كانت هذه هي فرصتي الأخيرة لإثبات نفسي مؤلفًا. كان لزامًا عليَّ أن أستغل آخر فرصي قدر الإمكان، خاصةً بعدما قَبِل وكيل أعمال المؤلف الكبير تحديد موعد لمدة ساعة لمقابلته.

– ما مشكلتك؟ سألني المؤلف الكبير فور دخولي.

– مشكلتي أنني مؤلف.

– نعم! (تعجَّب المؤلف الكبير من إجابتي).

– نعم أؤلف القصص. القصص فقط لا شيء سواها. لا أجيد كتابة الشعر ولا الأغاني ولا حتى الروايات الطويلة. أنا فقط مُغرم بكتابة القصص القصيرة. أنا أكتب طوال الوقت. لا أتوقف غالبًا عن الكتابة. أتُصدِّق لقد كتبت ثلاث قصص بينما كنت في طريقي إلى هنا.

– أمعك شيء من مؤلفاتك؟ أيمكن أن تُريِني قصة من الثلاث؟

– هذه هي المشكلة. كل ما أكتبه يتبخر بمجرد الكتابة. كل القصص التي أكتبها تختفي فور كتابتها كأنها لم تُكتب. لقد جرَّبت جميع أنواع الورق. الأبيض والملون، الناعم والخشن، السميك والشفاف، المسطور والناصع الخالي تمامًا من الأسطر، حتى إنني كتبت على أوراق الشجر، قطفت الأوراق بعناية وبيَّضتها بمحلول كيميائي خاص، نزع خضارها دون أن ينزع ليونتها، رصصتها أمامي وكتبت في ورقة تلو الأخرى، لكن كل شيء اختفى أيضًا.

لم يقتصر الأمر على الورق، كتبت على الجدران، على أثاث البيت، حتى الملاءات والمفارش لم تسلم من قصصي، القصص تتوالد في رأسي واحدة بعد الأخرى، ما أكتبه يذهب ويختفي، أحيانًا أتذكره وأعيد تدوينه وأحيانًا أخرى أنساه تمامًا، لكن تأتيني بعدها أفكارٌ أخرى أكثر جمالًا تنسيني حسرتي على ما فات. حتى ملابسي كتبت عليها قطعة بعد الأخرى، لتئُول قصصي المُدوَّنة عليها إلى المصير نفسه.

– منْ أخبرك أنك كاتب؟ ربما أنت لست مؤلفًا من الأصل!

– لا، على العكس، لقد عاملني الجميع في السابق دومًا على أنني مؤلف. ربما بفعل الزمن والسنوات هم لا يتذكرون الأمر الآن. لكن في الصغر كانت أمي كثيرًا ما تهتم بتعليمي، تُخصِّص لي حصة في الاستذكار أكبر من شقيقي، كانت تُدقِّق معي في نطق الأحرف بصورة صحيحة، تتابع دروس الإملاء بمنتهى الاهتمام، كثيرًا ما عاقبتني على أي خطأ إملائي أو لغوي مهما كان بسيطًا. كانت تعاقبني وهي تقول لا يجوز أن تُخطِئ أبدًا في الكتابة لأنك مؤلف.

حتى شقيقي أهداني قلمه الذهبي الذي حصل عليه هدية في عيد ميلاده، قائلًا أنت منْ تستحقه لأنك أنت المؤلف. في أحد الأيام اشترت أمي لي نظارة دون أن أكون مصابًا بقصر النظر أو طوله، قالت يجب أن ترتدي نظارة لأنك مؤلف. ارتديتها لسنوات طويلة رغم أنها كانت تُشوِّش رؤيتي، لكن مع ذلك لقد ساعدتني كثيرًا على الكتابة. حتى إنني ما زلت أحتفظ بها معي إلى اليوم، وأستخدمها كثيرًا وأنا أكتب.

كانت تضع كُتبًا صغيرة أيضًا في جيوب ملابسي، كلما غسلتْ بنطالي وفردته بالمكواة وضعت كتابًا صغيرًا في أحد جيوبه، كانت تقول اقرأ، عليك ألا تتوقف أبدًا عن القراءة لأنك مؤلف. حتى إنها اتفقت مع بائع الكتب الذي كان يقع دكانه في آخر شارعنا على أن يُقرضني كُتبًا بأسعار زهيدة لأقرأها وأردها له بشرط أن تكون على نفس حالتها دون أي مزق أو تخريب، البائع صار يعرفني، كلما أعدت له كتابًا كنت أشكره، فيرد: عفوًا حضرة المؤلف.

وصلت الحكاية لأسماع أصدقائي في المدرسة الذين صاروا يتناقصون يومًا بعد آخر، حتى لم يعد لي ولا صديق واحد، كانوا يشيرون إليَّ بأصابعهم القصيرة ويتضاحكون، لم يستسيغوا وقتها فكرة أن يصير الطفل مؤلفًا. وحينما كنت أشتكي لأمي كنت تجيب بأن المؤلف الحقيقي يجب ألا يكون له أصدقاء. كل ذلك ساعدني لكي أصير مؤلفًا حقيقيًّا، حتى وإن لم أكن وقتها.

– متى كانت أولى محاولاتك للكتابة؟

لا أذكر تمامًا في أي عمر، لكني تعلَّمت الكتابة وقتما تعلَّمت الكلام. كانت أمي لا تسمح لي بتعلم كلمة جديدة دون أن أكتبها. لم يكن مسموحًا لي بالنطق إلا بالتوازي مع الكتابة. مع الوقت استسهلت الكتابة واستعضت بها عن الكلام، لو تشاجرت مع شقيقي، لا أعنِّفه ولا أرد حتى على ضرباته، بل أكتب قصة، لو شعرت بالجوع أكتب قصة، لو حلمت بشراء لعبة أكتب قصة، عندما أحببت فتاة للمرة الأولى كتبت قصة، وحتى حين رحل أبي لم أفعل أي شيء سوى أنني كتبت قصة.

