شكل وباء كورونا المستجد أزمة متعددة الأبعاد للقارة العجوز. كانت الأزمة الصحية أهم تلك الأبعاد، لا سيما في دول مثل إيطاليا وإسبانيا، التي تعرض نظامها الصحي لأزمة كبيرة؛ في إيطاليا حتى تاريخ كتابة هذا التقرير هناك ما يقرب من 130 ألف إصابة بالفيروس ونحو 17 ألف حالة وفاة، مما يجعلها في المركز الأول عالميًا من حيث عدد الوفيات.

إسبانيا هي الأخرى تأثرت بقوة بالوباء واحتلت المركز الثاني عالميًا في عدد الوفيات بعد إيطاليا. اختلفت بالطبع استجابة الدول الأوروبية المختلفة للأزمة فبينما حقق الألمان نجاحات جيدة في مكافحة الوباء بفعل التحليل المبكر والمكثف، كان الفشل من نصيب دول أخرى.

تلك الاستجابات المختلفة تجعلنا نفكر في التفاوتات بين قدرة الدول الأوربية على التعامل مع مثل تلك الأزمات. بالطيع هناك تفاوت، لكن الأهم أنه يضع أمامنا أسئلة كثيرة عن مستقبل الاتحاد الأوروبي. 

في هذا المقال نسعى للإجابة على سؤال رئيسي؛ هل تعمق الأزمة الحالية من الركود السياسي الطويل للاتحاد الأوربي والتي كان آخرها في 2016 عندما صوت البريطانيون على الخروج من عباءة بروكسل؟ ما الذي تعنيه الأزمة للوحدة الأوربية التي تبدو معرضة للخطر في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضي؟ وهل يمكن أن نشهد خروج دول أخرى من الاتحاد في عالم ما بعد كورونا؟ 

أزمة سياسية مستمرة

مثّل انتشار وباء كورونا الجديد أزمة متعددة الأبعاد، أزمة اقتصادية عنيفة تضرب الأسس الاقتصادية للاقتصاد الإنتاجي في الدول الأوروبية والعالم كله تقريبًا، وأزمة اجتماعية كشفت عن الهشاشة الاقتصادية للمليارات من البشر في مواجهة مثل تلك الجوائج، لكن في الاتحاد الأوربي كان هناك بُعد واضح، هو البُعد السياسي.

يُعاني الاتحاد الأوروبي أزمةً سياسية منذ ما يقرب من عقد تقريبًا، هناك حالة من الضجر بين دول مختلفة داخل الاتحاد. أسهمت تلك الحالة في صعود اليمين الشعبوي في إيطاليا واليونان وبولندا والمجر، وغيرها من الدول الأوربية. 

بدأت تلك المعضلة من أزمة الديون السيادية في أوروبا في 2009 و2010 والسنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية. كانت دول البيجز (PIGS) الخمسة التي تضررت بفعل الديون وهي: إيطاليا، اليونان، البرتغال وإسبانيا وأيرلندا  تستدين بنوكها ومؤسساتها المالية من البنوك الأوروبية في فرنسا وألمانيا، بالتالي حين تعثرت اليونان وبعدها تعرضت للإذلال الأوروبي على أيدي ألمانيا تحديدًا عن طريق فرض إجراءت تقشف صارمة من قبل الاتحاد، خافت تلك الدول على وضعها في الاتحاد.

لم تشهد تلك الدول صعوداً كبيراً لليمين الشعبوي فيما عدا إيطاليا، وبالتالي لم يكن ثمة شعور بضرورة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في تلك الدول. لكن الضربة جاءت من بعيد، من الشمال حيث بريطانيا ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوربي، التي صوتت في يونيو/ حزيران 2016 على الخروج من الاتحاد. ما زال الاتحاد الأوروبي حتى الآن يتعافى من آثار البريكست الاقتصادية.

في ظل ذلك التوتر السياسي اجتاح فيروس كورونا أوروبا، كان العالم ينتظر ألا يؤثر الفيروس كثيرًا على الدول الأوربية، فمعظم الدول هناك تمتلك منظومة جيدة من الرعاية الصحية، لكن الفيروس وجد طريقه لكبار السن في قارة تشتهر بزيادة معدلات الأعمار.

مع زيادة حالات الإصابة والوفيات في الدول التي دخلها الفيروس في البداية مثل إيطاليا، غاب التكامل الأوروبي بشكل كبير، سيطر على الجميع حالة من الرعب جراء الانتشار السريع للوباء، مما دفع الجميع للتركيز على الداخل وليس على التكامل الأوروبي.

