بعد نحو عشر سنوات من النزيف السوري، وبحصيلة ضحايا تقارب نصف مليون قتيل وأكثر من 13 مليون لاجئ وعشرات الآلاف من المفقودين والمخطوفين مجهولي المصير، يبدو النظام السوري اليوم وكأنه ربح المعركة بعدما رفع أعلامه في معظم المحافظات واحتفل إعلامه بالنصر المبين، إذ حشر معظم معارضيه في إدلب على أرض تسمى نظريًّا بمنطقة «خفض التصعيد» تتناقص مساحتها مع مرور الأيام على وقع هجماته العسكرية.

إلا أن هذه السيطرة الاسمية لا تعكس واقع الحال، فالقوى الأجنبية أصبح لها كلمة الفصل في البلاد، حتى إن الجيش النظامي صار يوصف بأنه عاشر أقوى جيش في سوريا، كما أن وحداته وكتائبه أصبحت مفرقة الولاء بين موسكو وطهران اللتين أخذتا تتقاسمان السيطرة على غنائم الحرب.

الروس يقبضون الثمن

بعدما وضعت الحرب أوزارها في معظم المناطق بدأ تنافُس من نوع جديد بين رفقاء الأمس الذين اندفعوا كالضباع يتنازعون على نهش فرائسهم. فالروس الذين أنفقوا في حملتهم العسكرية المليارات يبتغون تعويضها، والإيرانيون الذين أنفقوا مبالغ طائلة رغم أزمتهم المالية وفقد الآلاف من مقاتليهم أرواحهم على الأرض السورية يريدون ثمنًا لدمائهم وأموالهم.

أخذ الروس يستولون على أهم الأصول الاستراتيجية والاقتصادية في سوريا، ومضوا في تقنين هذه الخطوات، فاستأجروا ميناء طرطوس على البحر المتوسط لمدة 49 عامًا، كما وقَّعوا اتفاقًا مع دمشق يخولهم الحصول على 70% من عائدات الفوسفات المستخرج من مناجم تدمر الغنية لمدة 50 عامًا، وهيمنوا على قطاع المطاحن في حمص وعلى شركة الأسمدة فيها التي تعد أكبر مجمع صناعي كيميائي في سوريا لمدة 40 عامًا، كما أخذت الشركات النفطية الروسية الحق الحصري للتنقيب عن النفط في ساحل طرطوس لربع قرن، وحق إدارة حقول نفطية في محافظة دير الزور، فضلًا عن عشرات المواقع الأخرى التي استحوذت عليها موسكو بحكم الواقع دون حتى أي اتفاقات صورية مع النظام.

وتنشر موسكو جيشها وشرطتها العسكرية لحماية استثماراتها في سوريا، كما تسيطر بشكل مباشر على عدد كبير من قوات الجيش السوري النظامي، كالفيلق الخامس، وقوات النمر التي غيرت اسمها إلى «الفرقة 25 مهام خاصة مكافحة الإرهاب»، بجانب عدد من الميليشيات كلواء القدس وصائدي الدواعش التي تحمي القواعد والمصالح الروسية.

القتال على الغنائم

تحاول موسكو بشكل محموم الاستحواذ على أكبر قدر من الموارد السورية استباقًا للإيرانيين الذين يضغطون على النظام السوري لتسديد ديون يقدرونها بعشرات المليارات، واستطاع الروس الاستيلاء على أكثر من حقل نفطي من أيدي الميليشيات التابعة لطهران، ووقعت اشتباكات بين الفيلق الخامس التابع لروسيا والفرقة الرابعة المقربة من إيران في دير الزور وحماة وريفها وريف اللاذقية، وأوقعت بعض تلك المواجهات قتلى وجرحى.

وعندما وقَّع الإيرانيون اتفاقية تعاون عسكري مع دمشق في يوليو/تموز 2020، قامت موسكو بإفشالها من خلال التنسيق مع إسرائيل التي شنت مئات الغارات على المواقع الإيرانية، بينما عطل الروس عمل الدفاعات الجوية خلال تلك الغارات، كما حاولوا التوسط لدى واشنطن لتخفيف العقوبات على طهران مقابل سحب قواتها من سوريا، وهو ما رفضه الإيرانيون تمامًا.

