تمر الأسابيع والأشهر بطيئة في واشنطن انتظارًا لعودة المفاوضين الإيرانيين إلى طاولة المباحثات في فيينا، ولا يبدو في الأفق غير الغموض المتعمد من قِبل طهران التي تمارس حرب أعصاب على قادة الغرب، وهي اللعبة التي يتقنها ساستها بامتياز، إذ بدأت المفاوضات غير المباشرة بين الأمريكيين والإيرانيين مطلع أبريل/نيسان في العاصمة النمساوية بمشاركة فرنسا وبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا، الأطراف في الاتفاق النووي المبرم 2015، لكن المباحثات توقفت تمامًا منذ انتخاب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي في العشرين من يونيو/حزيران ولم تُستأنف حتى اليوم.

وتتلكأ طهران في العودة إلى مباحثات ظلت خلال جولاتها الست السابقة ترفض حسم القضايا الخلافية الأساسية، وتصر على عودة الولايات المتحدة أولًا للاتفاق الذي انسحبت منه عام 2018 ورفع كل العقوبات الأمريكية كشرط لعودة الإيرانيين للالتزام بالمعاهدة.

بينما أعلنت واشنطن مرارًا أنها لن ترفع عقوباتها إلا بعد رجوع طهران أولاً ثم بعد فترة تقييم لمدى جدية الالتزام الإيراني يتم رفع العقوبات المتعلقة فقط بالملف النووي دون المتعلقة بالإرهاب أو حقوق الإنسان مثلاً، ويحاول الوسطاء الآخرون في الاتفاق التوصل إلى عودة متزامنة يتحرك فيها الخصمان بخطوات متوازية.

وقد انسحب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، من المعاهدة وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران بهدف إجبارها على إضافة بنود إلى الاتفاق تشمل قيودًا على البرنامج الصاروخي والتوسعات الإقليمية، وإطالة مدة سريان المعاهدة التي من المفترض أن تنتهي عام 2030، وكان الرد الإيراني هو انتهاك القيود النووية تدريجيًا ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60% بدلاً من 3.67% التي يحددها الاتفاق.

ولم يكتفِ الإيرانيون برفض استئناف محادثات فيينا، بل رفضوا عقد الاجتماع الدوري على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة للدول التي لا تزال موقعة على الاتفاق النووي، وهو الذي يُعقد سنويًا بشكل منتظم.

«قريبًا»

وتذرعت إيران بأن الانتقال الرئاسي سبب تعطيل المباحثات وأن فريقًا جديدًا سيتولى الملف لكن المدة طالت بشكل أكبر من المتوقع، واكتفت وزارة الخارجية الإيرانية بالإعلان عن أن المحادثات ستُستأنف خلال أسابيع قليلة دون تحديد موعد، وقال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، إن عودة بلاده ستكون «قريبًا جدًا»، مما دعا المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، ليعلق قائلاً: «يجب أن نسأل الإيرانيين ما المقصود بقولهم قريبًا جدًا».

وخرج بعدها عبد اللهيان في حديث مع مراسل التلفزيون الإيراني ليشرح أن هناك فرقًا بين تفسير بلاده لكلمة «قريبًا» والتفسير الغربي لها، وأنه خلال اللقاءات التي أجراها الإيرانيون كان يُطلب منهم تحديد موعد محدد، مبينًا أن كلمة «قريبًا» معناها أنه بمجرد انتهائنا من دراسة ملف المباحثات وجولاتها الماضية سوف نستأنفها»، مُذكّرًا الدول الأوروبية بأنها تلكأت سابقًا في تطبيق آلية التبادل التجاري مع طهران «انستكس» وكانوا يُمَنون بلاده بتفعيلها «قريبًا».

وبعيدًا عن هذه المكايدات اللفظية فإن ما تراهن عليه طهران حقًا هو اللعب على المخاوف الأمريكية من عامل الوقت، مما سيتيح موقفًا تفاوضيًا أقوى لطهران التي تفتقر لأدوات ضغط بقوة كالتي في حوزة الولايات المتحدة، ولذا فإن مرور الوقت على إيران بدون قيود مفروضة عليها يعني زيادة اقترابها من إنتاج السلاح النووي وهو أمر لا يمكن معالجته حال حدوثه، إذ ليس باستطاعة أحد حينها إعادة المارد إلى القمقم بحسب تعبير رفائيل جروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وقد صرح جوزيب بوريل، المنسق الأعلى للسياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي بأنه يجب أولاً وقبل كل شيء تجنب سيناريو «إيران النووية» ثم بعد ذلك يمكن معالجة تدخلاتها الإقليمية.

