عام 1919، تأسس الجيش الجمهوري الأيرلندي لمواجهة الحكم البريطاني في أيرلندا الشمالية، قاتل الجيش الجمهوري مع الحزب القومي الأيرلندي، شِين فين، لكنهم لم ينضموا تحت لواء واحد، فكانوا رفاقًا في الغاية، لكن كلا منهما ظل مستقلًا عن الآخر. فعمل الجيش الجمهوري، الوريث الرسمي للمنظمة الفدائية التي تكونت عام 1913 تحت اسم المتطوعين الأيرلنديين، على تحقيق مكاسب عسكرية يستغلها حزب شين فين سياسيًا.

ظل العمل بين العقل والذراع متناغمًا حتى طالبت أيرلندا بريطانيا رسميًا بالجلاء عنها ومنحها استقلالها، وتحت وطأة التكتيكات الفدائية والهجمات المتتابعة رضخت بريطانيا للتفاوض وقبلت بتسوية نتج عنها كيانان جديدان. الكيان الأول هو الدولة الأيرلندية التي تتكون من 26 مقاطعة، وللدولة سيادتها المستقلة لكن تحت مظلة الحكم البريطاني فأعضاء الحكومة الأيرلندية يجب أن يقسموا بالولاء للتاج البريطاني.

أما الكيان الثاني فيشمل 6 مقاطعات فحسب تحت اسم أيرلندا الشمالية، وتبقى هى الأخرى جزءًا من المملكة المتحدة ولا سيادة لها. أمام هذا العرض انقسم الجيش إلى فريقين، الفريق النظامي يؤمن بتحقيق الاستقلال عبر السلام، ويوافق على المكسب الذي ظفر به. أما الفريق الثوري فيرى القتال ضرورةً لإجبار العدو على التفاوض ولتعزيز قوة الأيرلنديين، ولانتزاع البلاد كاملةً والظفر بالسيادة التامة بلا وصاية بريطانية.

الفريق الثوري انفصل عن الجيش، وبدأ في شن هجمات عنيفة بعد أن ثبت له أن بريطانيا لن تخرج بالتفاوض، استدعت الهجمات ردًا أعنف من المحتل البريطاني، وغرقت البلاد في اضطرابات دامت لـ 30 عامًا. أصبح الفريق الثوري، أو المعروف بالجيش المؤقت، هو ببساطة الجيش الجمهوري الأيرلندي، أما الجيش الرسمي فتلاشى تدريجيًا من الساحة. لأن اللا نظاميين، الثورييين، أصبحوا يقاتلون رجال الجيش الأيرلندي الموالين للحكومة المستقلة الجديدة.

الحرب الأهلية تخدم المُحتل

دخلت البلاد في حرب أهلية لمدة عام، وانتهت بهزيمة الثوريين المعارضين للمعاهدة مع بريطانيا واضطروا لتوقيع معاهدة جديدة مع الحكومة. تلك المعاهدة قسمت الجيش الجمهوري الأيرلندي لقسمين جديدين، فريق رفض تسليم أسلحته أو حل تجمعه، وفريق آخر اتبع الحل الدبلوماسي ودخل معترك السياسة أملًا في الوصول للسلطة عبر الانتخابات.

ظل الجيش الجمهوري الأيرلندي خارجًا عن السيطرة، واستمرت أعمال الحشد وضم جنود جدد للجيش حتى استرد عافيته، وقام عام 1931 بأعمال عنف وقام بسلسلة تفجيرات في بريطانيا امتدت منذ عام 1931 إلى عام 1936. لذلك أعلن البرلمان الأيرلندي عن إجراءات عنيفة ضد الجيش الجمهوري منها حجز أفراده دون محاكمة. واستمرت أعمال الجيش الجمهوري تمثل إحراجًا للحكومة الأيرلندية خاصة أن الجيش استمر في مهاجمة بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.

تدخلت الحكومة الأيرلندية بشكل حاسم ضد الجيش الجمهوري حين علمت أن الجيش الجمهوري يوشك أن يمد يده للتعاون مع هتلر ضد بريطانيا، فأعدمت الحكومة 5 من رجال الجيش الجمهوري، وسجنت الكثيرين، واستمرت في ضغطها على الجيش للتخلي عن العنف والسلاح.

لم يستجب الجيش غير النظامي واستمر في عملياته حتى انسحبت أيرلندا من الكومنولث البريطاني عام 1949، حينها وجّه الجيش جهوده للدعوة لتوحيد أيرلندا ذات الأغلبية الرومانية الكاثوليكية مع أيرلندا الشمالية ذات الأغلبية البروتستانتية. لكن الكاثوليك لم يدعموا ذلك التوجه، فأصبحت جهود الجيش الأيرلندي غير مجدية. وتغيرت الأمور حين بدأ الكاثوليك الأقلية في أيرلندا الشمالية حملةً للمطالبة بالمساواة في الحقوق والتصويت والإسكان، كانت الحملة تناهض الحكومة البروتستانتية المسيطرة.

