في زمن غابر، قبل أن تعتبرها واشنطن قائدة لـ «محور الشر» في الشرق الأوسط، وقبل أن تعتبر هي الولايات المتحدة «الشيطان الأكبر»، وقّعت إيران والولايات المتحدة الأمريكية اتفاقية صداقة مشتركة، حتى يكون هناك «سلام متين ومستمر وصداقة صادقة» بينهما.

أبرم الاتفاقية المذكورة آخر ملوك إيران الشاه محمد رضا بهلوي، في أغسطس/ آب عام 1955، مع الرئيس الأمريكي حينذاك دوايت إيزنهاور، ودخلت حيز التطبيق في يونيو/ حزيران 1957. وكانت جزءًا من عملية ترتيب الأوضاع العالمية في إطار الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، والذي انحازت فيه طهران لمعسكر الرأسماليين، وكانت شرطي الولايات المتحدة على المنطقة.

ورغم أن خلافًا مريرًا نشأ بين إيران والولايات المتحدة عقب قيام الثورة الإسلامية عام 1979 والإطاحة بالشاه بهلوي، وما يزال مستمرًا ويتفاقم حتى الآن، إلا أن هذه الاتفاقية صمدت بشكل غريب ولم يلغها أي من طرفيها، وإن توقفا عن تطبيق نصوصها بكل تأكيد.

لكن مؤخرًا، عقب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات قاسية عليها،استدعت طهران اتفاقية الصداقة من غياهب الأدارج السياسية، ليس لإلغائها كما قد يتبادر إلى ذهن البعض للوهلة الأولى، لكن لمقاضاة واشنطن أمام محكمة العدل الدولية، لعدم التزامها ببنود الاتفاق.


كيف نصبت إيران الفخ للولايات المتحدة؟

تضمنت معاهدة الصداقة بين إيران والولايات المتحدة 23 مادة تهدف إلى «تعزيز علاقات الصداقة التاريخية بين الشعبين في كلا البلدين وتوطيدها بشكل ثابت، وتشجيع التجارة وتأسيس استثمارات وعلاقات اقتصادية تقرب بين الشعبين والحكومتين بما يخدم مصلحة البلدين». ونصت المعاهدة كذلك على أن محكمة العدل الدولية هي الجهة المنوط بها حل أي خلاف بين طرفيها، بشأن تفسيرها أو تنفيذها، ما لم يحل الطرفان الخلاف بواسطة وسائل سلمية أخرى.

بناء على هذه النصوص،رفعت إيران، في يوليو/ تموز الماضي، دعوى ضد الولايات المتحدة، أمام العدل الدولية، تقول فيها إن القرار الذي اتخذته واشنطن في مايو/ آيار 2018، بفرض عقوبات اقتصادية عليها، يمثل خرقًا وانتهاكًا صارخًا لمعاهدة الصداقة، وطلبت من المحكمة أن تأمر واشنطن برفع العقوبات بشكل مؤقت حتى يتم الفصل في القضية بشكل نهائي.

اقرأ أيضًا: هل تجاوزت إيران أزمتها بتوقف الاحتجاجات؟

لدى طهران العديد من السوابق مع محكمة العدل الدولية، وتعلم بالطبع أن البت في القضية قد يستغرق سنوات، وأنه برغم أن حكم المحكمة ملزم لطرفي القضية، إلا أن المحكمة لا تمتلك سلطة لتطبيقه، وأن صدور حكم من العدل الدولية لصالحها قد يأخذ الملف إلى مجلس الأمن حيث للولايات المتحدة حق الفيتو، ما يعني موت أي إمكانية لتنفيذ الحكم، لكنها لا تريد من رفع الدعوى سوى إضافة ورقة قوة إلى الورقة المتمثلة بالخروج الأمريكي من طرف واحد من الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي أظهر الولايات المتحدة كطرف خارق للاتفاقيات الدولية.

