الأكراد؛رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، يتراوح عددهم بين عشرين إلى ثلاثين مليون نسمة، يتخذون من المناطق الجبلية الحدودية لكل من تركيا والعراق وسوريا وإيران وأرمينيا موطنًا لهم. ورغم أنهم في العقود الأخيرة لعبوا أدوارًا إقليمية كبيرة إلا أنه لم تكن لهم دولة، هذا الحلم القديم، الذي لا يزال يداعب خيالاتهم ويتحكم في تحركاتهم وتحالفاتهم.

يمثلون 10% من جملة الشعب الإيراني، الذي يبلغ طبقًا لإحصاءات عام 2011م قرابة ال75 مليون نسمة، وهم طبقًا لذات الإحصاءات ثاني أكبر الأقليات الإيرانية بعد الأذريين، تقطن أكثريتهم محافظات کردستان و کرمانشاه وإيلام وأذربيجان الغربية.

سرعان ما ألقت التحركات الكردية في كل من العراق وسوريا وتركيا بظلالها على أشقائهم الأكراد في إيران. يصرّح العميد محمد باكبور، قائد القوات البرية في الحرس الثوري الإيراني، بحسب ما أوردته الجزيرة الإخبارية قبل أيام، تحديدًا في السابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، أن قواته ستستهدف ما أسماهم الإرهابيين في أي نقطة كانوا، قاصدًا بذلك مسلحي الكرد شمالي العراق، وقد جاءت هذه التصريحات متزامنةً مع قصف المدفعية الإيرانية الثقيلة لمناطق شمالي أربيل العراقية، بدعوى استهداف مواقع التدريب الخاصة بالحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني. هذا، وقد أصاب القصف عشرات القرى في المثلث الحدودي بين كل من كردستان العراق وإيران وتركيا، وأحرق مئات الأفدنة الزراعية، وكنتيجة له نزح آلاف السكان، وتشهد القرى محل القصف بالفعل تدريبات وتجهيزات للحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني؛ ما يجعل المزاعم الإيرانية صحيحة بشأن استهداف الحزب دون غيره، وجدير بالذكر أيضًا أن هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيه قرى شمالي أربيل للقصف الإيراني منذ عام 2011م. على الجانب الآخر، أفاد عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، محمد نظيف قادري، بأن اشتباكاتٍ وقعت بين مسلحي الحزب والحرس الثوري في منطقة مريوان بإيران. تكبّد الحرس الثوري خلالها خسائر بشرية كبيرة، بينما قتل اثنان من مسلحي الحزب!، ويأتي القصف الإيراني شمالي العراق في ظل ضغوطات سياسية كبيرة تمارسها حكومة طهران على حكومة أربيل الكردية، وفي ظل حالة من الصمت تخيّم على الحكومة المركزية العراقية إزاء الأوضاع الآخذة في التفاقم على حدودها.


أكراد إيران: دولة أقيمت ولو لثانية!

لأنه لا يمكن تناول المسألة الكردية عمومًا، لاسيما الجانب الإيراني منها، دون التعمق في دهاليز التاريخ، نأتي على عجالة على أهم المحطات التاريخية التي تحددت من خلالها العلاقة الكردية-الإيرانية، فنذكر أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى ومع هزيمة العثمانيين، نشط عدد من السياسيين الأكراد للمطالبة بدولتهم المستقلة، بعدما تنامى لعلمهم اعتزام الدول الحلفاء إقامة دولة أرمينية مستقلة تمتد من ساحل البحر الأسود منحدرةً غربًا في اتجاه البحر المتوسط، وحضر اتفاق باريس ممثلًا عن التيارات الكردية الجنرال شريف باشا السليماني، والذي أخذ على عاتقه مسئولية إقناع الحلفاء بضرورة إرغام العثمانيين المنهزمين على السماح بإنشاء دولة الأكراد، فكانت معاهدة سيفر الضمانة الأولى لبناء هذه الدولة. لكن كما هو معلوم، أن هذه المعاهدة وُلدت ميتة وتبعتها معاهدة لوزان، التي محت أي أثر لدولة الأكراد المنشودة ليس فقط من الناحية السياسية بل من الناحية الديموغرافية كذلك؛ إذ قضت بتوزيعهم بين البلدان الأربعة، تركيا وإيران والعراق وسوريا.
حدود، تركيا، معاهدة سيفر
ترسيم الحدود ضمن معاهدة سيفر، معاهدة السلام بين الدولة العثمانية ودول الحلفاء (توضح الخريطة حدود الدولة الكردية المحتملة)
أقيمت دولة الأكراد «مهاباد» في ظرف استثنائي، سرعان ما اندثرت بتلاشي الظرف، ولم يُعرف من حينها للأكراد دولتهم المرجوّة.

