هُنَا الطغاةُ على مَدى الأيام سادواهُنَا الغزاة على مَدى التاريخ بادوا اليوم عادوا.. عانِقوهم بشِّـروهم هاهنا سيُقتَلون .. ويُخْنقون من العِناق ..من بين 9 ملوك ورؤساء حكموا العراق قُتل ثمانية منهم ونجا واحدٌ فقط، ومن بين 37 مليون مواطن عراقي هناك أكثر من 5 ملايين لاجئ مشتتين بين المشرق والمغرب أخرجهم مرة طغيان أعمى وأخرجهم تارةً محتلٌ غبي.

كان قدر العراق مكتوبًا بالدم كما كان قدر الوطن العربي كله حين أقر الخليفة العثماني محمد الخامس «معاهدة سيفر» مع دول الحلفاء في 10 أغسطس من عام 1920م، فكان أن قُسم الجسد المريض إلى دول لا تجمعها بنية ثقافية أو هوية واحدة يمكن أن تتماسك في وجه الزمن. كان تاريخ العراق هو تاريخ الصراع الهوياتي المبني علي أسس عميقة من العشائرية والطائفية والعرقية التي تنخر في هذه الأرض. لم ينتج هذا من فراغ بل من تنوع عرقي وديني ومذهبي واسع فهناك العرب والكرد والتركمان وهناك اللسان العربي والكردي والأذري والفارسي وهناك السنة والشيعة واليزيديون والصابئة وغيرهم.

قبل عام 1920م لم يكن لهذه المجموعات تاريخ من العيش المشترك، فكانت الموصل مثلًا منطقة متنازع عليها ووقعت تحت حكم الأتراك لفترة من الزمن. أما البصرة فكانت منطقة منفصلة عن بغداد، كما أعلنت النجف استقلالها بعد السقوط العثماني وكتبت دستورًا مستقلًا لها.لذا يمكن شرح الحالة العراقية في شقين: أولًا؛ تركيبتها العرقية وفشلها في بناء هوية جامعة للشعب العراقي ونظام حكم يمثل فيه الجميع. ثانيهما؛ التاريخ والجغرافيا اللذان صنعا حالة من عدم الاستقرار في علاقتها مع جيرانها بدءًا من الكويت والتي كانت في السابق جزءًا من محافظة البصرة وليس انتهاءً بإيران والأكراد.


