاف أداء الأهل واستجابة الطفل- وبعد طمأنة الطفل وتحجيم مشاعره الغرائزية الطاغية التي تسيطر عليه (الأمان – البقاء – الغذاء… إلخ) لحساب المنطق (الثقة والتفكير)، يمكن للأبوين الانسحاب تدريجيًا للسماح له بإجراء عملياته العقلية بمفرده، بوصايتهم نعم، لكن هو الذي يجريها لا هم.

فالطفل الواثق يبدأ في خلق أناته مبكرًا أكثر مما نتخيل، ويكون هذا التطوير المبكر أحد الإنجازات العظيمة للأهل التي تحوّل حياة الأسرة كلها للأفضل، فالطفل لم يصبح ذلك المذعور الذي يصرخ كلما غابت عنه أمه، بل يفكر في هدوء هل غياب أمه مؤقت وستعود حالاً فهذا لا يستدعي الذعر، أم هناك مشكلة ما؟، وصولك لهذه المرحلة يعني أن البكاء لم يعد خيار الطفل الأول.

في المستقبل القريب كلما تقدم طفلك في العمر وتطور وعيه، تطورت الهيئات الثلاث لنفوسه فتظهر الأنا ويبدأ هو في أخذ زمام التفكير واتخاذ القرارات، لكنه سيبقي صوت أبويه بداخله، فهما كانا (أناته) فيما مضى، وسيظلا لوقت قريب، فالقيم التي رسخها أبواه ستمثل وعي الطفل الأولي ومبادئه لفترة أخرى، فعندما يسقط شيء سيضع إصبعه في فمه دليلاً على ارتكاب الخطأ ولوم النفس، هذا معتقد ثابت رسخته أنت فيه: (لا يجب أن نلقي بالأشياء على الأرض)، اللوم أتى من صوت والديه بداخله، فمبادئ والديه هي مصدر التكوين الداخلي لنفسه الآن، وهذه تربية جيدة.

سيحاول هو عما قريب نقد كل ذلك والانقلاب عليه، لكن لهذا حديث آخر.


عقاب الطفل: ماذا يفعل؟

الصراخ والعقاب والقسوة على الطفل لا تسمح للأبوين أن يحلا محل (أناة) الطفل، فلا نفس تضرب صاحبها ولا تصرخ في وجهه بصوت يصم الآذان.

عاقب طفلك واقسُ عليه وستخسر هذه الفرصة العظيمة في أن تكون صوت طفلك الداخلي، فالعقاب يُظهر الحدود الفارقة بين الطفل كفرد، والأب أو الأم كآخرين منفصلين تمامًا عنه، فلا يبات الاندماج ممكنًا أو بذات السهولة التي تحدث في حالة اتباع النقاش والتقويم وليس العقاب، ولهذا ينهى علم نفس التربية عن العقاب رغم أنه يحقق الانضباط عند الطفل، اضربه وسيخشاك جدًا لفترة، اصرخ فيه وسيحاول جاهدًا تجنب هذه الحالة، تظن أنت أن هذه وسائل فعالة وأن فعلك أتى بنتيجة في ضبط أفعال الطفل، لكن لعلم النفس رأيًا آخر.

هذا النظام وإن كان سيحقق بعض المكاسب الوقتية، لكنه يعتمد على تقنية أخرى غير تقنية (الإحلال محل الأنا وقيادة الطفل)، وهي تقنية استثمار (الخوف) وتنميته لدى الطفل.

فالطفل سيستجيب لك ويأتمر بأمرك لأنه خائف، لكن الإنسان في رحلته النفسية عمومًا، دائمًا ما يتطور ويتكيف مع الخوف ويطور دفاعات نفسية ضده تجعل منه لا مباليا. تخيل أستاذًا يضرب تلميذًا بعينه كل يوم كل يوم، بعد شهر كامل سيكون الضرب روتينيًا لا يثير في نفس الطفل أي شيء. وهذا ما لا نريده: (أن نصبح عاجزين عن إثارة أي شيء في نفوس أطفالنا)!.

لذلك عندنا تعاقب طفلك أو تقسو عليه، أنت تفقد السيطرة تمامًا، وليس العكس.

إجراء الحوار النفسي بينك وبينه وإتاحة المجال (للأخذ والعطاء) في القرارات هو سبيل مد جسر التواصل والسيطرة الحقيقية لك.


المُشكلة والحل

كل مشاكل السنة الأولى في عُمر الطفل -وتستمر بعد ذلك- تنشأ من عدم فهم الأبوين للتركيبة النفسية للطفل فهما يرونه كائنًا أنانيًا يهتم بنفسه فقط، وهو في الحقيقة يسعى للبقاء فقط بالوسائل التي يعرفها، وقد ينقم الأبوان عليه ويؤثر ذلك سلبًا على الفعل ورد الفعل، سواء من الأم للطفل ثم من الطفل للأم، ثم من الأم للجميع، مما ينتج أسرة مثقلة بالأعباء والضغوط النفسية، أسرة غير مستقر أفرادها.

والطفل غير متعمد لأي من كل ذلك، فنفسه لم تتطور كما أسلفنا فعقله الأول الغرائزي هو المتحدث الرسمي الوحيد، ونحن نريد أن نطمئنه لينتمي لنا فنكون نحن المتحكمين.

هذا يتأتى بطمأنته ونقل الواقع والحقيقة وأن الأم عندما تغيب خمس دقائق هي لا زالت موجودة في حياتك، ما لا تراه أنت عزيزي لا زال موجودًا، ما لا يحدث الآن لا يعني أنه لن يحدث إطلاقًا، بل سيحدث بعد قليل. والثقة لا تتأتى بالصراخ في وجهه ورجرجته مصحوبًا بجملة “انت عاوز ايه عاوز كل حاجة حالاً حرام عليك كفاية” بل تأتي بطمأنة الطفل، وبعض التدريبات تساعدنا في ترسيخ هذه المفاهيم والثقة.

تجدها في هذا المقال:تمارين الثقة أو كيف ينفصل طفلك عنك بهدوء

إدراك تلك الأبعاد والمُعتملات النفسية هي عمل مسئول الرعاية في طفولة الطفل المبكرة.

هذا مدخلك لعلم نفس الطفل ونستكمل في مقالات قادمة كيف يشعر ويفكر الطفل وماذا علينا أن نفعل لنماشي ونهيئ تفكيره ذلك، في المقال القادم.