لطالما تساءلت عن سبب تلك الجلبة التي يحدثها بعض دارسي الهندسة بخصوص التقليل من شأن دارسي العلوم الطبية أو البيولوجية عموما .. والتي أحبها وأستمتع بها كثيرا رغم أني من الفئة التي يتم التقليل من شأنها 🙂

إلا أني بعد أن رأيت آخر التعليقات بهذا الشأن وكان: «I feel as Stupid as medical student» لم أجد بداً من كتابة هذا المقال ..


من أيام كنت في محاضرة تخص علوم هندسة الفضاء والطيران، وبينما يتحدث المحاضر عن تاريخ الطيران بدءًا من فكرة عباس بن فرناس إلى مراحل تطبيقها وأول تجربة ناجحة ومن ثم التفكير في غزو الفضاء .. وبعد عرض لتجارب عدة وأسباب فشلها ثم ضغط على زر جهاز التحكم الخاص بشاشة العرض قائلا :«و بذلك كانت أول رحلة إلى كوكب المريخ عام 1971».

قالها وكانت قد ظهرت في الخلفية صورة لكوكب المريخ وقد حطت عليه مركبة فضاء ، الصورة أثارت في ذاكرتي ما جعلني أقول سريعاً «لا .. بل عام 2001، فأنا زرت هذا المكان من قبل» ومع نظرات دهشة واستنكار ممن كان يجلس بالكرسي المجاور والذي لم يسمعني غيره لانخفاض صوتي حمدا لله أردت فقط أن أقول، أها بالفعل زرته ووطأت قدمي أرضه؛بل تكررت الزيارة عدة مرات، ففي صغري كنت شديدة الولع بأفلام الخيال العلمي عموماً والمتعلقة بالفضاء خصوصاً كنت أتفنن في مشاهدة الفيلم والتدقيق في أبسط تفاصيل المريخ و المركبة من الداخل، وأقرأ المزيد ثم أنام لأحلم بها وقد رسم خيالي مغامرات أكبر و أماكن أكثر على الكوكب الأحمر.

أعتقد أنه ما من طفل إلا وارتسمت في مخيلته علامات استفهام عن ماهيته وحلم بأنه رائد فضاء وما من إنسان إلا ومتشوق لربما زيارة حقيقية واحدة ! تجربة واحدة تكشف لنا عن غموض ولو جزء من هذا العالم الكوني المجهول لنا أغلبه، من منا لم ينبهر بمحقق أحلام البشرية إلون ماسك وشركته «SpaceX»، وأفكاره الإبداعية المجنونة ، ولا يطير فرحا وزهولا لدى فهمه للنظرية التي تفسر فكرة عمل جهاز أو تطبيق ما وتثيره تطبيقات الذكاء الاصطناعي والنانوتكنولوجي وما إلى ذلك .

عفواً .. حتى دارس البيولوجي يفهم ويقدر تلك الأشياء!

الآن ..


نظرة على العلوم البيولوجية

«الخلية» سيدة الموقف هنا فهي وحدة بناء جسم الإنسان، والإنجاز في هذا المجال يسمى اكتشاف.

على سبيل المثال جائزة نوبل للطب 2016م ذهبت لاكتشاف نظرية الالتهام الخلوي، وهي على روعتها يمكنك كدارس هندسة فهم آلية الالتهام الخلوي ببساطة وسهولة بقراءات ليست كثيرة، لكن قبل أن تتسرع و تفكر بإطلاق أحكام على العلوم الإحيائية ككل والاستهانة بها، فكر أولاً في الكيفية التي توصل العالم بها لاكتشافه أو التجربة التي صممها ليحصل على نتائج أكيدة بشيء يخص كيان على قدر هائل من الدقة والتعقيد كالجسم البشري متقن الصنع مراعياً كل الأخلاقيات بحيث لا تمتلك رفاهية التجريب بحرية إذا ما تعلق الأمر بإيذاء إنسان.

وصدقوني الأمر هنا لا يتعلق بكم الإثارة والانبهار قدر ما يتعلق بالوله الحقيقي في تقديم رسالة إنسانية، مفادها لن أجعلك تتألم وسأبذل قصارى جهدي لأجلك، والتي تخلق في حد ذاتها لحاملها إثارة وشغف لاكتشاف المزيد في سبيل تأديتها تفوق شغفه بسبر أغوار الجسم البشري وفك ألغاز عالم الخلية واختراقه حتى عالم الجينوم المبهر 🙂


نظرة على العلوم الهندسية

الذرة هي البطلة هنا فهي وحدة بناء المادة، ندرسها بعمق نفهم خصائصها وإمكانية تعديلها، نصممها فنخلق شيئاً من العدم.

Wow، يا له من شيء مبهر!

وعلى مستويات مختلفة من الذرة أو المواد التي تملأ الكون تنشأ العلوم الهندسية من نظريات فيزيائية ورياضية و تتفرع لتعطي مجالات تطبيقية مختلفة من علوم النانوتكنولوجي، علوم الحاسب إلكترونيات وبرمجيات بكم الدقة والتفاصل التي تحتويها، الروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المذهلة، حتى نصل لهندسة الفضاء وعالم ما وراء التليسكوب والحلم باكتشاف الكون، تتطور النظريات بأفكار مختلفة لتعطي تطبيقات تحمل أسماء أجهزة ابتكارات اختراعات تخدم كافة المجالات بما فيها العلاجية المتقدمة.

لذا فدارس البيولوجي مصر أن يكون على رأس أهدافه تحقيق إنجاز يحد من ألم إنسان ما.. وفي الوقت ذاته لن يكف عن حلمه بزيارة الفضاء ولن يخمد توقه لفهم المزيد من الحقائق الفيزيائية والانبهار بها، وعلى الجانب الآخر لن يكف باحث الهندسة عن شغفه بتحقيق انبهارات أياً كان مجاله ترضي تطلعه الإنساني الطبيعي لكل ما هو جديد.. وفي ذات الوقت يوم أن يتألم لوعكة ما فلن يجدي معه سوى اكتشاف بيولوجي يعيده لحالته الطبيعية ليسعد بمتابعة ممارسة الفيزياء والرياضيات مرة أخرى .

وأخيرا لن يتوقف كلاهما عن الحاجة لدارسي الإنسانيات والأدبيات وعلوم النفس والفنون التي تغذي روح العالم..

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.