رفضت الولايات المتحدة الدعوى الإيرانية، وقالت إن محكمة العدل الدولية غير مخولة للنظر في هذه القضية، ولما مضت العدل الدولية في نظر الدعوى،اضطرت واشنطن إلى المثول أمام المحكمة للدفاع عن نفسها، وحاججت بأن الاتفاقية وإن لم تُلغ رسميًا فإنها أصبحت غير سارية في أعقاب الثورة الإيرانية في 1979، التي كانت بداية لعقود من العداء بين البلدين، كما أن المعاهدة لا تنطبق على التدابير الضرورية لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، و اعتبرت أن طهران، تحاول من خلال شكواها، التدخل في الحقوق السيادية لأمريكا.


إيران تنتصر مبدئيًا

تعلم إيران أن البت في القضية بشكل نهائي قد يستغرق سنوات، لكنها تريد نصرًا مبدئيًا سريعًا، لذا طلبت من المحكمة أن تأمر الولايات المتحدة برفع العقوبات بشكل مؤقت حتى يتم الفصل في القضية. ولما كانت المحكمة لا تقبل إصدار أحكام بتدابير مؤقتة إلا إذا كان هناك خطر داهم لا يمكن رده إذا لم تتخذ هذه التدابير، ادعت إيران أن العقوبات الأمريكية لها «عواقب خطيرة» على الاقتصاد الإيراني وأن «ملايين الأشخاص يعانون بشدة» منذ عودة العقوبات.

اقتنعت محكمة العدل الدولية بوجهة النظر الإيرانية، لكنها لم تقتنع بأن الوضع يتطلب اتخاذ تدابير مؤقتة برفع كافة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، لذا اكتفت، في 3 أكتوبر/ تشرين الأول، بأمر الولايات المتحدة برفع العقوبات التي تستهدف السلع «ذات الغايات الإنسانية» المفروضة على إيران.

اقرأ أيضًا: هل أنتجت إيران مقاتلة جوية محلية الصنع حقًا؟

وقال رئيس المحكمة القاضي عبد القوي أحمد يوسف إن «المحكمة تعلن بالإجماع أنه على الولايات المتحدة وعبر وسائل من اختيارها، إلغاء كل عراقيل تفرضها الإجراءات التي أعلنت في 8 مايو/ آيار 2018 على حرية تصدير أدوية ومواد طبية ومواد غذائية ومنتجات زراعية إلى إيران». واعتبرت المحكمة أن العقوبات على سلع «مطلوبة لاحتياجات إنسانية قد تترك أثرًا مدمرًا خطيرًا على صحة وأرواح أفراد على أراضي إيران»، كما رأت أيضًا، أن العقوبات على قطع غيار الطائرات يمكن أن «تعرّض سلامة الطيران المدني للخطر في إيران وكذلك أرواح مستخدميها».

لم يكن الحكم المؤقت بالقوة التي ترغب فيها طهران، لكنه كان انتصارًا مبدئيًا لها على أي حال، فرحبت وزارة الخارجية الإيرانية به وقالت إنه «إشارة واضحة» أن طهران «محقة»، كما أنه «يظهر مجددًا أن الحكومة الأميركية تصبح معزولة يومًا بعد يوم». وكتب وزير الخارجية محمد جواد ظريف على تويتر: «فشل آخر بالنسبة لمدمني العقوبات وانتصار لحكم القانون»، ووصف الولايات المتحدة بأنها «نظام مارق عن القانون».

على الجانب الآخر، أغضب الحكم واشنطن كثيرًا وإن حاولت إبداء غير ذلك، إذ أعلنت إدارة ترامب، الانسحاب من معاهدة الصداقة مع إيران قائلة إنها خطوة كان يجب اتخاذها منذ عقود. وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، إن الاجراءات التي أمرت بها المحكمة قائمة بالفعل، وأكد أن بلاده ستمضي في فرض العقوبات على إيران مع استثناء القطاعات الإنسانية.

