جاء اتفاق المملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية في العاصمة الصينية على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما في العاشر من آذار/ مارس، ليفتح صفحة جديدة بين القوتين الإقليميتين المتنافستين، وهو اتفاق من المرتقب أن يلقي بظلاله على المنطقة ككل خصوصًا دول المشرق العربي.

وذكر بيان ثلاثي وقعته الرياض وطهران وبكين أن وزيري خارجية السعودية وإيران سيلتقيان لتنفيذ هذا القرار وإجراء الترتيبات اللازمة، وأكد البيان احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني ​​المبرمة عام 2001، والاتفاقية الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والتعاون الفني والعلمي والثقافي والرياضي والشبابي المبرمة عام 1998.

وأوضح البيان أن الدول الثلاث تعلن عزمها على توظيف جميع الجهود لتعزيز السلام والأمن، مع تحديد مهلة شهرين لعودة السفارات والممثليات في البلدين.

ووقع البيان عن الجانب الإيراني علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وعن الجانب السعودي مساعد بن محمد العيبان وزير الدولة عضو مجلس الوزراء ومستشار الأمن الوطني، وعن الجانب الصيني فانغ يي، مستشار الأمن القومي وعضو المكتب السياسي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي ورئيس مكتب اللجنة المركزية للشئون الخارجية.

وقال وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان، إن تطبيع العلاقات توفر إمكانات كبيرة للبلدين والمنطقة والعالم الإسلامي، ونسب الإنجاز لحكومة رئيس الجمهورية الحالي، إبراهيم رئيسي، رغم أن المفاوضات التي أنتجت هذا الاتفاق بدأت في عهد حكومة الرئيس السابق، حسن روحاني.

ولم يفوت روحاني الفرصة للتعليق، فنشر صورة من الهجوم على السفارة السعودية في طهران عام 2016، وكتب «أسبوعان قبل تنفيذ الاتفاق النووي»، وأضاف: «لا سامح الله الذين لم يسمحوا بإقامة علاقات جيدة بين إيران وبعض دور الجوار».

إذ قُطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عهد روحاني في ديسمبر/كانون الأول عام 2016 بعد الاعتداء على سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد احتجاجًا على إعدام رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر، وذلك قبيل سريان تنفيذ الاتفاق النووي الذي رُفعت بموجبه العقوبات الأممية عن طهران.

سنتان من المفاوضات

استمرت المفاوضات بين الرياض وطهران لسنتين تقريبًا؛ فقد بدأت في أبريل/ نيسان 2021، في نفس التوقيت الذي بدأت فيه المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران حول الاتفاق النووي، وحينها بدأ السعوديون حوارًا مباشرًا مع غرمائهم التقليديين لمعالجة مخاوفهم بأنفسهم بعد أن ثبت لديهم عدم إمكانية مشاركتهم في مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا.

فالرياض كررت مرارًا أن الاتفاق النووي منقوص ولا يحميها بشكل كاف ولا يعالج مخاوف دول الجوار، كما أن عودة طهران إلى الاتفاق النووي سيحل من عليها قيودًا كثيرة كالعقوبات الاقتصادية الأمريكية مما سيجعل خطرها حينئذ أكثر استفحالًا في المنطقة كما كان الحال عليه غداة توقيع الاتفاق عام 2015، لذلك فضلت الرياض التفاوض بشكل مباشر ومستقل مع إيران.

وأجرى الطرفان خمس جولات حوار في العراق، فضلًا عن جولات أخرى استضافتها سلطنة عُمان بهدف تهدئة التوتر بينهما، وفي منتصف شهر مارس/آذار الماضي زار الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، بكين التي تولت ملف الوساطة بين الطرفين، وكرر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، التأكيد على رغبة دولته في عودة العلاقات الدبلوماسية مع الرياض.

ومؤخرًا شهدت العاصمة بكين آخر جولة جمعت وفدي البلدين، واستمرت المفاوضات المكثفة لعدة أيام حتى تم التوصل إلى اتفاق لاستئناف العلاقات، وأعرب البلدان عن امتنانهما للصين وجمهورية العراق وسلطنة عمان لاستضافة المحادثات بين الجانبين في السنتين الماضيتين.

وبالنسبة لتوقيت الاتفاق، فكما أن المباحثات السعودية بدأت مع بداية مباحثات واشنطن وطهران، فقد وصلت إلى نتيجة ملموسة في الوقت الذي بدأت المباحثات بين واشنطن وطهران تتمخض عن نتائج ملموسة أيضًا، فهناك شواهد كثيرة لذلك مثل رفع العقوبات الأمريكية عن التلفزيون الإيراني وضغط واشنطن على الدول الأوروبية لعدم تصعيد الموقف مع طهران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وضغط الأمريكيين على لندن لمنعها من تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، وإعلان وزير الخارجية الإيراني رسميًا تلقيه رسالة أمريكية بواسطة وزير الخارجية العراقي، رغم نفي البيت الأبيض مناقشة قضية إحياء الاتفاق النووي مع طهران.