والحكومة سمحت بشكل غير مباشر للشرطة بقمع تلك المظاهرات الكاثوليكية، فدخلت البلاد في صراع طائفي أهلي يغذيه الطرفان. حينها قرر الجيش الجمهوري أن يُكون وحدات منه لحماية الكاثوليك المحاصرين في مقاطعات أيرلندا الشمالية.

لا يزال الجيش قائمًا

الانقسام في صفوف الجيش الجمهوري بات أعمق، وقررت القوات المؤقتة اللا نظامية أن تخلق الإرهاب في بريطانيا بالكامل، وأعلنت بدء ما أسمته بالحرب الطويلة. وبحلول عام 1994 كان الجيش الجمهوري الأيرلندي قد قتل قرابة 1800 فرد، منهم 600 مدني. وأصبح للجيش الأيرلندي 4 أسماء تدل على 4 أقسام، الجيش الجمهوري الأيرلندي الرسمي، والجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت، والجيش الجمهوري الأيرلندي الحقيقي، والجيش الجمهوري الأيرلندي المستمر.

في نهايات عام 1997 دخل جميع الأطراف في محادثات تفاوضية، وأقسم الجيش الأيرلندي على نبذ العنف والالتزام بالسلمية. وفي أبريل/ نيسان 1998 وصلت الأطراف إلى اتفاقية الجمعة العظيمة، أو ما عُرف باسم اتفاقية بلفاست. كان هدف الاتفاقية هو خلق حكومة جديدة تربط أيرلندا بأيرلندا الشمالية، ونصت الاتفاقية أيضًا على وقف التفويض الممنوح للجيش الجمهوري الأيرلندي بالقتال، واتفق الجميع أن أيرلندا الشمالية ستظل تابعة لبريطانيا طالما أن غالبية السكان ترغب في ذلك.

ورغم أن الجيش الجمهوري دمّر معظم أسلحته التزامًا بالاتفاقية، إلا أنه رفض تصفية مستودعاته بشكل كامل، ما أعاق تنفيذ الأجزاء الرئيسية من اتفاقية السلام. لكن في يونيو/حزيران عام 2005، أعلن الجيش الجمهوري إنهاء حملته المسلحة، وأعلن أنه سوف يتبع الوسائل السلمية فقط للوصول لأيرلندا موحدة.

لكن بعد 10 أعوام كاملة عاد الجيش الجمهوري للواجهة مرة أخرى حين أثبتت التحقيقات أن الهيكل التنظيمي للجيش الأيرلندي الثوري لا يزال قائمًا، حتى لو يكن يمارس عمله أو يخطط لتفجيرات مستقبلية إلا أنه على الأقل ما زال موجودًا وأعضاؤه في حالة اتصال مستمر مع بعضهم.

لكن بعد 4 سنوات عادت كلمات الجيش الجمهوري الأيرلندي للصحافة العالمية، لكن هذه المرة ترافقها كلمة الجديد. إذ أعلنت مجموعة أطلقت على نفسها الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد مسئوليتها عن مقتل صحافية أيرلندية شمالية تُدعى ليرا ماكي. وأرسلت المجموعة تعازيها لأصدقاء وأسرة الصحافية قائلةً بأنها قُتلت أثناء مواجهات بين الشرطة الأيرلندية ومجموعة من الجمهوريين المنشقين.

علاقات مع إيران والفصائل

في 20 أبريل/نيسان 2021، برز اسم الجيش الجمهوري مرة أخرى في عملية اغتيال مزعومة لضابطة من الشرطة الأيرلندية، وألقت الضابطة والشرطة الأيرلندية باللوم على الجيش الجمهوري الجديد، أو جماعة أخرى منبثقة عنه.

الهجمات المتكررة وضعت الجيش الأيرلندي في الواجهة مرة أخرى، خاصة حين زعمت بعض الصحف البريطانية ربطًا بين حزب الله وبين الجيش الجمهوري. كما تحدثت التقارير الاستخباراتية البريطانية عن نشاط مشترك بين الجيش الجمهوري الجديد وبين فصائل المقاومة الفلسطينية. وكشفت التقارير أن ممثلين عن الجيش سافروا للبنان عام 2018 للقاء قادة حزب الله، والحصول منهم على أسلحة.

شبهات التعامل مع حزب الله ازدادت قوة حين رصدت الاستخبارات البريطانية قيام عدد من قادة الجيش الجمهوري بزيارة السفارة الإيرانية في دبلن لتقديم التعازي في وفاة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، والذي قُتل في غارة في العراق في 3 يناير/ كانون الثاني عام 2021.

ليبدو أن الجيش الجمهوري الأيرلندي سيظل قائمًا، كما قالت التحقيقات البريطانية، حتى يشعر القائمون عليه أن بلادهم صارت قادرة على اتخاذ موقفها المستقل، والابتعاد التام عن الحظيرة البريطانية سواء بالحصول على الاستقلال الرسمي والوحدة النظرية لكافة مقاطعات أيرلندا، أو بالحصول على الاستقلال الفعلي والوحدة الحقيقية التي تمكن أيرلندا من مواجهة بريطانيا إذا استدعى الأمر.