كنا قد نشرنا سابقًا تقريرًا مفصلًا عن «قصة العسكر مع الثورة السودانية» رصدنا فيه تطور العلاقة بين قيادة الحِراك الثوري، المتمثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير، وبين المجلس العسكري منذ سقوط النظام في 11 أبريل/ نيسان وحتى انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات والتي تمت في 14 مايو/ آيار، وتوصل الطرفان فيها إلى اتفاق حول طبيعة وصلاحيات هياكل الحكم في الفترة الانتقالية.

وكان مضمون الاتفاق يتمحور حول خمسة أمور؛ هي تشكيل لجنة للتحقيق في حوادث الاعتداء على المواطنين، وتكون الفترة الانتقالية 3 سنوات، ويتم تخصيص الستة شهور الأولى لحل قضايا السلام والحرب في البلد، وأن تحصل قوى إعلان الحرية والتغيير على 67% من مقاعد المجلس التشريعي والبقية للأحزاب للأخرى، تكوين مجلس السيادة بالتوافق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير على أن تحدد صلاحيات هذا المجلس في الجولة الثانية من المفاوضات وقد أشيع بأن هذا المجلس سيكون تشريفيًا، وأن تنفرد قوى إعلان الحرية والتغيير بتشكيل مجلس الوزراء التنفيذي.

اقرأ أيضًا: حتى لا تموت الروح: قصة العسكر مع الثورة السودانية


الطريق إلى فض الاعتصام

بعد الوصول إلى ذلك الاتفاق شهد الشارع السوداني انقسامًا حول حدود الاعتصام وقضية تمدد المتاريس/ الحواجز حوله، وهو ما دفع المجلس العسكري لتعليق الجولة الثانية من المفاوضات حتى يوم الأحد 19 مايو/ آيار.

استأنف الطرفان الجولة الثانية من المفاوضات يوم 19 مايو واستمرت المفاوضات لأربع جلسات منذ الصباح وحتى الساعات الأولى من فجر يوم 20 مايو لحسم موضوعين؛ أولهما تحديد نسب تمثيل القوى المدنية والعسكرية داخل المجلس السيادي، وثانيهما تحديد الهوية المدنية أو العسكرية لرئيس ذلك المجلس. وبدا ظاهرًا للعيان أن ما أشيع من كون المجلس السيادي سيكون مجلسًا تشريفيًا لا سلطات له هو أمر غير صحيح وأن كل السلطات والصلاحيات ستكون بيد ذلك المجلس السيادي.

كما أن صلاحيات باقي هياكل الحكم – نعني الحكومة الانتقالية والمجلس التشريعي الانتقالي – لم يتم الإعلان عنها مع الاتفاق على النسب في كل واحد منها في الجولة الأولى من المفاوضات. بعد تلك الجلسات استمرت المفاوضات لأيام وبدا واضحًا صعوبة الوصول لاتفاق بين الطرفين.

وبعد خمسة أيام فقط من بداية الجولة الثانية عمد قادة المجلس العسكري إلى القيام بزيارات خارجية شملت السعودية والإمارات ومصر وهو ما عكس بصورة مباشرة المحاور الإقليمية الداعمة لهذا المجلس. فقد زار نائب رئيس المجلس العسكري، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الشهير بـ «حميدتي» المملكة العربية السعودية وعقد لقاءً مع ولي العهد محمد بن سلمان، صرح فيه بأن السودان يعمل مع السعودية ضد إيران والحوثيين.

أما الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري، فقد زار مصر يوم السبت 25 مايو وعقد لقاءً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تركزت مباحثاتهما حول مسارات الثورة السودانية وأهمية مكافحة الإرهاب في المنطقة. وفي يوم الأحد 26 مايو سافر البرهان إلى الإمارات حيث كان في استقباله الأمير محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية. وبعد ذلك بيومين سافر البرهان إلى السعودية للمشاركة في القمتين العربية والإسلامية بمكة المكرمة، وفي كلمته في القمة تحدث البرهان عن استمرار دعم السودان لقوى التحالف العربي في اليمن.

