لا توجد حلول سحرية، الحكومة لا يمكنها تحقيق أحلام وطموحات الجميع في فترة قصيرة، ونحن لا نسكن في بروج عاجية، نسير بينكم ونعرف أوجاعكم.
عادل عبد المهدي – رئيس الوزراء العراقي

كانت تلك الكلمات جزءًا من الكلمة المتلفزة لرئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، في الساعات الأولى من يوم الجمعة 4 أكتوبر/ تشرين الأول.

كلمة رئيس الوزراء العراقي

انتظر العراقيون قرابة الثلاث ساعات، وبعد ثلاثة أيام من التظاهر الذي قوبل بعنف شديد، ليطل عبد المهدي عليهم في كلمة مرتبكة، لا تحمل الجديد، بل أشعلت الأمور سوءًا.

دعوات مفاجئة للتظاهر

شهد العراق منذ يوم الثلاثاء موجة كبيرة من المظاهرات احتجاجًا على سوء الأحوال المعيشية، البطالة، الفساد، ونقص الخدمات الطبية والتعليمية، لكن البداية كانت يوم 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما انتشرت دعوات مجهولة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو جموع الشعب العراقي للخروج في مظاهرات لإسقاط حكومة عبد المهدي.

ظن البعض في البداية أن الهدف من وراء تلك الدعوة للتظاهر، هو إبعاد اللواء عبد الوهاب الساعدي، الرجل الثاني في جهاز مكافحة الإرهاب والمعروف بشعبيته الكبيرة وسط العراقيين منذ أن استطاع تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عام 2017، إلى إحدى الوظائف المكتبية في وزارة الدفاع.

لكن تغيرت بوصلة الأمور بشكل مباغت، لم يتوقعه حتى القائمون المجهولون على دعوة التظاهر. فوجئ العراقيون في الأول من أكتوبر بمظاهرات متفرقة في المحافظات الجنوبية في العراق، ذات الأغلبية الشيعية، وسرعان ما امتد زخم تلك المظاهرات إلى العاصمة بغداد.

الوصول إلى ساحة التحرير

منذ مساء يوم الإثنين بدأت القوات الأمنية العراقية في القيام بإجراءات مشددة خاصة في العاصمة بغداد، تحسبًا لوقوع أي مظاهرات نتيجة الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن في اليوم التالي عصرًا، بدأت مجموعات كبيرة إلى حدٍ ما من الشباب التجمع، محاولين الوصول إلى ساحة التحرير، والمعروفة بأنها مركز المظاهرات في الفترة الأخيرة.

في نفس الوقت بدأت أعداد المتظاهرين تزداد في محافظات: البصرة، النجف، كربلاء، والديوانية، وفي العاصمة بدأت الحشود التحرك نحو جسر الجمهورية المؤدي إلى المنطقة الخضراء «شديدة التحصين»، والتي تضم مبنى الحكومة، البرلمان، وعدداً من السفارات الأجنبية. حينها أدركت قوات الأمن الخطر المقبل، وبدأت في إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، والمياه الساخنة في محاولة لتفريق المتظاهرين.

اقرأ أيضًا: المنطقة الخضراء: فكرة «صداع حسين» التي ألهمت السيسي

تملك الغضب من المتظاهرين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و30 سنة، وبدأت الاشتباكات بينهم وبين قوات مكافحة الشغب التي تتمتع بسمعة سيئة بين العراقيين، وبدأت تصلنا مقاطع الفيديو وصور الاشتباكات والتعامل العنيف من قبل قوات الأمن.

لجأت الحكومة في وقتها إلى استخدام اللعبة المعروفة، وهي حجب أغلب وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المراسلة، لكي لا يتمكن المتظاهرون من التواصل فيما بينهم، ومن ناحية أخرى، لمنع نشر المقاطع المصورة التي تثير مشاعر الشباب وحثهم على النزول للشارع.

عشرات القتلى وإحراق مقرات حزبية

لم تهدأ بغداد ولا المحافظات الأخرى، وازداد عنف القوات الأمنية في مواجهة جموع المتظاهرين. بدأت القوات في استخدام الرصاص المطاطي بكثرة مما أسفر عن وقوع العشرات من القتلى ومئات المصابيين.

أصدرت جبهة المعارضة البرلمانية بيانًا للتعبير عن تعاطفها التام مع مطالب المحتجين، وأعلن مقتدى الصدر رجل الدين الشيعي البارز والسياسي الشعبوي، تأييده المظاهرات، لكن دون دعوة أنصاره للمشاركة بها بحجة أنه لا يريد «تسييس» المظاهرات.