ويأتي الاتفاق في وقت يواجه فيه النظام الإيراني أزمات كبيرة في الداخل والخارج، فالاحتجاجات الشعبية متواصلة والاقتصاد متدهور، فضلًا عن انهيار العملة إلى مستويات قياسية مؤخرًا، كما يواجه أزمات خارجية مع الغرب على خلفية التهديد النووي والصاروخي ودعمه لروسيا بالأسلحة في غزو أوكرانيا، والاتهامات بدعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، وتوقيع عقوبات كثيرة عليه خلال الأشهر الماضية.

لذا جاء الاتفاق في لحظة تحتاجه إيران فيها بشدة؛ فالعملة الإيرانية (التومان) تحسن وضعها فبعد أن وصل الدولار إلى 60 ألف تومان في السوق السوداء، تم تداول الدولار بـ44 ألف تومان في اليوم التالي لتوقيع الاتفاقية مع الرياض.

وتشكل قضايا الأمن القومي محور التفاهمات بين الطرفين؛ فالرياض قلقة من البرنامجين النووى والصاروخي لإيران التي تتدخل عسكريًا أيضًا في الدول العربية عبر ميليشيات مسلحة تأتمر بأمرها وتسيطر على أربع عواصم عربية على حد قول حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وتلقت السعودية تهديدات كثيرة من ميليشيات إيران في تلك الدول.

وشنت ميليشيات الحوثي التابعة لطهران في اليمن هجمات كثيرة جدًا بالصواريخ والطائرات المسيرة على المملكة العربية السعودية، وتقود الأخيرة منذ عام 2015 تحالفًا عسكريًا لدعم الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا في مواجهة الحوثيين.

مكاسب الصين

تعد الصين ضامنًا للاتفاق، وهذه الضمانة الصينية ستكون النقطة الجوهرية في جدية إيران بتنفيذ التزاماتها، فمما عطل التوصل لتفاهمات بين الطرفين عدم الوثوق بتعهدات طهران التي يصعب تصور تخليها عن سلوكها المهدد للاستقرار بين عشية وضحاها، فلم تنجح تجربة التقارب والتعاون السابقة إبان عهد الرئيس الإيرانى الإصلاحي محمد خاتمي في إرساء أي مصداقية لمثل هذه التفاهمات.

وسبق أن قال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان: «لا يُلدغ المرء من جحر مرتين.. لُدغنا من إيران مرة، المرة الثانية لن نُلدغ. ونعرف أننا هدف رئيسي للنظام الإيراني ..الوصول لقبلة المسلمين هدف رئيسي لإيران»، مبينًا أن عهد وثوق بلاده في طهران قد مضى، لكن اليوم تقدم بكين نفسها كقوة عظمى مسئولة، وهي ليست وسيطًا فقط بل «ضامنًا» لتنفيذ مخرجات هذا الاتفاق مما يشكل مخرجًا لأزمة الثقة بين الطرفين.

يأتي هذا في ظل تراجع موثوقية الولايات المتحدة لدى حلفائها وبخاصة المملكة العربية السعودية التي رأت كيف تجاهلت واشنطن في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما مصالح دول المنطقة عند إبرام الاتفاق النووي عام 2015 وأطلقت أيدي إيران وميليشياتها في المنطقة مقابل التزامها بتقييد برنامجها النووي فقط، وأيضًا لم يفرض الاتفاق أي قيود على برنامجها الصاروخي.

واليوم في ظل وجود الإدارة الديمقراطية بقيادة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، التي تضم ذات الوجوه التي أشرفت على عملية التقارب مع إيران وإبرام اتفاق عام 2015، تبدو ثقة السعوديين بواشنطن في أدنى درجاتها.

وبصفة عامة فإن الالتزام الأمريكي تجاه الحلفاء تعرض لاختبارين هزا مصداقيته، وذلك عندما انسحبت واشنطن من أفغانستان وتركت حكومتها في مواجهة حركة طالبان، وكذلك عندما تركت أوكرانيا تواجه الغزو الروسي واكتفت بتقديم المساعدات وحشد الدعم والتأييد.

وهدفت الصين من وراء هذا الاتفاق لتحجيم التدخلات الأمريكية في المنطقة؛ إذ تمثل هذه الخطوة ضربة للجهود الإسرائيلية والأمريكية التي سعت لتكتيل دول المنطقة ضمن معسكر موالي للغرب وتل أبيب تحت شعار التصدي للخطر الإيراني لا سيما بعد «اتفاقات أبراهام»، وهو ما سعت الصين للتصدي له في ظل أجواء اشتداد الاستقطاب الدولي بسبب الأزمة الأوكرانية.