كانت الزيارات التي قام بها قادة المجلس العسكري سعيًا صريحًا لطلب الدعم من محور القوى الإقليمي الذي تترأسه السعودية والإمارات وتأكيدًا لولاء المجلس لهذا المحور، وهي في نفس الوقت تهدف لإرسال رسالة واضحة لقوى إعلان الحرية والتغيير بخصوص الدعم الإقليمي، وتصعيدًا ضد أي رفض داخلي لسيطرة المجلس العسكري.

وتغيرت لهجة قادة المجلس فيما يتعلق بمجريات الأمور في السودان بعد تلك الزيارات الخارجية، فبعد أن كان نائب المجلس العسكري، الفريق أول حميدتي، يتحدث عن أن المجلس العسكري يعمل مع الشارع السوداني، تغيرت نبرة خطابه لينتقد قوى إعلان الحرية والتغيير ويتهمها بالإقصاء لباقي القوى السياسية والاجتماعية، بل قام بتهديد المواطنين الذين سيشاركون في العصيان المدني بالفصل من العمل.

من جانبها قامت قوى إعلان الحرية والتغيير بإحداث تصعيد ثوري عن طريق الدعوة لإضراب وعصيان عام شمل عدة قطاعات يومي الثلاثاء والأربعاء الموافق 28 و29 مايو، وهو ما حقق استجابة كبير وسط العاملين في السودان. وفي رأينا فقد كانت مشاركة كثير من كوادر النظام السابق، التي تعمل في مؤسسات الدولة، في العصيان المدني من الأسباب المباشرة لنجاح ذلك العصيان وهو ما دفع نائب المجلس العسكري لتوجيه رسالة خاصة لتلك الكوادر حينما قال: «في ناس كثار من الكيزان، الآن عايزين ينضموا وعايزين يقولوا هم مع الثورة. نقول ليهم: والله تنضم ولا ما تنضم، إنت بتتحاسب بتتحاسب، ولو راجي الجماعة ديل يحاسبوك (يقصد ناس قحت) فبقول ليك نحن ديل البنحاسبك». والذي يظهر من هذا التصريح أن حميدتي يهدد كوادر النظام السابق أو الإسلاميين السابقين العاملين بالوزارات والذين دعموا الإضراب.

هذه الحادثة تشرح لنا بصورة مباشرة طبيعة الثورة المضادة في السودان والفرق بينها وبين الثورة المضادة في مصر في نقطتين:

أولًا، نقطة الاتفاق بين الثورة المضادة في مصر والسودان، هي أن النظام السابق (البشير في السودان، وحسني مبارك في مصر) سمح للمؤسسة العسكرية بأن تبني شركات واستثمارات خاصة بها وأن تتغول في الاقتصاد وفي المجالات التجارية الحيوية في البلد. وبالتالي أصبحت المؤسسة العسكرية مؤثرة في الاقتصاد اليومي وطريقة إدارته.

ثانيًا، نقطة الفرق الجوهرية بين الثورة المضادة في مصر والسودان تكمن في طبيعة تغول النظام السابق في مؤسسات ووزارات الدولة، ففي مصر كان التغول يتم عن طريق ضباط الأمن المتقاعدين؛ بمعنى أن نظام مبارك كان يعتمد على الضباط المتقاعدين في تعييناته لإدارة المحليات أو الوزارات أو الشركات التابعة للدولة، ولذلك فقد كانت المؤسسة العسكرية في مصر مسيطرة على الاقتصاد من ناحية، وعلى دولاب الدولة من ناحية أخرى.

