على عكس كل الموجات الاحتجاجية السابقة التي شهدها عصر الجمهورية الإيرانية لم تستمر أي من هذه الموجات لمدة طويلة كما هو الحال اليوم الذي امتدت فيه الاحتجاجات من أقصى شرق البلاد إلى أقصى غربها، إذ كانت التظاهرات الشعبية تثور في منطقة محدودة أو لفترة محدودة، لكن الاحتجاجات الحالية أثبتت تفوقها وفرادتها عما سبقها بشكل لافت حتى حار النظام الديني في التعامل معها بعدما صارت عصية على الإخماد.

تطور الحركة الاحتجاجية

تعد موجة الاحتجاجات الشعبية الحالية الحلقة الأحدث في سلسلة التظاهرات والاحتجاجات التي بدأت في ديسمبر (كانون الأول) عام 2017، وانطلقت التظاهرات حينها في فترة كان النظام في أوج قوته ومشروعه الإقليمي التوسعي يكتسب مساحات جديدة في ظل العمل بالاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية لكن الداخل الإيراني ثار حينها لأنه لم يستفد من البحبوحة الاقتصادية التي طالما بشره بها نظامه عقب رفع العقوبات، ورأى أن التنمية لا تمثل أولوية للولي الفقيه بل تأتي تالية في الأهمية بعد المشروع الإقليمي، وهذا كان واضحاً جداً في شعارات التظاهرات مثل «لا غزة ولا لبنان حياتي لإيران» و«اتركوا سوريا واهتموا بحالنا».

وظلت الموجات الغاضبة تنطلق من حين لآخر لأسباب معيشية واقتصادية ثم تتحول لترفع شعارات سياسية، أي أنها ركزت على انتقاد سلوك النظام، لكن الجماهير يأست من تعديل سلوكه خصوصاً بعد تهميش التيار الإصلاحي وإيلاء كل السلطات إلى التيار الأكثر تشدداً كما وقع في انتخابات مجلس الشورى عام 2020، أما اليوم فإن التظاهرات منذ البداية تطالب برحيل النظام وحتى اليوم يكرر المتظاهرون أنهم لن يتوقفوا هذه المرة إلا بعد تغيير النظام الديني ولن يقبلوا بالتراجع.

كما أن موجة الغضب التي عُرفت بـ«ثورة البنزين» في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 جرأت المواطنين على النظام وأظهرت ضعفه وإمكانية إزاحته، فمع أنها انطلقت لأسباب اقتصادية عندما رفعت الحكومة سعر البنزين، لكنها عمت أنحاء البلاد، وفقد الحرس الثوري السيطرة على مناطق عديدة، وشهدت اشتباكات وصدامات عسكرية في بعض المناطق وتعرضت لقمع دموي، وقُدر عدد القتلى بألف وخمسمائة، ومثلت هذه الأحداث تجربة واقعية أعطت الجرأة لتكرارها بشكل أكبر.

تطور وسائل الاحتجاج

خلال موجة الغضب الحالية شهد الشارع الإيراني تطور وسائل الاحتجاج عن ذي قبل؛ فقد تمرس الشباب على الالتفاف على حجب التطبيقات الإلكترونية وقيود استخدام الإنترنت بدليل استمرار تسرب فيديوهات المظاهرات والقمع الوحشي الذي يمارسه النظام، مما يشير إلى ظهور ثغرات في الرقابة الحكومية أسهمت في تفشي الاحتجاجات في كافة أنحاء البلاد.

وفي الفيديوهات المسربة استطاع الشباب الجمع بين تحقيق الزخم والشحن المعنوي وفي نفس الوقت تجنب إهداء الحرس الثوري معلومات مجانية عن المعارضين، فانتشرت فيديوهات يظهر فيها الناس وهم يديرون ظهورهم للكاميرات وكذلك فيديوهات جودتها ضعيفة بشكل متعمد لا تظهر فيها ملامح وجوه المتظاهرين.

وعلى صعيد الفعاليات الثورية، طور المتظاهرون طرقاً للتخفي نظراً لشدة بطش قوات الباسيج والشرطة النظامية، ففي التظاهرات يغطون وجوههم منعاً لتعرف جواسيس النظام عليهم ورصدهم بالكاميرات، وفي المقابل صارت القوات الحكومية تمنع الطلبة من ارتداء الكمامات داخل الجامعات لتسهيل رصد تحركاتهم.