وتعكس هذه الخطوة أيضًا – من وجهة نظر إسرائيلية – عدم ثقة الرياض في رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لعزل إيران فضلا عن شن عمل عسكري ضدها، واللافت أن الإعلان عن الاتفاق جاء في اليوم الذي قال فيه نتنياهو إن هدفه التطبيع والسلام مع السعودية، وربط سكك حديد المملكة عبر الأردن، بميناء حيفا، لكنه فوجئ بتطبيعها مع طهران.

وتهدف بكين فى المقام الأول لرعاية مصالحها الاقتصادية فى منطقة الشرق الأوسط وتأمين ممرات مبادرة الحزام والطريق الصينية مثل مضيقي هرمز وباب المندب، وكذلك فإن هناك فرصًا اقتصادية كبيرة أمام الصين في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ومن مصلحة الصينيين تهدئة التوترات لربط هذه الدول بمشروع الحزام والطريق.

والصين كذلك لها مصالح اقتصادية كبيرة ومباشرة مع الجانبين، فالسعودية تأتي في المرتبة الأولى كأكبر مورد للنفط إليها، وكذلك لديها مصالح اقتصادية كبيرة مع إيران ووقعت معها اتفاقًا لمدة ربع قرن برأسمال قيمته 400 مليار دولار، وخلال الآونة الأخيرة حدث تقارب كبير بين بكين وكل من الدولتين.

إلا أن الصينيين واجهوا أزمة تتمثل في أن أي تقارب مع السعودية أو إيران يُقابل بانزعاج وقلق من الطرف الآخر، فمثلًا في ديسمبر/ كانون الأول الماضي أثار بيان القمة السعودية الصينية استياء الإيرانيين بسبب تأكيده دعم مساعي الإمارات للتوصل إلى حلّ سلمي لقضية الجزر الثلاث التي تسيطر عليها إيران، فأعلنت الأخيرة استدعاء سفير الصين لديها احتجاجًا على البيان، فأرسل الصينيون مبعوثًا لطمأنة طهران.

وهكذا أرادت بكين تهيئة الأجواء لنفوذها عبر هذا الاتفاق بعيدًا عن التعقيدات والتجاذبات السياسية، كما أن نجاح هذه الاتفاقية قد يفتح الباب لتدخل الصينيين في قضايا عربية أخرى في ظل تراجع الثقة بالولايات المتحدة في المنطقة.

آفاق ما بعد الاتفاق

الاتفاق بالطبع ليس شهادة وفاة للمشروع الإيراني في المنطقة، وليس واردًا أن تسحب إيران أذرعها المسلحة من الدول العربية، ولم يلزمها الاتفاق بذلك، ومن الخطأ المبالغة في التفاؤل حيال ما ينجم عن هذا التفاهم بين القوتين الإقليميتين المتنافستين، لكنه بلا شك خطوة نحو تهدئة المنافسة وتبريد مناطق الصراع، وعامل ضغط لدفع إيران إلى الداخل وتقييد نوازعها التوسعية.

ولا يُتوقع حل المشاكل الخلافية جذريًا بمجرد فتح السفارات والممثليات الدبلوماسية، فاحتلال ميليشيات الحوثي لصنعاء وانطلاق حملة عاصفة الحزم بقيادة الرياض ضدها وقع في ظل وجود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وطهران، لكن يُتوقع أن يكون الملف اليمني الاختبار الحقيقي الأول لهذا الاتفاق والمؤشر على نجاحه.

وقد أكد البيان المشترك احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ولم يقصر الحديث على سيادة إيران والسعودية فقط، فالاتفاق غير محدود بحدود الدولتين بل يتعدى ليشمل ترتيبات إقليمية على رأسها أمن الخليج والجزيرة العربية، وقد أعلنت ميليشيات الحوثي أن «الاتفاق الإيراني السعودي سيكون له انعكاس على الملف اليمني» رغم نفي تبعيتها لطهران. وكذلك تحدثت جمعية الوفاق البحرينية المعارضة المقربة من النظام الإيراني، عن دور إيجابي وفعال لإيران والسعودية في المساهمة في حلّ الأزمة السياسية في المنامة، وهي جمعية شيعية محظورة في البحرين.

وبينما كان ممثلو طهران والرياض في بكين يوقعون الاتفاق، كان ممثلو ميليشيا الحوثي والحكومة اليمنية، في ذات الوقت في مدينة جنيف السويسرية يجرون مشاورات بينهما رغم تواصل المواجهات الميدانية في اليمن.

فالاتفاق قد يكون فاتحة مسار للتفاهم بين الرياض وطهران على حل قضايا تتصل بأمن عدد من الدول العربية بخاصة اليمن، والفترة المقبلة بصفة عامة -وليس الشهرين فقط- ستكون مرحلة اختبار لصدق النوايا ومعرفة ما إذا كانت الضمانة الصينية يمكن الاعتماد عليها في حل قضايا المنطقة العربية.