وبالتالي ففرصة نجاح الإضراب في مصر كانت ضعيفة جدًا. أما في السودان فإن تغول النظام السابق في دولاب الدولة تم عن طريق كوادر المؤتمر الوطني وكوادر الإسلاميين ولم يكن عن طريق المؤسسة العسكرية. ومن المهم أن نعرف أن جزءًا كبيرًا من هؤلاء الكوادر، منذ 2011، قد تخلى عن أفكار النظام السابق وبدأ في كثير من المراجعات الفكرية (على سبيل المثال، مذكرة الألف أخ في 2011، ثم مبادرة سائحون في 2012، ثم الحركة الوطنية للتغيير في 2013، ثم انقسام غازي صلاح الدين في 2014، ثم تكوين حركة 52 في 2015، وآخرها تكوين تنسيقية الإسلاميين التي دعمت الثورة).

اقرأ أيضًا: علاقة مضطربة: الحركة الإسلامية والجيش في السودان

النتيجة الطبيعية لذلك هي أن المؤسسة العسكرية في السودان لم تستطع أن تسيطر على دولاب الدولة، بل قام عدد كبير من الإسلاميين الموجودين في دولاب الدولة بدعم الثورة. فعلى سبيل المثال قام عدد من النقابات السابقة والتي كان يسيطر عليها كوادر النظام السابق عندما أعلن المجلس العسكري عن فك تجميدها، قامت من نفسها بحل نفسها لصالح نقابات شرعية منتخبة وأكدوا أنهم جزء أصيل من الثورة السودانية، وهذا ما حدث بالضبط لنقابة العاملين في بنك السودان المركزي وفي عدد من المؤسسات.


منطقة كولومبيا وفض الاعتصام أمام القيادة العامة وتبعاته

منطقة كولومبيا هي منطقة تقع بالقرب من منطقة الاعتصام، تحولت مع الزمن لمكان يقطنه بعض بائعي ومروجي المخدرات والخمور ووجد في بعض أجزائها تحرش لفظي أو جسدي بالمارين عبرها. دار جدال بين المشاركين في الاعتصام حول كون هذه المنطقة تقع داخل حدود الاعتصام أم لا واختلف الناس حولها. واستغل المجلس العسكري الممارسات الخاطئة التي تتم في تلك المنطقة لإحداث تصعيد أمني، فأصدر بيانًا صحفيًا في 31 مايو ينص فيه على أن المجلس العسكري «إزاء تلك التطورات التي تهدد الأمن والسلامة العامة فإن مكونات المنظومة الأمنية ستعمل وفق القانون بما يضمن سلامة المواطنين والعمل بحسم مظاهر الانفلات الأمني والقانوني وردع المتفلتين»، وبعد ذلك بيومين فقط قام المجلس العسكري عبر قوة مشتركة من قوات الدعم السريع ومن الشرطة وقوات جهاز الأمن والجيش بفض الاعتصام في صبيحة 3 يونيو/ حزيران وخلفت أحداث الفض والقمع التي صاحبها أكثر من 100 قتيل، بالإضافة إلى الجرحى وحالات اغتصاب لبعض النساء.

صُدم الشارع السوداني من هول الفاجعة التي حدثت في آخر يوم من أيام رمضان وفقدان الناس معنى العيد أو الفرح، وتحولت الخرطوم إلى مدينة أشباح تجوب شوارعها السيارات والقوى العسكرية وينعدم فيها المشاة من عامة الناس، وتشم روائح الدم في كل زاوية من زواياها.

وحتى يقوم المجلس العسكري بتغطية هول الجريمة قام بقطع خدمات الإنترنت التي تقدمها شركات الاتصالات، كما قامت القوات المشتركة بممارسة القمع الشديد لأي شكل من أشكال التظاهر أو المقاومة، وقامت بتوزيع الجنود على الأحياء وعلى الطرقات والجسور لمنع أي بوادر تظاهر في الأيام التالية.

سياسيًا، قامت قوى إعلان الحرية والتغيير بإصدار بيان نص على إيقاف التفاوض مع المجلس العسكري وعلى تحميل المجلس العسكري لكل المسؤولية المتعلقة بالقتل والدماء، كما دعا إلى الإضراب السياسي والعصيان المدني الشامل والمفتوح اعتبارًا من يوم 3 يونيو 2019 وحتى إسقاط النظام، وهو ما حدث في أول يوم أحد بعد إجازة عيد الفطر وقد كانت نسبة المشاركة في ذلك العصيان المدني كبيرة من أغلب القطاعات والعمال.