وشهدت المحافظات الجنوبية حرقاً لمقرات الأحزاب ومكاتب النواب، وانتشرت الأخبار عن مقتل عدد من رجال الأمن على أيدي متظاهرين مسلحين أو ربما يكونون مندسين، وفقًا للرواية الرسمية.

يسخر الصحفي العراقي ميزر كمال من فكرة المندسين أو الطرف الثالث، فيقول لـ «إضاءات»: «الحديث عن وجود مندسين هو محاولة يائسة من قبل السلطة والميليشيات المسلحة (الحشد الشعبي، وخاصة الفصائل الموالية لإيران)، لإبعاد التظاهرات عن مسارها وهدفها الأساسي المتمثل في إسقاط النظام الفاسد».

في نفس السياق، ووفقًا للعديد من التقارير الواردة من العراق، تحدث بعض المتظاهرين للوسائل الإعلامية عن مساعدة الحشد الشعبي قوات الأمن الحكومية لقمع الاحتجاجات، وفي هذا الصدد يقول كمال: «تواجدت عناصر تابعة للحشد الشعبي وسط قوات الأمن بالفعل، مرتدين للزي الرسمي لقوات مكافحة الإرهاب، وتلك العناصر هي من بدأت باستخدام الذخيرة الحية في وجه المتظاهرين».

قطع الإنترنت بالكامل، وفرض حظر التجول

منذ اليوم الأول، وحتى كتابة هذا التقرير، تتوالى الأخبار عن زيادة عدد القتلى والمصابين في كل يوم، اعتقدت الحكومة العراقية أن استخدام العنف المفرط سوف يجبر المتظاهرين على التراجع، لكن يبدو أن ما حدث هو العكس، وظل المتظاهرون متمسكين بحقهم في الاحتجاج، مؤكدين على مطالبهم التي طال انتظار تحقيقها.

لم تجد الحكومة أمامها إلا القطع الكامل للإنترنت، مما جعل البلاد في حالة تعتيم معلوماتي كبير، وفرضت حظر التجول في العاصمة وعدد من المحافظات، حتى إشعار آخر.

اكتظت المستشفيات بالمصابين، وارتفع عدد القتلى ليصل إلى 60 قتيلًا الخميس الماضي، وارتفع سقف مطالب المتظاهرين من المطالبة بالحقوق إلى إسقاط حكومة عبدالمهدي التي أكملت عامًا في السلطة لتوها.

في مساء يوم الخميس تم الإعلان عن كلمة رئيس الوزراء المرتقبة، وتوقع الجميع أنه سيعلن استقالته، لكنه بدلًا من ذلك خرج يبرر إخفاق إدارته، ويطلب من الشعب العراقي المزيد من الوقت، لأنه ببساطة «لا توجد حلول سحرية لمشكلات العراق»، على حد تعبيره.

يعد العراق رابع أكبر صاحب احتياطي للنفط في العالم، تلك الثروة الهائلة التي تجلب للبلاد قرابة 6.5 مليار دولار شهريًا، لا تستطيع أن تؤمن للعراقيين الكهرباء وفرص عمل لائقة. عانى العراقيون منذ طرد تنظيم الدولة الإسلامية، من وعود الحكومة بمشاريع الإسكان، وإعادة إعمار البنية التحتية، لكن جميع تلك الوعود كانت مجرد سراب، وأحلام انتهت على عتبة فساد المسئولين.

بعد كلمة رئيس الوزراء العراقي، لم تهدأ المظاهرات، وتوقع المراقبون أن يتم تقليل التعامل العنيف من قبل قوات الأمن، لكن في حقيقة الأمر ازداد العنف والتنكيل بالمتظاهرين، وبدأت الجمهورية الإسلامية وأذرعها المسلحة في العراق بالدخول إلى الأحداث.

بدأ الحديث عن انتشار القناصة في العاصمة بغداد، التابعين للجماعة المسلحة التي تحمل اسم سرايا الخراساني، الموالية لإيران.

شعارات مناهضة لإيران، ورفع صور الساعدي

أشار عادل عبد المهدي في كلمته، إلى أسفه من استغلال البعض للمظاهرات، ومحاولة توجيهها لأهداف أخرى، ربما كان يشير إلى رفع بعض المتظاهرين شعارات مناهضة للتدخل الإيراني في شئون العراق.

وبحسب التقارير شوهد بعض المتظاهرين أيضًا يرفعون صور اللواء عبدالوهاب الساعدي، الذى انتشرت شائعات بأن السبب وراء إبعاده عن جهاز مكافحة الإرهاب هو رغبة إيران في التخلص منه، خوفًا من توسع شهرته من ناحية، ورغبة في إحكام سيطرة إيران والفصائل المسلحة الموالية لها قبضتها على كافة القيادات داخل الجيش العراقي من ناحية أخرى.