أما الغضب الحقيقي فقد ظهر على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون، الذي قال إن بلاده ستنسحب أيضًا من تعديل «اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية» التي يمكن أن تستخدمها إيران أو غيرها، ولا سيما الفلسطينيين، لمقاضاة الولايات المتحدة في محكمة العدل الدولية، مؤكدًا أن بلاده «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ادعاءات مسيسة لا أساس لها». كما سيتم أيضًا مراجعة جميع الاتفاقات التي قد تعرّض الولايات المتحدة للمقاضاة من قبل المحاكم أو الهيئات الدولية، بحسب بولتون.

ورغم انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، إلا أنها ستظل سارية لمدة عام آخر، وستظل القضية منظورة أمام محكمة العالم، فبحسب نصوص المعاهدة يمكن لأي من الطرفين المتعاهدين الانسحاب منها شريطة إبلاغ الطرف الآخر بذلك قبلها بسنة.

اقرأ أيضًا: من السهل أن نحاصر إيران، لكن من سيدفع ضريبة الحرب؟


تاريخ المواجهات في ساحة العدل الدولية

ليست هذه المرة الأولى التي تتواجه فيها إيران والولايات المتحدة في ساحة محكمة العدل الدولية، بل وليست المرة الأولى التي تستخدم فيها طهران معاهدة 1955 لمقاضاة واشنطن، إذ سبق واستخدمت هذه المعاهدة عام 1992، في رفع دعوى ضد واشنطن بسبب قيام سفنها الحربية بتدمير عدد من منصات النفط الإيرانية في الخليج العربي و 3 مجمعات لإنتاج النفط البحري.

وطلبت الولايات المتحدة من المحكمة، في ذلك الحين، أن تقرر وتعلن، أن مهاجمة إيران للسفن في الخليج الفارسي وغير ذلك من الأعمال العسكرية التي وقعت في عامي 1987 و 1988، كانت خطيرة ومضرة للتجارة والملاحة بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما يمثل خرقًا لالتزامات الأخيرة بموجب معاهدة عام 1955.

استمرت القضية تتداول في أروقة محكمة العدل الدولية حتى العام 2003، عندما حكمت المحكمة بأن الولايات المتحدة لم تنتهك التزاماتها تجاه إيران بموجب معاهدة الصداقة، ورفضت مطالبة طهران بالتعويض. كما لم تقبل المحكمة الادعاء الأمريكي بأن تصرفات إيران جعلت من الخليج الفارسي غير آمن للشحن، ورفضت مطالبة الولايات المتحدة بالتعويض.

واستخدمت طهران هذه المعاهدة أيضًا عام 2016 في رفع دعوى ضد واشنطن بسبب قيامها بمصادرة 2 مليار دولار من ودائعها لتعويض ضحايا اعتداءات منسوبة لطهران، لكن هذه القضية لم تأخذ صيتًا كبيرًا ولم يبت فيها إلى الآن.

المثير للعجب أنه رغم هذه السوابق، إلا أن أيًا من الدولتين لم تنسحب من المعاهدة وظلت قائمة، وكأنهما أرادا الإبقاء عليها كقناة دبلوماسية خلفية لحل نزاعاتهما بشكل سلمي ولمقابلة المسؤولين بعضهم البعض.

اقرأ أيضًا: ماذا لو: ضربت إسرائيل منشآت إيران النووية؟

أما المواجهة الأولى بين الدولتين، في ساحة محكمة العالم، كانت في العام 1979، بدعوى رفعتها الولايات المتحدة ضد إيران بعد اقتحام السفارة الأمريكية في طهران من قبل ثوريين واحتجاز عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين كرهائن، وأصدرت المحكمة العديد من التدابير المؤقتة، لكنها لم تصدر حكمًا نهائيًا بسبب قيام واشنطن بالتنازل عن الدعوى بعد اتفاق الجزائر في يناير/ كانون الثاني من عام 1981.

وكان هناك دعوى أخرى رفعتها إيران عام 1988، بعد إسقاط القوات المسلحة الأمريكية طائرة مدنية إيرانية، ما أدى إلى مقتل 290 من ركابها. واستمرت القضية تتداول حتى العام 1996، عندما جرى إسقاط الدعوى بعدما دفعت الولايات المتحدة تعويضات لأسر الضحايا.