في المقابل، أصدر المجلس العسكري بيانًا في 4 يونيو بعد مجزرة فض الاعتصام شمل إلغاء كل ما تم الاتفاق عليه مع قوى إعلان الحرية والتغيير بالإضافة إلى وقف التفاوض، كما شمل على الدعوة لانتخابات عامة في فترة لا تتجاوز تسعة أشهر من تاريخ البيان بتنفيذ وإشراف إقليمي ودولي، وأخيرًا اشتمل على نية المجلس العسكري في تشكيل حكومة تسيير مهام لتنفيذ مهام الفترة الانتقالية.

لكن وبعد يوم واحد فقط رجع المجلس العسكري عن مقترح الانتخابات المبكرة وعن مقترح تشكيل حكومة تسيير مهام ودعا القوى السياسية المختلفة للجلوس مرة أخرى على طاولة الحوار. كان رد قوى إعلان الحرية والتغيير قد جاء بعد يومين من الكلمة الثانية لرئيس المجلس العسكري، أي في 7 يونيو، ونص على ستة شروط رئيسية للعودة لطاولة التفاوض مرة أخرى مع المجلس العسكري وهي:

  1. تكوين لجنة تحقيق مستقلة ومسنودة دوليًا بصورة عاجلة للتحقيق في جريمة فض الاعتصام.
  2. الإنهاء الفوري لكل مظاهر قتل وترويع واستباحة ممتلكات وانتهاك حرمات المواطنين والتي تتم بشكل ممنهج من قبل مليشيات الجنجويد مع سحبها خارج نطاق كل مدن وقرى السودان.
  3. إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وأسرى الحرب.
  4. إطلاق الحريات العامة وحرية الإعلام ووقف كل الانتهاكات المرتبطة بالحق في التعبير والتنظيم والتجمع.
  5. رفع الحظر عن خدمة الإنترنت.
  6. الهدف من أي وساطة يجب أن يكون تدبير نقل مقاليد الحكم لسلطة انتقالية مدنية.

الوسيط الإثيوبي ومحاولة رأب الصدع

رفض المجلس العسكري أغلب الشروط التي طلبتها قوى إعلان الحرية والتغيير، وأمام هذا الرفض من الطرفين للعودة للتفاوض تقدم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمبادرة للوساطة بين قوى إعلان الحرية والتغيير وبين المجلس العسكري وهو ما قبلته كل الأطراف.

وصل آبي أحمد إلى الخرطوم يوم 7 يونيو في زيارة استغرقت يومًا واحدًا، جلس فيها مع المجلس العسكري ومع قوى إعلان الحرية والتغيير، وما زالت جهود هذه الوساطة تجري حتى هذه اللحظة. وفي أثناء هذه الوساطة دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط التأثير في مجريات الأمور، فقد أعلن مساعد وزير الخارجية الأميريكية للشئون الأفريقية تيبور ناج بأن الولايات المتحدة ليست لها أية أجندة في السودان سوى رؤية حكم مدني بعد 30 عامًا من الدكتاتورية، وأكد على مطالب عودة الإنترنت وسحب الوجود العسكري خارج ولاية الخرطوم وطالب بتحقيق مستقل وذي مصداقية، كما طالب أخيرًا بمحاسبة كل المسؤولين عن مجزرة فض الاعتصام. وطالب ناج قوى إقليمية معينة لم يسمها بالكف عن لعب الأدوار السلبية وعرقلة الانتقال الديمقراطي في السودان، وحذر كلا الطرفين من محاولة الإعلان عن حكومات منفردة لأن ذلك سيزيد من تعقيد الموقف. ومع تدخل أثيوبيا وأمريكا بالإضافة إلى دور الإمارات والسعودية، يبدو أن التأثير الخارجي في مسارات الثورة السودانية قد أصبح أكبر، مما يعني أن الوصول إلى تسوية داخلية أصبح أكثر اقترانًا بوصول الدول الخارجية المؤثرة في المشهد إلى تسوية سياسية فيما بينها.

