إن الدولة المصرية – نظام ما بعد يوليو/ تموز 1952 – استطاعت وعلى مدار ستة عقود، من خلال بنية تشريعية صارمة وممارسات إجرائية، احتكار ما يزيد على 80% من المحتوى المعلوماتي للشعب، وتمكن الطابع الأمني الوصائي الأبوي للدولة من ابتلاع المجتمع وهيمن على المعرفة وطريقة الوصول للمعلومات من خلال الجهاز البيروقراطي، وأصبح على المجتمع أن یتلقى فقط المعلومات التي ترى السلطة أنه بحاجة إلیها أو یستحقها أو یمكن أن تحقق من خلالها منفعة لاستقرار وبقاء نظامها أو تدفع عنها ضرراً.

وعلى الرغم من وجود شكوك كثيرة حول إمكانية بناء نظام للعدالة الانتقالية في مصر على المدى القريب، بسبب غياب الإرادة السياسية اللازمة، التي ميزت النخب الحاكمة التي صعدت لسدة الحكم على مدار الأعوام الأربعة الأخيرة، إلا أنه تظل هناك ضرورة للبحث وكشف حقيقة ما حدث في الأحداث التي خلفت هذه الانتهاكات.


الأساس القانوني ومن له الحق في معرفة الحقيقة

عرف المركز الدولي للعدالة الانتقالية الحق في معرفة الحقيقة بأنه «حق الضحايا الذين وقعت عليهم انتهاكات جسيمة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وذويهم، والمجتمع في معرفة حقيقة تلك الانتهاكات التي وقعت، ومعرفة المسئولين عن ارتكابها والأسباب والظروف التي أدت إليها».

وهناك طرفان أساسيان لهما الحق في معرفة حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان، التي تقع أثناء الثورات والصراعات المسلحة والحروب، الطرف الأول، بالطبع هو الشخص وذوو من وقع عليه الضرر أو الانتهاك، ويرتبط حق الضحايا وذويهم في معرفة الحقيقة بحقهم في جبر الضرر الواقع عليهم، وكذلك حقهم في الترضية القضائية العادلة ومحاسبة المسئول عن الانتهاكات.

أما الطرف الثاني، الذي له الحق في معرفة الحقيقة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، فيشمل المجتمع بأسره أو (الشعب) الذي مر بتلك المحنة، التي بلا شك ستشكل جزءًا لا يتجز أ من تاريخه وضميره وذاكرته الجماعية، التي يجب الحفاظ عليها، من خلال إتاحة المعلومة وكشف الواقع لتكون الحقيقة مصونة في المجتمع نفسه، وليست حكرًا على مؤسسة أو سلطة أو أفراد. ويتجلى إقرار حق المجتمع في معرفة الحقيقة في نصوص وقرارات دولية عدة، نكتفي بذكر نص المبدأ الثاني من ذات التعريف الذي سبق أن استرشدنا به، ونص على:


لجان تقصي الحقائق بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011

28 يناير/ كانون الثاني، ماسبيرو، محمد محمود، مجلس الوزراء، العباسية، سجن بورسعيد ، كل هذه وغيرها من أحداث قتل المتظاهرين، وقعت دون أن تفصح السلطات المصرية عن الظروف التي ارتكبت فيها هذه الانتهاكات، أو عن مرتكبيها، ودون محاسبة جدية أو إرادة سياسية حقيقية لتحقيق العدالة الانتقالية اللازمة، لعلاج الجراح الاجتماعية التي خلفتها هذه الانتهاكات.

ومنذ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 أنشئت أكثر من 10 لجان لتقصي الحقائق، بقرارات إما من قبل رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المجلس القومي لحقوق الإنسان، حول أحداث العنف التي شهدتها مصر، كجزء من الصراع حول السلطة ومآل الثورة، ولم يتم نشر سوى تقرير واحد من كل تلك اللجان، وهو تقرير اللجنة التي تناولت أحداث فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة، والتي تم تشكيلها من أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، وتم نشر ذلك التقرير في منتصف شهر مارس/ آذار 2014.

أضف لذلك أنه لم يتم الإفصاح عن آليات عمل تلك اللجان وميزانياتها، وهو ما يعد حجبًا لمعلومات أساسية نشرها يمثل مؤشرًا على شفافية واستقلالية اللجان المشكلة. والأجدى من ذلك أنه حتى الآن لم يتم ضم أي من تقارير تلك اللجان إلى ملفات قضايا الثورة، بالرغم من طلب المحاكم التي تداولت تلك القضايا ضمها، مما يعد عائقًا وحجر عثرة أمام العدالة المرجوة والإنصاف الذي يستحقه الضحايا.

