مع تزايد القصف الوحشي الإسرائيلي لقطاع غزة تحت مُسمى رد الفعل وحق الدفاع عن النفس، تزايدت الانتهاكات الإسرائيلية في حق المدنيين. تلك الانتهاكات لم يحتملها عديد من مواطني العالم فخرجوا للساحات يرفضونها. لكن من أبرز المظاهرات الرافضة لتلك المجازر مظاهرة يقوم بها اليهود أنفسهم.

فقد شارك المئات من أعضاء الجالية اليهودية في نيويورك في وقفة احتجاجية دعت إليها منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام. اللافتات المرفوعة في تلك الوقفة كانت تتنوع بين مطالب بإيقاف الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين، والمطالبة بإيقاف الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل، واللافتة الأبرز كانت تقول إن الصهيونية إرهاب. وهتف اليهود المجتمعون مطالبين إسرائيل أن تتوقف عن تبرير جرائمها بأنها تفعل ذلك باسم اليهود.

المفاجئ أن تلك المنظمة لا تنبثق من فراغ، بل من حركة أكبر تُدعى ناطوري كارتا، أي حارس المدينة. الحركة مناهضة للصهيونية منذ لحظة تأسيسها عام 1935. يطالب أعضاؤها إجمالًا بإنهاء احتلال فلسطين، وإعادة الأرض لأصحابها، ويرى الأعضاء أن إسرائيل لا تمثل اليهودية. يبلغ أعضاء الحركة قرابة 5 آلاف عضو يتوزعون في نيويورك ولندن والقدس.

من أبرز أسباب وجود تلك الحركة إدراكهم أن فلسطين ككل، والمقاومة الفلسطينية خصوصًا، لا تعادي اليهود بل تعادي الصهاينة. ولأن الحديث يدور حاليًا حول فصيل واحد من فصائل المقاومة، حركة المقاومة الإسلامية حماس، بعد قيامها بعمليتها النوعية الأخيرة طوفان الأقصى، فمن المهم معرفة موقف حماس وقادتها وجنودها من اليهود بوصفهم يهودًا فحسب.

من أبرز تلك المواقف الواضحة هو تصريحات الشيخ أحمد ياسين الذي أكد أن المقاومة لا تطلب أكثر من حقها. وأنهم يطلبون بيوتهم المغتصبة، وأرضهم التي استولى عليها الاحتلال. وأضاف أنه، والمقاومة من ورائه، لا يكرهون اليهود لأنهم يهود، وأن اليهود أهل دين، والمقاومة أهل دين كذلك. وأردف الشيخ أن أخاه أو ابن عمه إذا استولوا على بيته وماله فإنه لن يتردد في قتالهم، حتى وهم يتشاركون معه في الدين والدم. وأن ياسين يحب الخير لليهود، وأن اليهود عاشوا سنوات طويلة جنبًا إلى جنب مع الفلسطيني، دون أن يؤذيهم المسلمون أو يعتدوا عليهم.

وأنه على العكس من ذلك، وصل اليهود إلى مناطق عليا في الحكم والوزارات. ويكرر الشيخ القاعدة التي ينطلق منها أنه لا يكره اليهود، لكن يطالبهم بإعادة الحقوق التي سلبوها منهم.

وعلى نهج المؤسس سارت الأجيال اللاحقة. فالحركة تكرر على مدى السنوات الماضية نفيها معاداة اليهود. ففي عام 2006 خرج المسئولون الأمريكيون باتهامات لحماس بأنها تستهدف اليهود في كل العالم، لا في فلسطين وحدها. كان ذلك ضمن معركة إعلامية ضد المقاومة. كما قالت الإدارة الأمريكية أن حماس مرتبطة بتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن.

صرّح سامح أبو زهري، الناطق الإعلامي باسم حماس وقتذاك، بأن الحركة تعادي الاحتلال الإسرائيلي ولا مشكلة لها مع أتباع الديانة اليهودية حول العالم. وأضاف زهري أن حماس تحصر قتالها داخل الساحة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي الموجود في أرضها. وأكد الرجل أن تلك التصريحات التي تطلقها الولايات المتحدة من حين لآخر هدفها تشويه صورة المقاومة مع كل إنجاز نوعي تقوم به، وتبرير قيام إسرائيل بعشرات المجازر الوحشية.

كذلك خرج خالد مشعل عام 2008 ،رئيس المكتب السياسي لحماس في ذلك العام، ينفي عن حماس معاداة اليهود، أو أنها ترغب في إلقائهم في البحر. مشعل قال تلك التصريحات لصحيفة لوفيجارو الفرنسية. وأردف أن كثيرًا من اليهود يقولون إن حماس ترغب في إلقائهم في البحر، وأكد أن هذا ليس صحيحًا، وإن حماس لا تعادي على أساس الدين أو العرق.

لم يكن الأمر مجرد نفي، بل في عام 2019 خرج عضو المكتب السياسي لحماس، فتحي حماد، في خطاب جماهيري. وفي وسط الخطاب قال إنه يمكن استهداف اليهود في كل العالم، وتوزيع أحزمة ناسفة على متظاهري مسيرات العودة. بالطبع يمكن تخيّل كيف تلقفت الحركة الصهيونية، وإسرائيل، تلك الكلمات. وأعادت تدويرها على أبناء شعبها لتبرير مزيد من الحصار على غزة.

لكن بعيدًا عن المردود العمليّاتي للتصريحات، فإن الحركة قد سارعت للإعلان عبر موقعها الرسمي ما يشبه التبرؤ الكامل من تلك التصريحات ودلالتها ومضمونها. الحركة قالت إنها توقفت عند تلك التصريحات وتؤكد أنها لا تمثل الموقف الرسمي للحركة. وأضاف البيان أن سياسة الحركة المعتمدة والثابتة تنص على أن الصراع مع الاحتلال الذي استولى على الأرض ودنس المقدسات، وليس صراعًا مع اليهود في العالم كله، ولا مع اليهودية كدين. وأكد البيان ذلك الموقف بالتذكير بمواقف سابقة للحركة استنكرت فيها استهداف اليهود في أماكن عبادتهم.

وهو ما أكدته الحركة في الوثيقة الرسمية التي تمثل دستور الحركة. أنها تفرق بين اليهود كأهل كتاب وكدين، والصهيونية كاحتلال. وإن صراع الحركة مع الأخير فحسب، ومع كل من يحاول الاعتداء على الشعب الفلسطيني أو انتزاع أرضه أو اغتصاب حقوقه. وأكدت الحركة أن اضطهاد أي إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومي أو ديني أو طائفي ليس من في مبادئها. وترى الحركة أن اضطهاد اليهود بوصفهم يهودًا ظاهرة ارتبطت بشكل أساسي بالتاريخ الأوروبي، لا بتاريخ العرب والمسلمين.

وكلام المقاومة يؤكده التاريخ. فلم تشارك حماس أو المقاومة العربية أو الإسلامية في إبادة اليهود، ولم تقاتل أي فرد في العالم لكونه يهوديًا فحسب. بل شارك المسلمون والعرب في عمليات خطيرة لمساندة اليهود في ظل الحكم النازي، وجازف عديد منهم بحياتهم لإنقاذهم من الهولوكوست. كما أن المقاومة الفلسطينية تتعامل بأخلاق عالية مع أسراها من الجنود المقاتلين، رغم حملهم للسلاح، فمن البديهي أن تحسن معاملة غير الجنود، حتى لو كانوا يهودًا.