جمهورية مهاباد، أفضل ما توصل إليه أكراد إيران في سعيهم لتحقيق حلم الدولة والقضاء على الشتات، وكان ذلك بعدما دخلت قوات الحلفاء إيران عام 1941م مع القوات الروسية للقضاء على حكم رضا شاه بهلوي، ولإعلان إيران دولةً محايدة إبان الحرب العالمية الثانية، إذ أعلنت أذربيجان إيران عن حكومة يسارية مستقلة بقيادة الحزب الديموقراطي الأذربيجاني، المدعومة ماديًا وسياسيًا من روسيا. إلا أن بقاء جزء من الشمال الإيراني، المشغول بالأكراد، بعيدًا عن احتلال الدول الحلفاء شجّع الأكراد على طرد القوات الإيرانية واعتبار المنطقة منطقة سيادة كردية، ونشأت جمعية الإحياء الكردي كأول تنظيم سياسي كردي إيران في مهاباد، وفي سبتمبر/أيلول لعام 1945م نشأ الحزب الديموقراطي الكردستاني متخذًا من جمعية الإحياء الكردي قاعدةً له، ليعلن عن أول حكومة كردية مستقلة، وكونت هذه الحكومة ميليشيا لشغل محل قوات الشرطة والجيش الإيرانيين، وعمدت إلى كثير من الإصلاحات في مجالات الزراعة والإدارة والثقافة، كما وقعت معاهدة صداقة في 1946م مع حكومة أذربيجان إيران. ومع استمرار الضغوطات الأمريكية على روسيا للانسحاب خارج الأراضي الإيرانية، وجدت الحكومة الكردية -التي لم تكن تسيطر إلا على 30% فقط من كامل الأرضي التي يقطنها الأكراد- نفسها في مواجهة مع الجيش الإيراني، فذهبت أدراج الرياح كما لم تكن، وأُعدم زعيم الحكومة قاضي محمد وأخوه وابن عمه، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة الأكراد، في مارس/آذار 1947م.

جمهورية مهاباد الكردية، التي قامت واندثرت في أقل من عام إبان الحرب العالمية الثانية

بهذا، بمعاهدة سيفر وحكومة مهاباد، انتهت محاولات الأكراد الجادة في إيران لإقامة الدولة، تبعهما ثمة مناوشات، كان أبرزها بعدما رفضت إدارة الخميني مطالب الأكراد بعد الثورة، رغم دورهم الجاد والفعال في نجاح الثورة.