ظل ذلك الانغلاق على الداخل سائدًا حتى منتصف مارس/ آذار، حينما بدأت ألمانيا في إرسال مساعدات طبية لإيطاليا المتضررة بشدة بفعل الوباء. كانت إيطاليا قد طلبت أكثر من مرة من مركز تنسيق الاستجابة للأزمات – وهو هيئة أوروبية الغرض منها تقديم الدعم لدول الاتحاد المتضررة في الأزمات – معدات طبية ومعدات تعقيم، لكن الاستجابة من كل الدول الأوربية تقريبًا كانت محدودة.

نفس الحال مع إسبانيا، التي كتب رئيس وزرائها بيدرو سانشيز مقالًا يحذر فيه من غياب التضامن الأوروبي في هذا الوقت وتأثير ذلك على مستقبل الاتحاد الأوروبي. هناك دائمًا خطاب اليمين الشعبوي المعادي للاتحاد الأوروبي لكن هذا الشعور بالخيبة من غياب التضامن الأوروبي في هذا الوقت أصبح واضحًا للجميع ويقطع الطيف السياسي كله تقريبًا، فـبيدرو سانشيز هذا اشتراكي داعم للوجود في الاتحاد الأوروبي.

وحتى لاحقًا حينما سارعت ألمانيا التي اتضح أنها تمتلك أكثر النظم الصحية قدرة على التعامل مع الوباء لاستقبال مصابين من إيطاليا وإسبانيا لم يخفف ذلك كثيرًا من حدة الأزمة في الدول التي تأثرت بشدة بفعل الوباء. كان غياب هذا التضامن أيضًا فرصة جديدة لليمين الشعبوي للدفع في اتجاه استغلال سياسي للوباء لنقد المؤسسات الأوروبية التي تراخت عن نجدة تلك الدول المنكوبة، وانتقاد حرية الحركة بين الدول في منطقة اليورو التي أتاحت انتشارًا سريعًا للفيروس في أوروبا جميعها بعد إيطاليا.

أيضًا كان التراخي فرصة لاستعراض الصين تأثيرها المتزايد على أوروبا، خاصة في إيطاليا البلد الذي يمتلك استثمارات صينية كبيرة، ومهم لخطة الصين في التوسع العالمي عبر مشروع طريق الحرير الجديد.

التضامن أم الاقتصاد؟

لم يكن التضامن الأوروبي يومًا هو الفكرة المحركة للاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن الحديث عن غياب هذا لتضامن اليوم وتفكك الاتحاد كنتيجة أو حدوث أزمة سياسية كبيرة فيه يبدو حديثًا مثاليًا. تحركت الدول الأوروبية بالأساس لإنشاء هذا الاتحاد من منطلق مصالحها المشتركة. بالتأكيد ستؤثر حالة غياب التضامن تلك على النزعة المعارضة للاتحاد خاصة في دول مثل إيطاليا، والتي تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية حتى قبل كورونا لكن كورونا لن يكون الحاسم في وضعية الاتحاد ما بعد كورونا.

تشكل الاتحاد الأوروبي بالأساس بوصفه اتحادًا اقتصاديًا وسوقًا أوروبية مشتركة. ذلك التكامل الاقتصادي الذي كان ناجحًا في أحيان كثيرة، فالمزارع في إسبانيا وفرنسا تغذي المصانع في ألمانيا دون تعريفات جمركية. ومع الوقت كان الانتقال السهل للبضائع يعني حركة أسهل لرؤوس الأموال.

استفادت دول الشمال والجنوب الأوروبي من تلك التسهيلات، لكن ثمة مشكلة جوهرية. كان تمويل النمو في السنوات الأخيرة في دول الجنوب الأوروبي تحديدًا، إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، معتمدًا على الاقتراض من البنوك الأوروبية الكبرى في الشمال. هذا الاقتراض ما لبث أن توقف، أو بالأصح تم وضع عراقيل كبيرة أمامه بعد أزمة الديون اليونانية. ظهرت ألمانيا لتقود الاتحاد نحو عصر التقشف والرشادة المالية، وهو ما جعل تلك الدول في الجنوب تحت ضغط التقشف الدائم.