بعد مجزرة فض الاعتصام وما حدث فيها من إزهاق للأرواح بدأ المجتمع الدولي والإعلام العالمي يهتم بقضية السودان وبدأت أصابع الاتهام تتجه نحو المجلس العسكري وقادته، وصدرت مئات التقارير والمقالات التي تدعو للتحرك ضد المجلس العسكري، بل تبنى كبار نجوم الفن في هوليوود قضية السودان. فقد بدأ جورج كلوني حملة في الولايات المتحدة الأمريكية لتتبع أرصدة المجلس العسكري وكبار ضباطه وتجميدها، كما قامت الفنانة ريهانة (Rihanna) بحملة توعوية بمخاطر وجرائم قوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان دقلو الشهير بـ «حميدتي».

اقرأ أيضًا: هل تنجح الوساطة الإثيوبية في حل أزمة السودان؟

وكانت قاصمة الظهر للمجلس العسكري تعليق الاتحاد الأفريقي لعضوية السودان بعد أحداث فض الاعتصام، وكاستجابة لردة الفعل القوية من المجتمع الدولي، عقد المجلس العسكري مؤتمرًا صحفيًا تنويريًا للصحافة العالمية والإقليمية لتوضيح ملابسات مجريات فض الاعتصام وما تلاه من أحداث، واستمر المؤتمر الصحفي لأكثر من ساعتين، سرد فيهما المجلس روايته وتقييمه للأحداث منذ سقوط رأس النظام السابق ودافع عن مشاركته في الثورة، واتهم قوى إعلان الحرية والتغيير بعدد من التهم.

والحقيقة بالرغم من وجود كثير من الهفوات في ذلك المؤتمر، إلا أنه كان واضحًا أن المجلس العسكري كان يخاطب المجتمع الدولي وليس المجتمع السوداني، في محاولة للدفاع عن نفسه من الهجمة القوية التي بدأها المجتمع الدولي ضده. كما قام المجلس العسكري بلقاء الأمين العام لجامعة الدولة العربية وممثليها في الخرطوم. كان ذلك في إطار سعي المجلس العسكري لشرعية سياسية أمام المجتمع الدولي الخارجي، أما داخليًا فقد انتهج المجلس العسكري آليتين لبناء هذه الشرعية السياسية؛ أولاهما بإحداث انشقاق بين القوى السياسية والمجتمعية والثورية وتكوين أجسام تآزر قضية استلام المجلس العسكري للسلطة، فقد ظهرت عدد من المبادرات التي أظهرت دعمًا للمجلس العسكري مثل مبادرة أساتذة الجامعات والكليات والمعاهد السودانية، كما قام المناضل أحمد الضي بشارة وأخوه مصعب والإعلامي أكرم يعقوب وغيرهم بتكوين جبهة شبابية «تجمع شباب السودان الثوري» تنتقد قوى الحرية والتغيير، وظهرت مبادرة حزب اتحاد قوى الأمة (اقم)، كما أعلن الناظر يوسف أحمد يوسف أبوروف، ناظر عموم قبائل رفاعة الهوي، تكوين اللجنة التمهيدية للحزب الأهلي السوداني الذي يفترض أن يمثل مصالح الإدارات الأهلية.

أما الآلية الثانية التي انتهجها المجلس العسكري لبناء شرعيته السياسية فقد كانت المخاطبات الجماهيرية في الريف السوداني، فقد قام نائب المجلس العسكري، حميدتي، بلقاء جماهيري حاشد بمنطقة قرى بالريف الشمالي هاجم فيه قوى إعلان الحرية والتغيير واتهمها بإيقاف التفاوض وأن قادته لا يسعون لمصلحة المواطن السوداني، وكشف عن 50 ألف وظيفة سيتم الإعلان عنها خلال الفترة القادمة، كما طلب من الأهالي تفويضًا شعبيًا حتى يستطيع المجلس العسكري أن يرسم مسار التحول الديمقراطي في السودان.