الجدير بالذكر أن جهاز مكافحة الإرهاب جهة مستقلة تمامًا عن القوات المسلحة، تم تأسيسه في عام 2004، وبحسب الصحفي العراقي ميزر كمال فالجهاز يحظى بدعم لوجستي أمريكي.

اللواء عبد الوهاب الساعدي

بجانب أن اللواء الساعدي لا يحظى بقبول وسط الدوائر السياسية والعسكرية الموالية لإيران، ظهر الساعدي في مقابلة تلفزيونية عقب إعلان إبعاده عن منصبه في جهاز مكافحة الإرهاب، معبرًا عن حزنه العميق من هذا القرار الذي لا يعلم من الذي يقف وراءه، ولا حتى أسبابه، رافضًا إبعاده عن المعركة الميدانية، ومصرحًا بأنه سوف يتخلى عن رتبته العسكرية إذا لزم الأمر.

أمريكا والنظام الصهيوني وراء المظاهرات

تتزامن المظاهرات الحاشدة في العراق مع ذكرى مرور أربعين يومًا على وفاة الإمام الحسين بن علي في معركة كربلاء، وهو الإمام الشيعي الثالث لدى المسلمين الشيعة.

تعرف تلك المناسبة بخروج أعداد كبيرة من الحجاج الشيعة سيرًا على الأقدام لزيارة قبر الإمام الحسين، وكان من المفترض أن يزور العراق في ذلك الوقت نحو مليوني إيراني، لكن قررت الجمهورية الإسلامية إغلاق المعابر الرئيسية مع العراق نظرًا للوضع الحالي.

لم تكتفِ إيران بهذا الأمر، بل صرح إمام صلاة الجمعة في إيران، آية الله محمد إمامي كاشاني، وهو رجل دين شيعي ذو أهمية كبيرة، بأن الولايات المتحدة والنظام الصهيوني هما اللذان يقفان وراء الأحداث الأخيرة في العراق، في محاولةٍ منهما لتخريب موسم الحج لدى المسلمين الشيعة.

ويبدو أن هناك من له نفس الرأي داخل العراق، قال النائب نعيم العبودي – النائب عن كتلة «الصادقون» التي تعتبر الجناح السياسي لحركة عصائب أهل الحق الموالية لإيران – أن هناك جهات خارجية تقف وراء المظاهرات في العراق: «هناك بعض الصفحات الممولة وبعض الشخصيات من خارج العراق، التي تدعو إلى تصادم المتظاهرين مع قوات الأمن»، مضيفًا: «يجب على الشباب أن يحذروا من أبواق الفتنة التي لا تريد الأمن والاستقرار للعراق».

مع من يجتمع رئيس البرلمان؟

في صباح يوم السبت أعلن رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي أنه سيجتمع مع عدد من ممثلي المتظاهرين، بالرغم من أنه لم يُعرف إلى الآن قيادة موحدة لتلك التظاهرات، التي تم وصفها بأنها عشوائية للغاية.

وأفادت وكالة ناس نيوز العراقية، أن الفوضى سادت الاجتماع، بعد ما طلب الحلبوسي من ممثلي المتظاهرين بإنهاء التظاهرات، فرفضوا وطالبوه بتقديم استقالته، ولم يسفر الاجتماع عن أي شيء.

100 قتيل، وإحراق مقرات الفصائل الموالية لإيران

تقول آخر الإحصائيات الصادرة من الجهات الطبية في العراق، إن عدد القتلى وصل إلى 100 شخص في يوم السبت، والإصابات تقدر بالآلاف، وبحسب الصحفي العراقي ميزر كمال، فإن آخر التطورات مساء السبت، شهدت إحراق مقرات تابعة للفصيل المسلح «سرايا الخراساني» الموالي لإيران في مدينة الناصرية جنوب العراق. كما شهدت مدينة ذي قار حاصرًا من قبل المتظاهرين لمقر جماعة بدر المسلحة التابعة أيضاً لإيران.

يبدو إلى الآن أن الأمور لا تقترب من التهدئة من قبل أي طرف، والكرة في ملعب رئيس الوزراء العراقي، إذا لم يتمكن من إيجاد سبيل لإقناع المتظاهرين الغاضبين في الشوارع المتحدين لحظر التجول، ورصاص قوات الأمن، فإنه بذلك يعلن إنهاء إدارته.