نفذت قوات الحرس الثوري الإيراني، الإثنين 15 نوفمبر، عدواناً على إقليم كردستان الذي يتمتع بالحكم الذاتي شمال العراق، مما أدى إلى مقتل شخصين وإصابة 8 آخرين، كما استهدف قصف مكثف مصايف بربزين وسفح جبل سقر، وأعلنت بعثة الأمم المتحدة بالعراق ودول عربية وغربية إدانة الهجمات.

وقالت وكالة أنباء فارس الإيرانية، إن طهران «شنت ضربات بالطائرات المسيّرة والصواريخ مستهدفة مراكز للأحزاب الإرهابية في منطقة شمال العراق»، في إشارة لمقار الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة في الإقليم.

وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، إن دولته لن تسكت على الأنشطة المتشددة من قبل جانب كردستان العراق، ولم يكتف الحرس الثوري الإيراني بتلك الضربات بل أكد أن هجماته على كردستان سوف «تستمر حتى نزع سلاح الجماعات الإرهابية» على حد تعبيره.

وهدد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أيضاً بأن هجمات الحرس الثوري المقبلة ستستهدف مناطق مدنية مزدحمة بالسكان مثل قرية توبوز آباد ومنطقة بكرجو في السليمانية، مهدداً أهالي هذه المناطق بالقصف إن لم يطردوا من وصفهم بـ«الإرهابيين» من بينهم، وحملت طهران الحكومة العراقية مسؤولية منع تهديد الأمن الإيراني، وأن الهجمات دفاع عن النفس لأن حكومتي بغداد كردستان لم يتخذوا إجراءات تمنع «الانفصاليين الأكراد» من تنفيذ عمليات ضد طهران.

وأعلن قائد مقر حمزة سيد الشهداء (الذي يعد أقوى تشكيلات قوات الحرس الثوري الإيراني في المناطق الكردية)، اعتقال «أكثر من مائة شخص خلال أعمال الشغب الأخيرة على صلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني المعارض وجماعة كومله» وهي أحزاب مقيمة في كردستان العراق.

وكان الحرس الثوري الإيراني شن هجمات مماثلة في سبتمبر/أيلول استهدفت بلدات وقرى بكردستان العراق أوقعت 16 قتيلاً على الأقل، وأصابت العشرات، وتسببت في تشريد مئات العائلات، على خلفية اتهام النظام الإيراني للجماعات الكردية في الإقليم بدعم الاحتجاجات الشعبية المشتعلة في الداخل الإيراني.

وأعلن الحرس الثوري مسؤوليته عن الهجمات على مكاتب حزبين معارضين إيرانيَّين هما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب الحياة الحرة الكردستاني، في محافظة السليمانية العراقية قرب الحدود الإيرانية، واصفاً أهدافه بأنها «قواعد إرهابية».

وكثيراً ما شنت طهران مثل تلك الهجمات تحت ذرائع مختلفة لكن خلال الفترة الأخيرة ازداد القصف بشكل كبير وتكرر على مواقع الأحزاب الانفصالية الكردية، وقُتل فيه أيضاً عدد من الأطفال والنساء واستهدفت المدارس ومخيمات اللاجئين الكرد الفارين من إيران.

تصدير الأزمة

يواصل النظام الإيراني اتباعه سياسة قنابل الدخان؛ أي افتعال مشاكل خارجية لتشتيت الانتباه عن أزمته الداخلية، فلا يعترف بوجود ثورة شعبية جارفة ترفض استمرار حكمه بل يوجه اتهامات للأحزاب الكردية المقيمة في العراق بأنها تقف وراء الاحتجاجات رغم أن المظاهرات عمت كل أرجاء إيران ولا يوجد قادة معروفون لها، وشارك فيها الأعراق المختلفة وليس الأكراد وحدهم، لكن كردستان العراق تظل هي الحلقة الرخوة التي يستطيع النظام الإيراني استعراض عضلاته وإبراز قوته فيها.

ومع ذلك فإن النظام يتهم الحركات البلوشية الانفصالية المسلحة بالوقوف وراء الاحتجاجات في إقليم سيستان-بلوشستان، ويوجه تهديدات إلى أذربيجان ويحشد جيشه على حدودها بسبب عجزه عن كبح نوازع التمرد في مناطق القومية الآذرية شمال غربي إيران، ويتهم داعش ومنظمة مجاهدي خلق بإثارة الفوضى، وهكذا يحاول تصدير أزماته إلى أطراف خارجية.