لكن في ظل تلك الأزمة الاقتصادية أعلن البنك المركزي الأوروبي عن حزمة من الإجراءات الخاصة بمواجهة تداعيات الوباء على الاقتصاد، أهم تلك الإجراءات هو ضخ 750 مليار يورو من أجل شراء ديون الحكومات والشركات الأوربية وتوفير السيولة اللازمة لمواجهة الأزمة الاقتصادية. أيضًا من المرجح أن تطرح في الأيام المقبلة خطة أخرى، والتي سمتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بخطة مارشال الجديدة.

لم تتم مناقشة الخطة بشكل كامل أو إقرارها حتى الآن لكن الخطة من المتوقع أن تضخ قرابة المائة مليار يورو من أجل دعم الحكومات الأوروبية الأكثر تضررًا من كورونا عبر قروض سيادية مخفضة تمكنها من معالجة الآثار قصيرة الأجل لكورونا، لكن تلك الحزمة التحفيزية غير كافية خاصة لدول مثل إيطاليا وإسبانيا اللتين تستمران في حالة الإغلاق الكامل للاقتصاد منذ فترة.

بالتالي تتزايد الدعوات من أجل السماح لتلك الدول بالحصول على تمويلات وقروض منخفضة الفائدة من الاتحاد الأوروبي، أو إصدار سندات مقومة باليورو في الأسواق الدولية بدعم من الاتحاد الأوروبي وهو ما تعارضه ألمانيا كثيرًا، فطالما دافعت ميركل وحلفاؤها الكبار كفرنسا عن استراتيجية أكثر عقلانية في الاستدانة خاصة في الدول التي يتجاوز فيها الدين العام نسبة كبيرة من الناتج المحلي. يتحرك الألمان من منطلق أن تلك التسهيلات من الممكن أن تعمق من أزمة الديون في دول مثل إسبانيا وإيطاليا.

كيف يمكن أن تتغير أوروبا بعد الأزمة؟

يعاني الاتحاد الأوربي من أزمات متراكمة، وثمة تجاذبات سياسية كبيرة، ليس فقط بسبب صعود اليمين الشعبوي، ولكن تجاذبات حول الدور الذي تلعبه ألمانيا وفرضها لرؤيتها الاقتصادية خاصةً فيما يتعلق بالديون في دول الجنوب.

أيضًا يضع صعود اليمين الشعبوي في تلك الدول ضغوطاً كبيرة على المؤسسة الأوروبية، لكن العامل الأكبر في بقاء الاتحاد حتى الآن هو المزايا الكبيرة للدول للوجود فيه، فالنفاذ السهل للأسواق وتكلفة التجارة المنخفضة وارتباط سلاسل الإنتاج الأوربية اليوم أسهل من أي وقت مضى.

بالتالي يتحكم الاقتصاد في النهاية في بقاء الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي. لكن وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعانيها العالم جراء تفشي كورونا فإنه من الصعب في الوقت الحالي توقع أي مستقبل ينتظر الاتحاد الأوروبي. يرتبط ذلك المستقبل بالقدرة على إظهار القوة والتضامن الاقتصادي في إنقاذ الدول المتضررة بشكل كبير، وهو ما قد يجعل تلك الدول الغاضبة الآن من تأخر الاستجابة الأوروبية للوباء تضع ذلك الغضب جانبًا من أجل الاستفادة من المساعدات الاقتصادية من الدول الأغنى وتحديدًا ألمانيا وفرنسا.

تكشف الأزمة الحالية عن ضعف شديد في النسخة الأوروبية من العولمة، تلك النسخة التي قامت بالأساس على التكامل الاقتصادي بين الدول وتبادل المنافع لكن في وقت الأزمات العميقة مثل تلك التي نعيشها نجد تلك الدول تتقهقر للداخل وتنغلق على نفسها. 

لم يستطع العالم تجاوز الدولة الوطنية بوصفها الإطار الأكثر اكتمالًا لإدارة حياة البشر خاصة في وقت الأزمة، وهو ما تكشفه أزمة أوروبا الحالية، فالمؤسسات البيروقراطية غير المنتخبة في بروكسل لم تستطع إجبار الهياكل المؤسسية للدول الوطنية على تقديم المساعدات الطبية للدول الأكثر تضررًا، بالتالي يقف العالم اليوم في ظل عولمة اقتصادية تؤسس لمؤسسات وشركات عابرة للحدود بينما تظل المؤسسات السياسية التقليدية كما هي. عولمت النيوليبرالية الاقتصاد لكنها فشلت في عولمة السياسة، وتلك الأزمة هي أحد عوارض فشل عولمة السياسة.