العراق: من استبداد لآخر

http://gty.im/1306696

بعد إعلان مملكة العراق الهاشمية في 1932م تبنت الأسرة الحاكمة حالة من السيطرة السنية على مفاصل الدولة مع قليل من مظاهر الديمقراطية هنا وهناك، ولكن بعد الانقلاب العسكري عام 1958م تولى العسكر مقاليد الأمور وكونوا هم طبقة النخبة الجديدة. وسادت في هذه الفترة انتفاضات مختلفة قبائلية أو طائفية صنعت شروخًا في جسد العراق، كان التعامل معها بسلاح القمع الداخلي والمغامرات الخارجية، وصنع قادة الانقلاب الجدد حالة من الخوف والعسكرة في المجتمع العراقي لم تكن معروفة من قبل.في المجتمع العربي عمومًا وفي الحالة العراقية تحديدًا كانت ظاهرة المستبد العادل مزروعة بعمق في وعي الإنسان، فكان صدام حسين احتياجًا حقيقيًا للعراقيين بعد سنوات من عدم الاستقرار، وكان حلم القائد الذي يمسك بيده مقاليد الأمور ويمتلك رؤية كبرى للعراق، فكانت جملة العوامل السوسيولوجية عاملًا رئيسيًا في صعود نجم صدام حسين.جاء صدام حسين في بيئة مليئة بالشقاق وتربة خصبة احتاجت إلى من يجمع شقاقها بالقوة الجبرية، فجاء في صورة المستبد العادل وفي خياله أحلام توسعية غذتها إمكانيات العراق وحاجته إلى موازنة التركيبة العرقية الغالبة للشيعة بمزيد من السنة، فاتخذ طريق المغامرات الخارجية بدافع التغطية على المشاكل الداخلية في العراق. وكانت مغامرات صدام جزءًا من الحل الذي توصل إليه من أجل الحفاظ على الوضع المهترئ في العراق وتثبيت أركان نظامه. ورغم أن السنة العرب أقلية في العراق لكنهم كانوا في مراكز السلطة في الدولة والحزب، حيث استند حزب البعث إلى قاعدة قوية من الولاء السني واستعمل شعارات العروبة والهوية لحشد السنة في صفه وسعى إلى استقدام العرب السنة من الدول المجاورة بهدف تدعيم قاعدته الديموغرافية.رغم أن المكون السني في عراق صدام حسين كان هو المكون المسيطر في دوائر السلطة؛ إلا أنه أيضًا عانى مثلما عانت بقية المكونات من أكراد وشيعة. فكلما زاد اعتماد النظام العراقي على السنة كلما زادت حدة تعامله مع أي خروج سني عن السياق مهما كان طفيفًا، فكانت أي معارضة لنظام الرئيس كفيلة بتعريض صاحبها للاعتقال أو الإعدام حتى وإن كان سنّيًا. فعلى سبيل المثال وفي مايو 1995م تحدثت بعض التقارير والشائعات عن قمع شديد لعشيرة الدليمي بعد انتفاضة لهم بسبب مقتل أحد أبنائها والتمثيل بجثته وهو جنرال في سلاح الطيران. يجدر هنا أيضًا ذكر صدام كامل المجيد وهو ابن عم صدام حسين وزوج ابنته رنا وهو أيضًا شقيقحسين كامل الذي كان متزوجًا من ابنة صدام الكبرىرغد، وقد فرّ من العراق مع أخيه حسين وزوجتيهما إلى الأردن وطلب اللجوء السياسي و عاد لاحقًا إلى بغداد بعد عفو مشكوك في جديته من صدام حسين في ظروف غامضة ليتم تصفيته سريعًا مع أخيه بعدها بهجوم مسلح على بيته.عانى الأكراد ويلات المذابح والتطهير العرقي وعانى الشيعة مثلهم من قمع غير مسبوق لانتفاضاتهم ولاتهام مسبق لهم بانعدام الولاء للدولة العراقية ولحزبها البعثي العربي، معاناة ألقت بظلالها دومًا على الرؤية الشعبية للشيعة العراقيين العرب كعملاء لآية الله خصوصًا بعد الحرب العراقية الإيرانية، كما صنعت المذابح بحق الأكراد رؤية ملحمية لتاريخهم ومستقبلهم ولتمايزهم عن المنطقة وانفصالهم عنها، ولا يقع اللوم على هذا الأمر في المكون الكردي أو الشيعي وحده فأسماء مثل الأنفال أو الانتفاضة الشعبانية كافية بتذكير العراقيين بأهوال سببها صدام حسين.


مذابح في الذاكرة العراقية

وربما إذا حاولنا أن نعد الأهوال التي لاقاها أهل العراق من صدام وأركان حكمه فإننا لن نستطيع؛ ولذلك سنكتفي بذكر حادثتين فارقتين في الذاكرة العراقية.

أولًا: حملة الأنفال

هي حملة عسكرية موجهة ضد أكراد العراق قادها علي حسن المجيد ابن عم صدام حسين. تفيد الرواية الرسمية العراقية أن الأكراد قد سهلوا للقوات الإيرانية الانتشار داخل أراضي شمال العراق، أما الرواية الكردية فتفيد بأن النظام العراقي كان يحاول التخلص من المشكلة الكردية عن طريق تدمير القرى وتهجير سكانها إلى مناطق تخضع لسيطرة الحكومة العراقية، بدأ تنفيذ هذه الحملة من فبراير 1988م وانتهت مطلع عام 1989م.أثناء هذه الحملة ضُربت مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيماوية ما أدى لسقوط أكثر من خمسة آلاف قتيل في هذه المدينة وحدها، غير 100 ألف مواطن آخر قتلوا في مناطق أخرى. لقب قائد الحملة بـ«علي الكيماوي» و أدين لاحقًا بعد سقوط العراق وحكم عليه بالإعدام شنقًا عام 2007م.