ولكن كانت مناطق الأكراد هي الأكثر انتفاضاً منذ مقتل جينا (مهسا) أميني في منتصف سبتمبر/ أيلول الماضي، تعاطفًا مع هذه الشابة الكردية التي أعاد مقتلها نكأ جراح الكرد العميقة، ومثلت المحافظات الكردية على وجه الخصوص تحدياً كبيراً أمام النظام نظراً للروح المتمردة التي تموج بها تلك المحافظات، والإحساس الكبير بالمظلومية نتيجة تكرار حملات القمع؛ فمنذ بداية تأسيس الجمهورية الدينية في إيران، فإن المرشد الأول روح الله الخميني، أعلن الجهاد ضد الأكراد، وتكررت انتفاضاتهم مرارًا طوال العقود الماضية ولم تسفر سوى عن زيادة القمع.

وخلال السنوات الأخيرة تكررت هذه الانتفاضات؛ ففي 2015 انتفضت المدن الكردية وسقط عشرات القتلى في احتجاجات بدأت عقب انتحار الفتاة الكردية، فريناز خسرواني، بإلقاء نفسها من الطابق الرابع في مدينة مهاباد بمحافظة أذربيجان الغربية، هرباً من محاولة اغتصاب من جانب موظف حكومي قيل إنه من جهاز الاستخبارات.

وفي 2017 انتحرت مهديس مير قوامي وهي مهندسة معمارية كردية لم تتعد عقدها الثالث، بعد خروجها من مبنى الاستخبارات في مدينة كرمانشاه بعد احتجاز لمدة يومين، قيل إنه بسبب تعرضها للاغتصاب أيضاً، وكذلك انتحار الفتاة الكردية ، حنانه شلير فرهادي، لنفس السبب بعد الإفراج عنها عقب اعتقالها لأربعة أشهر.

وبدأت الاحتجاجات الحالية في إيران منذ شهرين على خلفية مقتل مهسا أميني بعد تعذيبها لعدم ارتداء الحجاب بشكل صحيح، وهي فتاة كردية اسمها الأصلي «جينا» لكن السلطات الإيرانية فرضت عليها الاسم الآخر قسراً بدلاً من اسمها الكردي الذي يعني «الحياة».

من جهته فإن رئيس حزب سربستي كردستان، عارف باوه جاني، الذي يقيم في أربيل عاصمة كردستان العراق، يقول إن القصف الإيراني على إقليم كردستان يتذرع بحجج مختلفة طوال العقود الماضية يعنى من 31 أو 32 سنة حتى الآن وهدفه الرئيسي بالدرجة الأولى مخاوفه من وجود سلطة كردية في «جنوب كردستان» (كردستان العراق)، وهذا القصف مستمر في بعض المناطق التي لا يوجد فيها أصلاً أحزاب معارضة، وبالدرجة الثانية هدفه تخفيف الضغط الإعلامي على طهران ولسحب عواطف المؤيدين للمتظاهرين بحجة الزعم بارتباط المتظاهرين بأحزاب المعارضة الكردية بعد أن فقد الأمن الإيراني السيطرة على المتظاهرين في المحافظات الكردية في إيران.

ويضيف في تصريحات خاصة لـ«إضاءات» أن فعاليات الثورة ليست موجودة فقط في «كردستان إيران» أو «شرق كردستان» بل في كل أنحاء إيران، فإذا ادعوا أن الأحزاب الكردية في كردستان إيران يدعمون أو يشجعون المتظاهرين، فالسؤال هنا: من الذي يدعم التظاهرات في المدن الأخرى في إيران كطهران وكرج ومشهد؟ هذه الحجة ليس لها أي حقيقة أو مبرر كما سمعنا من خطاب رئيس وزراء إقليم كردستان ورئيس إقليم كردستان ووزير خارجية العراق كلهم رفضوا هذا المبرر فقالوا الأحزاب الكردية ليس لديهم أي نوع من المشاركة في المظاهرات ولم يرسلوا أي قوات للداخل الإيراني ولا يوجد أي دليل على هذا.

ويشير باوه جاني إلى أن إيران تريد أن تسحب التركيز العالمي على المضطهدين إلى جهة أخرى، ودائماً تلعب هذه اللعبة عندما يحدث مشكلة داخلها تخلق مشكلة بالخارج حتى تشد أنظار العالم إلى هذه المشكلة الجديدة وينسوا المشكلة القديمة في الداخل الإيراني، وهم يحاولون محاولة أخيرة لإنقاذ أنفسهم كافتعال أحداث إرهابية ويهددون بأحكام الإعدام أو السجن لبعض المشاركين في المظاهرات. «عندنا ككرد مَثَل شعبي يقول إن الذئب المجروح يحاول ينقذ قدر ما يقدر وبالنهاية يموت، وهُم نفس الشيء» يقول باوه جاني.