ولتصعيب عملية تتبعهم عادة ما يجعل المعارضون هواتفهم على وضعية «الطيران»، وأحياناً ينزعون كاميرات المراقبة من الشوارع، وعندما لجأ عناصر النظام إلى رش الطلاء على المتظاهرين لتمييزهم، بدأ الطلاب يحملون معهم ملابس احتياطية لارتدائها للفرار من الملاحقة، كما شاعت ظاهرة التجمعات الاحتجاجية المحدودة المفاجئة في أماكن جانبية غير متوقعة وتصوير الفعاليات ونشرها لتشجيع الآخرين.

 وكذلك أقدم البعض على وسائل أقل مخاطرة مثل ترديد الهتافات المناهضة للنظام من داخل المباني في وقت واحد، أو كتابة شعارات في جنح الظلام، ومع شيوع الحالة الثورية في المجتمع نشط عمل القراصنة الإلكترونيين (الهاكرز) في استهداف النظام واخترقوا بث تلفزيون الدولة.

كما أن السرد الثوري بات له مصداقية وسط الجمهور الشيعي الذي يرى جنود النظام يقتلون ويسحلون من خرج يطالب بالعدالة، ومن هنا أصبح نظام الولي الفقيه المدجج بالسلاح يقف ميدانياً في موقع «يزيد» قاتل الإمام الحسين، رضي الله عنه، بينما يقف المتظاهرون في موقع المظلومية.

ثورة النظام المبتذلة

 وأصبحت كلمة «الثورة» مبتذلة في أعين الشعب حين يستخدمها النظام ليصف نفسه بها ليجتر أحداثاً من ذاكرة التاريخ تعاكس الواقع الحالي؛ أي أن ذكر أحداث الثورة التي شارك رجال الدين فيها ضد الشاه نهاية السبعينات بات يُلهم معارضي النظام وليس العكس، ولذلك عمدوا إلى تكرار وسائل احتجاج قديمة تم استخدامها نهاية السبعينات للإيحاء بأن تحركهم الحالي ثورة شعبية ضد الطغاة المتحكمين وليس العكس، مما يطعن شرعية النظام الديني وسردياته في مقتل.

ولما رأت حكومات الدول الأوروبية استمرار انتفاضة الجماهير الإيرانية بدأت في دعمها بفرض عقوبات رمزية على قادة في النظام متهمين بالمشاركة في قمع التظاهرات، وكلما استمرت التظاهرات ازدادت تلك العقوبات، ووصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ما يحدث في إيران بأنه «ثورة»، الأمر الذي أعطى دفعة معنوية للداخل الإيراني وأعطى بصيص أمل للمتظاهرين بتوفر دعم دولي لهم.

كما أعلن عديد من الرياضيين الإيرانيين تضامنهم مع الحراك الاحتجاجي رغم ما يمثله ذلك من مخاطرة أبرزهم إحسان حاج صفي، قائد منتخب إيران في مؤتمر صحفي، الأحد، عشية مواجهة منتخب إيران مع إنجلترا في كأس العالم بقطر، أعرب عن دعمه أسر ضحايا التظاهرات قائلاً «قبل أي شيء أود أن أقدم التعازي لجميع العائلات الثكلى في إيران.. ينبغي أن يعرفوا أننا معهم، نحن نساندهم ونتعاطف معهم».

كما عبر عدد من لاعبي المنتخب على وسائل التواصل الاجتماعي عن دعمهم الاحتجاجات المناهضة للنظام، وارتدوا أربطة سوداء خلال المباريات أو رفضوا غناء النشيد الوطني كما حدث في بداية مباراة ضد الإمارات في دبي، ورفضوا الاحتفال بعد فوزهم بالبطولة في 6 نوفمبر (تشرين الثاني)، مما أثار غضب مسؤول بالحكومة وطالب باستبعادهم من فرقهم، ليرد عليه نجم كرة القدم الإيراني، علي كريمي، ويطالب لاعبي المنتخب بـ«اختيار الجانب الصحيح من التاريخ».