خلاصة القول.. إنه في غياب تلك الإجراءات والسياسات، نجد أنفسنا بصدد وضع «غير منضبط» في سياسات معرفة الحقيقة، بالإضافة إلى أنه ليس لدينا هيئة مستقلة «استثنائية» تنتزع الوثائق الأمنية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في فترة الثورة منذ 25 يناير وحتى وقتنا هذا، بالإضافة إلى أن السياسات المعلوماتية للجان تقصي الحقائق غير متاحة للجمهور، مما يطعن في استقلالية وشفافية اللجان.

ونجد أيضًا أن تقارير اللجان لم يتم نشرها، بل تم نشر بعض من تقارير اللجان التي تتناول انتهاكات فصيل محدد، وحجب باقي التقارير التي تمد المجتمع بحقيقة انتهاكات وقعت قبل حكم ذلك الفصيل وأثناء تولي «مبارك » والمجلس العسكري شئون البلاد، في غياب كل هذه الإجراءات والسياسات التي يتجلى فيها غياب الإرادة السياسية لحفظ حقوق الضحايا والحفاظ على ذاكرة وضمير المجتمع، وإثراء روايات التاريخ من خلال سياسات معرفة الحقيقة.


الهدف من معرفة الحقيقة

إن الهدف الأعظم من معرفة الحقيقة هو أن تظل ذكرى انتهاكات الماضي ماثلة في المستقبل لتحول دون تكرار ارتكابها مرة أخرى، فضلاً عن أن كشف حقيقة هذه الانتهاكات جزء من عملية إنصاف الضحايا، والاعتراف بحقوقهم وتعويضهم وجبر الضرر إن أمكن.

أضف لذلك أن الأحداث التي تقع للشعوب هي جزء من تاريخها وتراثها، ينبني على ذلك ضرورة صيانة التراث، من خلال اتخاذ التدابير المناسبة؛ من حفظ السجلات والمواقع التي تمت فيها الانتهاكات. قد يظن البعض أن أسلم طريقة لتجاوز الماضي واضطراباته، هي طي صفحات الألم والجرح التاريخي، والنظر إلى المستقبل من أجل البناء والتنمية غير أن هذا الرأي بعيد كل البعد عن الصحة.

فالمصلحة العامة تقتضي معرفة حقائق الأمور من خلال كشف الانتهاكات والوقائع الأليمة التي شكلت وما زالت تشكل جزءًا لا يتجز أ من ضمير المجتمع ووعيه الجمعي، الذي لا يمكن نكرانه أو حذفه أو نسيانه أو التلاعب به أو فرض حقائق أخرى أو تحريف تاريخ الصراعات التي يمر بها المجتمع. ناهيك عن أن الحق في معرفة الحقيقة هو حق راسخ في العرف الدولي، ولا يمكن المساس به أو إسقاطه بالتقادم أو بالتذرع بالعفو أو المصالحة.


خلق المعرفة البديلة

الحقيقة أنه هناك محاولات لخلق قاعدة معلوماتية مستقلة عن السلطة، عبر المجموعات الشبابية المنخرطة في الأحداث، أو المهتمة بتوثيق ما حدث، وعبر أيضًا الأعمال الفردية الموثقة للتاريخ؛ سواء كان التوثيق للبيانات والإحصائيات، أو كان توثيقًا فنيًا من خلال التأريخ الشفهي وسرد قصص الضحايا، وبالرغم من عدم تبلور أو وضوح معايير تلك المجموعات المستقلة الموثقة للأحداث، إلا أنها ربما تصبح المعول الأساسي لدينا مستقبلًا لحماية معرفة الحقيقة.


أخيرًا

لكل شعب حق غير قابل للتصرف في معرفة الحقيقة عن الأحداث الماضية، المتعلقة بارتكاب جرائم شنيعة، وعن الظروف والأسباب التي أفضت إلى الانتهاكات الجسيمة أو المنهجية لحقوق الإنسان، وإلى ارتكاب هذه الجرائم. وتقدم الممارسة الكاملة والفعالة للحق في معرفة الحقيقة ضمانًا حيويًا لتفادي وقوع هذه الانتهاكات.

فإن إنكار الحقيقة لا يعني غيابها، أو سقوطها بالتقادم، والإنسان يطالب بحقوقه لأنه جُبل عليها وخلقت معه، وليس لأنها كتبت في مواثيق أو طورتها فرق عمل في مؤسسات، إلا أن الشعور الأقوى لدي الآن أنه ليس من المنطقي أن نكتب في تبرير المطالبة بالحرية والحق في المعرفة والشفافية، وتفنيد أسبابها وأهميتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. لجان تقصي حقائق بلا حقيقة – ورقة تحليل سياسات «مؤسسة حرية الفكر والتعبير»
  2. اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة – ورقة موقف «مؤسسة حرية الفكر والتعبير»