ونفى باوه جاني اتهامات طهران بمشاركة قوات الأحزاب الكردية- الإيرانية في كردستان في احتجاجات الداخل الإيراني، قائلاً «لأننا لا نريد أن نعطي حجة لإيران أن تقتل مزيداً من أبنائنا، حيث تدعي إيران دائماً أن المعارضة موجودة وأن السعودية وإسرائيل وأمريكا موجودة، لكننا كلنا نرى في شاشات الكاميرا المتظاهرين من الأشخاص المدنيين لا يحملون سلاحاً أو أي شيء بيدهم».

ويضيف باوه جاني أن نحو 90% من أئمة الجمعة، خصوصاً من كردستان، وقفوا مع المتظاهرين والثوار مما يدل أن الثورة مدنية شعبية في سبيل الحقوق، ويرى باوه جاني أن كل المجموعات السكانية من غير الفارسيين كالأكراد وعرب الأحواز والبلوش متحدون مما يدل على أن الثورة مدنية وليست عسكرية.

قاآني في بغداد

جاء القصف الإيراني ليمثل إحراجاً لحكومة رئيس مجلس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، المقربة من طهران، والمشكلة حديثاً، لذلك أصدرت وزارة الخارجية العراقية، بياناً شديد اللهجة هددت فيه باتخاذ إجراءات دبلوماسية عالية المستوى ضد هجمات إيران، ووصفت قتلى هجماتها بـ«الشهداء»، ووصفت الهجوم بـ«التجاوز السافر على سيادة العراق وأمن مواطنيه»، وأن «بيانات الشجب والاستنكار لم تعد تكفي».

لكن بعد هذا التصعيد الكلامي الكبير، استقبل الرئيس ورئيس الوزراء العراقيين، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، في بغداد، في زيارة غير معلنة اجتمع فيها بالمذكورين وأكد دعمه الحكومة الحالية وناقش معهم ملفات سياسية وأمنية.

وتستغل طهران نفوذها القوي على بغداد وكذلك ضعف حكومة إقليم كردستان العراق لتشن هجماتها دون أن تخشى من أي ردود أفعال، بل إن طهران عادة ما تستخدم حكومة بغداد للضغط على كردستان عند وقوع خلافات معهم، وتثار مسألة تداخل الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وأربيل وحدود الحكم الذاتي وتقاسم عائدات النفط والغاز بهدف مضايقة حكومة الإقليم الكردي.

ومارست طهران ضغوطاً كبيرة على العراق حتى نجحت في تنصيب حكومة السوداني بعد معارضة تكتل الأغلبية النيابية ومن ضمنه الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحكم الإقليم الكردي شمال العراق، وقصفت إيران الإقليم مراراً في ما فُهم حينها أنها رسائل تهديد من طهران لحث أربيل على عدم التمرد على قواعد اللعبة السياسية التي أرساها الإيرانيون في العراق في عهد الاحتلال الأمريكي، التي من ضمنها أن الحكومة العراقية لا بد أن تضم الأطراف الموالية لإيران بغض النظر عن نتائج الانتخابات أو تحقيق الأغلبية النيابية.

وتخشى طهران من أن يستغل الأكراد ضعف نظامها بسبب الاحتجاجات الحالية أو لأي سبب لإقامة كيان سياسي لهم كما حدث في سوريا والعراق عندما استغل الأكراد فترات ضعف النظام في الدولتين، لذا تجتهد دائماً في محاولة احتواء قوة أربيل، وتحافظ أجهزتها الأمنية على وجود استخباري قوي في كردستان العراق التي تضم قواعد أمريكية، وتنفذ عمليات اغتيال وخطف بحق المعارضين الإيرانيين في كردستان.

واليوم يريد النظام الإيراني إرهاب الكرد في الداخل والقضاء على أي أمل لهم بتلقي دعم عسكري من منظماتهم المسلحة في كردستان العراق، لأنهم الجهة الوحيدة التي لها جماعات مسلحة تمتلك معسكرات ومقرات قريبة من حدودها، وتتعامل طهران مع الاحتجاجات الكردية كحركة انفصالية وليست ضمن ثورة شعبية عابرة للقوميات.