وبالفعل فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تتلهف على عودة إيران إلى الاتفاق بأسرع وقت، لكن الخلاف يكمن في تصورها لتلك العودة التي تريد أن تكون قاعدة انطلاق للتوصل إلى تفاهمات مع الإيرانيين حول برنامجهم الصاروخي وتدخلاتهم الإقليمية بينما هم يريدون أن تكون العودة إلى الاتفاق هي آخر المطاف.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا الصين ولا روسيا تقبلان أن تزاحمهما إيران في النادي النووي رغم العلاقات الوثيقة التي تربطهما بها.

ويحاول الفريق الجديد في طهران الذي عينه إبراهيم رئيسي فهم ما إذا كان باستطاعتهم الحصول على أكثر مما توصل إليه فريق حكومة حسن روحاني السابقة. وقد حذر المفاوض الأوروبي، أنريكي مورا، من هذه المحاولات مبينًا أن كل القوى الكبرى المشاركة في الاتفاق أجمعت على أن المفاوضات ستستأنف من النقطة التي توقفت عندها في حزيران/يونيو ولن تبدأ من الصفر، دون أن يكشف بالتفصيل ما الذي تم التوصل إليه حتى الآن.

نفاد الصبر الأمريكي

لكن الولايات المتحدة كررت على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، التحذير من أن العودة للاتفاق ستصبح في مرحلة ما «غير مجدية» وقريبًا سيصبح من غير الممكن إنقاذ الاتفاق النووي.

إذ تلوح واشنطن بأنها لن تنتظر إلى ما لا نهاية مع قصر وقت الاختراق النووي لتصبح طهران على بُعد أسابيع من امتلاك قنبلتها الأولى، وقد قدر وزير الدفاع الإسرائيلي بأنها على بعد شهرين أو ثلاثة من امتلاك المواد اللازمة لإنتاج القنبلة.

تدفع تل أبيب الأمريكيين دفعًا لاتخاذ خطوات أكثر حسمًا ضد طهران وعدم المراهنة على عودة إيران طوعًا إلى المعاهدة، ويبحث الطرفان خطة بديلة للتصرف حيال التهديد النووي الوشيك.

كما أن الإدارة الأمريكية الحالية المتهمة بالتراخي والفشل في إدارة الملف الأفغاني لا تحتمل هزيمة أخرى في الملف الإيراني ولذلك فإن الخطة «ب» يتم تجهيزها بالتنسيق مع الإسرائيليين، الذين صوّت الكونجرس الأمريكي بأغلبية واضحة لصالح مدهم بمليار دولار لتحديث منظومة «القبة الحديدية» للدفاع الصاروخي.

وأمام نفاد الصبر الغربي الوشيك، تحاول طهران التلويح بقرب عودتها إلى مائدة المفاوضات في فيينا، بينما تسعى في الوقت نفسه لتحويل تدخلاتها العسكرية الخارجية إلى مكاسب دائمة معترف بها إقليميًا كي تصبح أمرًا واقعًا لا مجال للتفاوض عليه. وفي سبيل ذلك، تعقد مباحثات مع السعودية للاتفاق على ترتيبات إقليمية جديدة.

وعلى طريقة إيران المعهودة فإن المباحثات تجري بينما تنهال صواريخ ومُسَيرات ميليشيا الحوثي التابعة لإيران على الجنوب السعودي كإحدى وسائل الضغط للحصول على أكبر تنازلات من الرياض فيما يخص الملف اليمني على الأقل.

كما تسعى طهران لتجنب تقديم أي تنازل بخصوص برنامجها الصاروخي، إذ تعتبره بمثابة تعويض عن تحديث أفرع قواتها المسلحة الأخرى التي تعاني من تأخر في قدراتها التسليحية بسبب العقوبات.

ويتمثل الهدف الإيراني حاليًا في العودة إلى الاتفاق النووي لرفع العقوبات الأمريكية التي كبلت الاقتصاد، وأن تكون هذه العودة تعزيزًا لمكانتها في المنطقة، وليس العكس. وفي سبيل ذلك، رضيت بتجرع غصص الضغوط الأمريكية لسنوات لتحقق مقولة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب: «إيران لم تنتصر أبدًا في أي حرب، لكنها لم تخسر إطلاقًا أي مفاوضات».