جيل الألفية

هناك بُعد جيلي أيضاً مهم لا تخطئه العين؛ فالشباب الإيراني يعاني من حالة من الاغتراب في بلاده فهذا الجيل لم يعش لا تجربة الثورة على الشاه الراحل ولا الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات، ولا يؤمن بأيديولوجية النظام، ويرى حضور السلطة في حياته ممثلاً في دوريات أمنية مسلحة تتعامل بمنتهى القسوة مع المواطنين، ومناسبات دينية وسياسية مكررة وشعارات فقدت زخمها لدى عامة الناس لأنها تنتمي إلى حقبة زمنية مغايرة كانت تحمل فيها وهجاً انطفأ ولم يبق إلا ظله.

وقد تعززت هذه الروح تدريجياً كلما بعُد العهد عن فترة قيام الثورة حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه حالياً؛ وهو ظهور جيل حديث السن يعارض فكر النظام الحاكم، لديه رؤية مغايرة تبلورت عبر موجات التظاهرات الشعبية التي بدأت منذ نهاية العام 2017، واستمرت متقطعة خلال الأعوام التالية.

وفي سبتمبر/ أيلول الماضي أجرى الجنرال عزيز الله ملكي، قائد الشرطة في محافظة جيلان، مقابلة مع موقع محلي، قال فيها إن معظم المحتجين هم من مواليد العقد الأول في الألفية، ولولا الإمدادات من المناطق الأخرى لسقطت المحافظة في أيدي هؤلاء الشباب، لكن سرعان ما تم حذف المقابلة من الموقع لخطورة محتواها.

ومعنى ذلك أن إيران اليوم بصدد ظاهرة شبابية في أغلبها، خارجة عن معسكر المعارضة التقليدي الممثل في الإصلاحيين؛ فبعد تجربة رئاسة حسن روحاني (2013: 2021) أخرجت ما يسمى بالتيار الإصلاحي من الحسابات لسببين: الأول أن روحاني الإصلاحي لم يقدم عملياً سياسة مختلفة عن المحافظين، بل ظلت الغلبة لهم في عهده، مما أثبت بشكل جلي أن سلوك الإصلاحيين في الحكم لا يختلف كثيراً لأنهم جزء أصيل من نظام ولاية الفقيه، ولذلك هتف المحتجون ضد روحاني وبلغ بهم الغضب منتهاه خلال احتجاجات عام 2019، وساووا بينه والمتشددين.

والأمر الثاني الذي أخرج الإصلاحيين من حسابات المحتجين أنهم بالفعل تم تهميشهم فلم يعودوا يشكلون قوة ذات وزن يمكن التعويل عليها في السلطة، فتم استبعادهم من أروقة السلطة لصالح التيار الأكثر تشدداً وولاءً للمرشد.

ورغم أن الزعيم الإصلاحي، مير حسين موسوي، قائد الحركة الخضراء المُعارضة، والخاضع للإقامة الجبرية، دعم التظاهرات وطالب القوات المسلحة بالانحياز للشعب، فإنه لا يمتلك اليوم نفس التأثير كما كان عام 2009، حين نزل الشعب إلى الشوارع نصرةً له، ولا يمكن اعتباره قائداً للحركة الحالية التي فاق مداها حركتَه الخضراء.

وخلاصة القول إن الانتفاضة الإيرانية اليوم تمثل انقلاباً على إرث نظام ولاية الفقيه برمته، وتضم في صفوفها طوائف شتى منهم الشباب غير المؤدلج الرافض للقمع، ومنهم الفرس العلمانيون الرافضون للحكم الديني، ومنهم أهل السنة المتدينون المضطهدون، ومنهم القوميون العرب والأكراد المطالبون بالاستقلال، ولا يمكن اعتبار أي من هؤلاء ممثلاً للحركة الاحتجاجية، فالشيء المشترك بينهم هو رفض استمرار نظام ولاية الفقيه بشكله الحالي.

وتعد عفوية التظاهرات وعدم وجود جهة معينة تقف وراءها سلاحاً ذا حدين؛ فهي نقطة ضعف من جهة أنها تجعل الجموع غير المنظمة في مواجهة نظام متماسك يتحرك بخطط ويراهن على فتور عزم وحماسة المتظاهرين، وهي نقطة قوة من جهة أن الانتفاضة ليس لها قائد فيُقتل أو يُعتقل أو يتفاوض معه النظام، وبالتالي لا يملك أحد مفاتيح التحكم بها ووقفها، كما أنها باتت تعبر عن حالة عامة ومستمرة من الغضب والرفض الشعبي لحكم الملالي ما إن يخبو لهيبها حتى ينبعث مستعراً من جديد.