– وهل كانت قصصك تختفي في الصغر أيضًا؟

– نعم … حين اختفت أولى قصصي فزعت ولجأت إلى أمي التي طمأنتني. قالت هذا يعني أنك مؤلف عظيم. كلما أنهيت ورقة، كانت تحملها وتخبئها مني قبل أن تتبخر الكلمات من فوقها كي لا تحبطني وتدفعني قدمًا للاستمرار. لم أشعر بفداحة الأمر إلا بعد وفاتها، يومها فتحت خزانتها التي احتفظت فيها بكل أوراقي لأجدها ترقد ببياضها الخام كأنها لم تُمس.

بعدما تزوجتُ اختلف الأمر قليلًا، لقد سمحت لي شريكتي في مرة أن أكتب على كفها، كتبتُ بعض الأسطر. الغريب أنها لم تختفِ. كنت سعيدًا وقتها أيما سعادة، حتى إنها تعرت أمامي بمنتهى الرضا، رقدت على بطنها وتركت لي مساحة الظهر كلها لكي أكتب عليها بكل حرية.

كتبت وكتبت، سوَّدت كل المساحات، كتبت قصة تلو أخرى، أنهيت الظهر وكتبت على ساقها واحدة بعد الأخرى، وصلت إلى الكعوب التي غيَّرت حمرتها لون الكتابة قليلًا، امتدت الكلمات إلى كل إصبع من الأصابع الخمسة، وصلت متعتي لأقصاها بينما كنت أقلبها على ظهرها مُكمِّلًا بقية القصص التي كانت لا تزال تنهمر من رأسي دونما انقطاع. سوَّدت مساحة الصدر والبطن، كانت كلماتي تمضي في خطوط مستقيمة أغلب الوقت. حتى وصلت إلى قرب السرة فبدأت الخطوط تمضي بي في مسارات دائرية.

سوَّدت كل مكان في جسدها تقريبًا، لم أترك ولو مساحة واحدة فارغة حتى إنني كتبت فوق جفنيها وعلى شحمة أذنيها. ظلت الكلمات موجودة على جسدها قرابة الأسبوع، ثم اختفت فجأة في اليوم السابع، لقد اكتمل خلق العالم في اليوم السابع بينما عالمي أنا قد قرر أن ينهار في اليوم نفسه. أعدنا الكرَّة وفي كل مرة لا تدوم الكتابة لأكثر من ستة أيام. عدت لإحباطي السابق وقرَّرت ألا أُعذِّبها معي من جديد. ورغم ذلك كانت تسمح لي من وقت لآخر بالكتابة على جزء بعينه تختاره كل مرة على مزاجها.

لم يتغير شيء، ما زلت عاجزًا عن إعلان موهبتي للآخرين. إذ لم يكن من الممكن أن أحمل جسد امرأتي لمقر جريدة أو إحدى دور النشر ليتمكَّنوا من القراءة ويُصدقوا موهبتي، التي عجزت لسنوات عن إثباتها. كانت خطاباتي التي أملأها بالقصص تصلهم خاوية. حتى لو نسختها على الحاسب الآلي وأرسلتها رسالة إلكترونية، كانت الإجابة واحدة: لا نجد مادة النص التي أرسلتها، لكم تمنيت لو طبعت كتابًا، لو نشرت ولو قصة واحدة باسمي في مجلة أو جريدة.

– ألم تفكر في تسجيل قصصك في ملفٍ صوتي؟

– لا أجيد فعل ذلك. أنا لا أُجيد شيئًا إلا الكتابة.

– لا أعرف كيف سيكون بإمكاني أن أساعدك وكل ما تقوله أقرب للوهم منه لحقيقة أو واقع ملموس.

– بوسعي أن أؤلف قصة حقيقية أمامك الآن.

هز رأسه بالموافقة، مُناوِلًا إياي بعض الورق الأبيض. أخذت الورق وبدأت في الكتابة، سطرًا بعد آخر. القصص تنساب مني بمجرد الإمساك بالقلم، بمجرد ملامسة الورق. أبدى اهتمامًا بما أكتب، ظل يتابع سطرًا بسطر وكلمة بكلمة مُنفعلًا به. حتى بدأت السطور في التحرك من داخل الورق ليبتلع بعضها بعضًا، كل سطرين متتاليين كانا يتقاربان بصورة أقوى حتى يُمحَى كل ما بينهما، كأنهما فكان ينطبقان على الطعام المُلتهَم لابتلاعه.

ظلَّت السطور تُلاحقني حتى اقتربت مما أكتبه، وصارت الكلمات التي أكتبها تختفي أولًا بأول، لدرجة أنني كنت أشعر بألم ابتلاع الكلمات وهو يقرصني في أصابعي التي تلامس الورق، حتى إن المؤلف بدأ يجز على أسنانه متأثرًا بأوجاعي.

انتهيت أخيرًا من القصة، وانتهى وقتي مع المؤلف الكبير.

كنت في حاجة لأي تعقيب ولو بسيط عن رأيه فيما قرأه. لكنه آثر الصمت، حتى إنني حين مددت له يدي لأصافحه قبل مغادرتي، لم يكترث، ولا حتى ألتفت ناحيتي، كما لو كنت كائنًا غير مرئي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.