كل ذلك يجعل من الخطوات التي يتبعها العسكر في السودان شبيهًا جدًا بما حدث في مصر. وخلاصة القول هنا أن المجلس العسكري يعمل على قدم وساق في بناء شرعية سياسية داخلية، وقبول واعتراف خارجي، مع الصعوبات التي يواجهها في بناء شرعية أمام المجتمع الدولي، لكن لو استمرت وتيرة الأمور بالطريقة الحالية، مع وجود الدعم الإقليمي للمجلس، فلن يملك المجتمع الدولي، الذي يهتم باستقرار المنطقة أكثر من اهتمامه بالديمقراطية، إلا أن يعترف بالمجلس العسكري وقادته كما حدث في مصر بالضبط!

في المقابل، فإن قوى إعلان الحرية والتغيير في أشد حالات ضعفها لعدد من الأسباب:

  1. فقدان ورقة الضغط الرئيسية والتي كانت تتمثل في اعتصام القيادة العامة.
  2. صعوبة ترتيب العصيان المدني مرة أخرى؛ لأن عددًا من المؤسسات الاقتصادية والقطاعات التابعة للمؤسسة العسكرية قد قامت بمحاسبة كل من شارك في العصيان المدني السابق وتم تهديدهم بالفصل، كما أن التأييد الثوري الذي صاحب العصيان الأول بسبب مجزرة فض الاعتصام من الصعب الحصول عليه مجددًا.
  3. أصيب بعض السكان والمواطنين بالإرهاق والتعب من طول العملية السياسية وتبعاتها على مجريات الحياة اليومية، وخصوصًا طبقة التجار وعمال اليومية.
  4. قطع الإنترنت سيجعل من عملية التنسيق والدعوة للمظاهرات أكثر صعوبة، خصوصًا مع ضعف خطوات تكوين النقابات العمالية الشرعية.
  5. وجود خلافات داخل قيادة قوى إعلان الحرية والتغيير نفسها حول عدد من القضايا المتعلقة بتكوين الحكومة الانتقالية وطريقة تكوين المجلس السيادي الانتقالي.
  6. عدم قدرة قوى الحرية والتغيير على القيام بأي تصعيد ثوري في صورة مظاهرات أو عصيانات مدنية أو إغلاق للطرق والجسور، لأن هذا من ضمن الشروط التي ذكرها المجلس العسكري للوساطة الإثيوبية ووافقت عليها الحرية والتغيير حتى تستمر عملية التفاوض.

تبدو السيناريوهات المستقبلية عصية على التنبؤ في الوضع الحالي، فمن الصعب على المجلس العسكري الانفراد بالسلطة وإعلان حكومة انتقالية من طرفه في ظل التهديد الأمريكي وبسبب التبعات المكلفة على هذا القرار (على الأقل في الوقت الراهن)، كما لا تملك قوى إعلان الحرية والتغيير أي موازين أو كروت ضغط تجعلها قادرة على فرض شروطها في عملية التفاوض الجارية، كما يبدو أن الدول الخارجية المؤثرة على المشهد السوداني غير متوافقة على رؤية معينة وهو ما يزيد من تعقيد المشهد.

ستكون الأيام القادمة كفيلة بإزالة بعض الضباب الذي يمكن بعد انقشاعه التنبؤ ببعض المسارات المستقبلية للثورة السودانية، لكن الواجب المنزلي الذي ينبغي على قوى إعلان الحرية والتغيير القيام به إذا أرادت أن تتحرك من موقع رد الفعل إلى صناعة الفعل والذي تحدثنا عنه في المقال السابق ما زال غائبًا، فما زالت قوى الحرية والتغيير تفتقر إلى الوفاق الداخلي، وما زالت تتجاهل الكثير من المكونات السياسية والاجتماعية غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير وهو ما يؤثر بصورة مباشرة على التوافق السياسي للقوى الفاعلة في الحِراك الثوري في السودان.