ثانيا: الانتفاضة الشعبانية

كانت المغامرات المتتالية لصدام حسين مرة مع إيران و مرة في الكويت سببًا لتذمر شعبي كبير بين جنود عائدين من الكويت حفاة عراة بعد أن دمر جيشهم وبين نظام يتبجح بالنصر المظفر للرئيس وبين عائلات لا تعرف شيئًا عن أبنائها الذين فُقدوا أو قُتلوا في غمار الحرب وخاصة حرب الكويت. خرج الشعب العراقي غاضبًا في شمال العراق -أربيل والسليمانية- وفي جنوبها -محافظة البصرة- معلنين إسقاط نظام الرئيس، وكانت ثورة شعبية عارمة دمرت فيها مقار الأمن والشرطة ولم تنتهِ إلا بتدخل واسع للجيش العراقي وقواته الخاصة. تدخُّل استعملت فيه المدفعية الثقيلة و المروحيات وأخمدت الانتفاضة بالقوة وهجر الآلاف من مدنهم وقتل الآلاف، وبعد أن قمعت الانتفاضة لجأ الآلاف من الثوار والجنود الهاربين إلى الاهوار في جنوب العراق، حينها وقعت عمليات انتقامية واسعة من الجيش العراقي كما تم تحويل مجرى نهري دجلة والفرات لتجف الاهوار في كارثة من أسوأ الكوارث البيئية، استخدم النظام في قمع هذه الانتفاضة عملية تجييش طائفي ومذهبي ضد المشاركين بها مستخدمًا فزاعة إيران والشيعة، فما كان إلا أن أُخمدت نارها بالآلاف من القتلى والمهجرين.

كل وادِ بين جبلين مقبرة!

كل قرية، مدينة محاطة بالبساتين

والرياضاليوم كلها مدمرة!

أوصال المهود أحشاء النساء والأطفال

على أغصان الأشجار أعلام!

الشاعر الكردي بيزاني ئاليخان

حرب العقوبات والتمهيد للغزو

http://gty.im/102496215

لم تقتصر الجرائم في حق العراق على صدام وحده أو على طوائف المجتمع وحدها، بل عانت العراق من حصار شارك فيه الأخ والقريب مع العدو يدًا بيد، حصار سببه غزو صدام للكويت ودفع الشعب العراقي ثمنه غاليًا.فقد قرر العالم معاقبة العراق، إذ فرضت الأمم المتحدة القرار رقم 661 والذي يدعوا إلى وقف حركة التجارة مع العراق وتجريم بيع أي مواد لا تدخل تحت بند المساعدات الإنسانية، واستمرت هذه العقوبات من أغسطس 1990م إلى احتلال العراق في 2003م.وكنتيجة لبنية العراق الاقتصادية التي تعتمد في 90% من مواردها على ريع النفط، أضحى الحصار الاقتصادي كابوسًا على العراق وشعبها. وتشير التقارير إلى وفاة ما يزيد عن المليون طفل نتيجة الجوع ونقص الأدوية، غير الدمار الشديد الذي لحق بالبنية التحتية والصناعية للعراق. واستمر هذا الحصار إلى أن قبل صدام حسين بخطة النفط مقابل الغذاء 1996م والتي قدمتها الأمم المتحدة ولكن شابها الكثير من الفساد وإهدار الأموال، ولم يصل لأهل العراق من ريعها إلا فتات الفتات.لاحقًا قدمت إدارة بوش العديد من التقارير التي تربط صدام حسين بالقاعدة وتقارير أخرى تؤكد مسعاه لامتلاك سلاح نووي، وكان هذا بداية الطريق إلى الغزو!.