أدرج الروس لغتهم بدلاً من الفرنسية كلغة ثانية للتعليم، مما أغضب الإيرانيين الذين سعوا لفرض لغتهم عبر تنظيم دورات لتعليم الفارسية في بعض المدارس وطبَّقوها من تلقاء أنفسهم على طلاب محافظتي الرقة ودير الزور في المدارس الابتدائية والمتوسطة.

الأرض «لمن يسرقها»

وتعتمد طهران على التغلغل في الأجهزة الأمنية السورية إلى جانب تشكيلها لميليشيات تضم عشرات الآلاف من المقاتلين الذين جلبتهم من إيران والعراق وأفغانستان وباكستان ولبنان مهمتهم حماية المصالح الإيرانية ومحاولة الاستيلاء على مساحة متصلة من الأراضي تمتد من الحدود الشرقية مع العراق وحتى ساحل البحر المتوسط في الغرب.

ويحاول الإيرانيون بسط سيطرتهم على ميناء اللاذقية بكل إصرار ليكون لهم منفذ بحري في شرق المتوسط، كما نجحوا في حيازة عدد من آبار النفط في البوكمال في أقصى الشرق، ووضعوا أيديهم على مراكز تجارية وصناعية مهمة، وعدد من المنشآت الحيوية كمطار دمشق الدولي ومطار تي فور، ومساحات واسعة من الأراضي الزراعية.

كما تتم مقايضة شحنات النفط التي يتم استيرادها من إيران بمنح الأخيرة أراضي ومرافق بنية تحتية في المناطق التي تهتم بتثبيت وجودها فيها كالشرق وحمص والسيدة زينب، وهي تعاملات مربحة لطهران الممنوعة وفقًا للعقوبات الأمريكية من تصدير النفط الذي يعتمد عليه اقتصادها بشكل رئيسي.

وفي محاولة للسيطرة على السوق السورية لتخفيف أثر العقوبات المفروضة عليهم اتفق الإيرانيون الشهر الماضي مع النظام السوري على «مقايضة» المنتجات بينهما، بعد نجاح الفكرة في تصريف النفط في سوريا، فمع هبوط قيمة العملة الإيرانية إلى نحو 250 ألف ريال للدولار الواحد ووصول قيمة الليرة السورية إلى حوالي واحد على ثلاثة آلاف من الدولار، لم يعد من المجدي استعمال تلك العملات في التجارة الخارجية.

كما توسعت طهران وميليشياتها في حيازة المنشآت السكنية سواء بالشراء أو الاستيلاء في شرق سوريا، مثل مدينة الميادين التي أصبحت محمية إيرانية، وكذلك في حلب ومنطقة السيدة زينب جنوب دمشق التي أصبحت ذات صبغة شيعية واضحة ضمن خطة ممنهجة لتغيير التركيبة الديموغرافية للمناطق التي هجرها السوريون بسبب الحرب.

وقد أصدر النظام السوري ما عُرف بـ «القانون رقم 10» الذي يقضي بمصادرة أملاك المواطنين الغائبين الذين شردتهم الحرب، كما تم منح الجنسية لعدد من المسلحين الشيعة من مختلف الجنسيات من الذين قاتلوا ضمن الميليشيات ليحلوا محل الأهالي المهجرين، مصداقًا لما أعلنه بشار الأسد أن «الأرض لمن يدافع عنها» وليس لمن يسكنها.

وبعد الضربات الجوية الإسرائيلية المكثفة وضغط روسيا على إيران للانسحاب من بعض الأماكن لجأت طهران إلى تجنيد الشباب السوري برواتب زهيدة مقابل عدم اعتقالهم والحجز على أملاكهم، وشكَّلت منهم ميليشيات محلية تابعة لها على غرار لواء العرين في درعا، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن عدد هؤلاء بلغ أكثر من 18 ألف سوري، منهم 13.5 ألف في الجنوب.

وتتنافس روسيا مع إيران في هذا الصعيد أيضًا إذ نجحت موسكو في تغيير ولاء بعض الميليشيات التي كانت تتبع لطهران، فالبشر أيضًا وليس فقط الممتلكات المادية أصبحوا محل تنافس بين القوى الأجنبية التي تتداعى على سوريا المثخنة بالجراح كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.