من ساحات القتال إلى ميادين السياسة: نضوج أم يأس؟

جمهورية مهاباد الكردية
جمهورية مهاباد الكردية
كما كان متوقعًا، ولأنه لم يكن أية توافق بين حكومات الدولة البهلوية المتعاقبة والأقلية الكردية، إذ عانت الأخيرة في عهدهم أيّما معاناة، شاركت في الثورة، وحملت على عاتقها همّ إسقاط دولة الشاه، وهو ما حدث في فبراير/شباط 1979م. ثم ما كان من الحكومة الإيرانية الجديدة بقيادة أبي الحسن بني صدر -أول رئيس للجمهورية الإسلامية بعد الثورة- إلى أن أرسلت لجان تقصي حقائق للوقوف على حقيقة المظلومية التي يرفعها الأكراد، لكن لم يستطع الطرفان التوصل لحل في ظل سقف مطالب الأكراد المرتفع الذي وصل إلى حد المطالبة بأحقية الحكم الذاتي.تجددت الاشتباكات المرة تلو المرة بين الحكومة المركزية في طهران والمقاتلين الأكراد، المسمّين بقوات البيشمركة، وجدير بالذكر أن أول تكون لميليشيا البيشمركة كان لصد نظام الشاه ودحره بعيدًا عن الحكم وهو ما تم، لكن مهمةً أخرى ظهرت لهم بعد تعثر المفاوضات مبكرًا مع الحكومة الجديدة، ويذكر البعض فتوى للإمام الخميني يحرض فيها قوات الجيش والشرطة الإيرانية على قتال «الكفار» في كردستان، وهو ما أضاف بعدًا آخر للقضية إذ عزى البعض تأجج الصراع والعنف بين الأكراد والحكومة الإسلامية الجديدة إلى الاختلاف المذهبي، فالأكراد يشكلون أكبر أقلية سنية في إيران في ظل الحكومة الشيعية الاثناعشرية.
الانتقال من التمرد المسلح إلى ميدان السياسة، أبرز ما شهدته العلاقات الكردية الإيرانية، ويرجع الفضل فيه لتكون طبقة النخبة والمثقفين الأكراد.
المرحلة الأهم في تاريخ الصراع الحديث بين الأكراد والدولة الإيرانية، تتلخص في انبثاق الحراك السلمي الكردي، النابذ للعنف وحمل السلاح وكان ذلك في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، وكانت بذرته الأولى قد نبتت في العاصمة طهران وليس في المحافظات الكردية الشمالية. ويعزو متابعون انتهاج مجموعة من الأكراد للسلمية كبديل عن العنف لعدة أسباب:1- تطور وتعزيز الطبقة الوسطى الكردية في طهران ابتداءً ثم في مناطق الشمال، وتزايد أعداد الطلاب الكرد في المدارس والجامعات، وهو ما أدّى لتشكل طبقة من المثقفين الأكراد.2- شعور النخب الكردية المتصدرة للمشهد بعدم جدوى الكفاح المسلح، فلجأوا للسلمية كخيار إستراتيجي.3- مشاركة أكراد العراق في السلطة السياسية هناك، حفز أكراد إيران لانتهاج الخط السلمي ذاته.وفي عهد خاتمي كذلك، نتيجة للمشاركة السياسية، تبوأ بعض الأكراد مواقع متقدمة في سُلم السلطة؛ أمثال عبد الله رمضان زادة، الكردي الشيعي، والذي عُيّن نائبًا لخاتمي ومتحدثُا باسم الحكومة، وتكونت في حينها كذلك كتلة برلمانية خاصة بالأكراد.ورغم أنه لا أحد يحسم حقيقة التحول الكردي من العنف إلى السلمية، أكان ذلك نتاجًا لليأس، واللا شيء الذي حققته الجماعات المسلحة الكردية، أم بسبب النضوج وتحول الأكراد إلى مجتمع من المثقفين والسياسيين وطلاب الجامعات، لكن تبقى الحقيقة الواحدة المتفق على كونها واقعًا ملموسًا، أن ما حققه الأكراد من السلمية أكثر بكثير مما حققوه من العنف كأداتين لنيل المطالب والحقوق المنزوعة، كما لا ننفي في نهاية الحديث أن الاشتباكات تتجدد بين الفينة والأخرى، لاعتقال قيادي هنا أو ناشط هناك. وبالنظر لما حدث مؤخرًا من صراع بين أبناء الحزب الديموقراطي الكردستاني، والذين اتخذوا من أربيل العراق موطنًا لهم للتدريب والتجهز لأية مناوشات عسكرية، وبين الجيش الإيراني، فإنه لا أفق منتظر لهذه المناوشات سوى أن تنتهي لاسيما وأنها تجري خارج الأراضي الإيرانية، ولا يُظن أن أغلبية الأكراد من طبقة المثقفين والسياسيين راضين عنها أو داعمين لها بشكل من الأشكال لتبقى وتتجدد، والأيام جديرةٌ بإثبات ذلك أو نفيه.
المراجع
  1. الدور السياسي للأقليات في الشرق الأوسط – د.مصلح خضر الجبوري – طبعة أولى 2014م – الأكاديميون للنشر والتوزيع – عمّان – الأردن
  2. الجزيرة الإخبارية