شعر بضيقٍ وتوتُّرٍ جارفيْن، فقد تأخَّر أكثر من نصف ساعةٍ عن الموعد الهام الذي انتظره لأشهر، رغم أن القلقَ والهواجس قد أيقظته باكرًا قبل الموعد بوقتٍ كافٍ، لكنَّه أحرقَ الوقتَ الثمينَ هباءً منثورًا بنيران وساوسه المعتادة. أكثر من 10 دقائق لغسل اليديْن حتى أوشكَ جلدهما على الانسلاخ، ثم تكرار الوضوء ست مرات، بعضها حتى يتيقَّن من سلامة خطوات الوضوء، والبعض شكًّا في انتقاض طهارته أثناء الصلاة، والتي أعادها أربع مراتٍ فحسب!

منذ سنواتٍ وهو يعاني من مثل تلك الوساوس، والتي يرفضها تفكيره عقليًّا ودينيًّا، وتفتح عليه جحيم جلد الذات لما تسببه من ضررٍ فادح لثقته بنفسه، ومواعيده المهمة، وبرنامج حياته اليومي، لكنه يجد نفسه ضعيفًا للغاية وعاجزًا في مواجهتها كنملةٍ في مهب الريح.

اشتكى مرارًا لأصدقائه ومن يثق في عقلهم وخبراتهم دون جدوى، واستفتى عشرات المشايخ، الذين أجمعوا على أن هذه الوساوس من الشيطان، وأن عليه ألا يلتفت لها، ونصحه عدد منهم باستشارة الطبيب النفسي، لكن ذلك الاقتراح كان مُحرجًا ومُقلقًا له حد الألم، فوصمة الذهاب للطبيب النفسي – كما يظن – ستظل تلاحقه، كما أنه يعتقد أن الأدوية النفسية التي سيصفُها له الطبيب حتمًا ستغيرُ في كيميائية مخه، وقد يظل مدمنًا لها للأبد.

ما هو الوسواس القهري؟ وما أبرز أعراضه؟

القصة التي صدَّرنا بها هذا المقال هي نموذج يتكرر يوميًّا لدى الآلاف من مرضى الوسواس القهري، المعدود بين أشهر الاضطرابات النفسية وأكثرها انتشارًا، حيث يمكن أن يصيب الكبار من الجنسيْن أو الأطفال، لكنه في غالبية الحالات يظهر في سن المراهقة المتأخرة، أو بواكير الشباب.

 والوساوس القهرية التي تعتري المريض قد تكون مجرد أفكار ملحة، كأن يظن في قرارة نفسه أنه مدنَّس أو غير مؤمن … إلخ، رغم أنه في الواقع ليس كذلك، أو قد تكون أفعالًا ملحة، مثل الهوس بالنظافة الشخصية بتكرار غسل اليديْن أو الاستحمام … إلخ. ودائمًا ما تكون محاولة مقاومة تلك الوساوس صعبة ومؤلمة نفسيًّا، وباعثة على القلق والاضطراب.

ولكي يتأكد التشخيص فلابد من استشارة الطبيب النفسي المختص، الذي سيقوم بدوره بالنقاش مطوَّلًا مع المريض حول الأعراض، ومدى تأثيرها على نمط حياته اليومية، ومدى الضرر المادي والمعنوي الذي تتسبَّب فيه.

ويجب هنا التمييز بين مرض الوسواس القهري والشخصية الوسواسية، التي تتسم بالانضباط الشديد، والدقة الفائقة، والاهتمام الاستثنائي بالتفاصيل. وعلامة المرض هو تأثيره السلبي الكبير على الحياة اليومية، وفاعلية الشخص، ورضاه عن نفسه، وثقته في ذاته، ولذا، فالمرض لا بدَّ أن يُعالَج، بينما الشخصية تُعدَّل وتُطوَّر وتُطوَّع.

ويجب كذلك عدم التسرع في اتهام النفس بالوسواس القهري لمجرد سلوك وسواسي عابر، كأن يراجع المرء غلق باب الشقة بالمفتاح مرتين أو ثلاثة،  فمريض الوسواس القهري سيجد نفسه مدفوعًا لمراجعة الأمر عشرات المرات في ضغط نفسي حقيقي، وبشكل يؤثر على وقته ونظام حياته.

اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟

كيف يمكن التخلص من الوسواس القهري؟

أولى خطوات التخلص من الوسواس القهري هي ألا يتردَّد المريض في اللجوء للطبيب النفسي المختص، وألا يخجل من أن يصف له المشكلة بجميع تفاصيلها دون تهوين أو تهويل. وحسن انتقاء الطبيب النفسي والمعالج النفسي هو الركن الركين في مواجهة الوسواس القهري.

أحد أبرز التحديات التي تواجهنا في علاج الوسواس القهري أن البحث العلمي الطبي حتى اللحظة لم يصل إلى أسباب قاطعة لتفسير الإصابة بالوسواس القهري، يمكن بعلاجها التخلص التام من الوسواس القهري. ما نعرفه أن أرجح الأسباب هو تفاعل لعوامل متعددة، مثل العوامل الوراثية، والسمات الشخصية، والتعرض لخبرات حياتية صادمة، مثل الأحداث المأساوية، بالأخص في سن الطفولة، والمشاكل الأسرية العويصة، والتعرض المستمر للضغوط العصبية.

رغم ذلك، فمرض الوسواس القهري من أفضل الأمراض النفسية استجابة للعلاج النفسي، والذي يتمثَّل بطائر له جناحيْن، أحدهما هو العلاج الدوائي، والآخر هو جلسات المعالجة النفسية لا سيَّما العلاج النفسي السلوكي CBT. ولكن يتطلَّب الأمر بعض الصبر، ففترة العلاج قد تدوم لأشهر أو بضع سنوات في بعض الحالات الأكثر تعقيدًا، لا سيَّما التي يكون فيها المرءُ مصابًا باضطرابٍ نفسي آخر أو أكثر إلى جانب الوسواس القهري.

العلاج الدوائي

غنيٌّ عن الذكر أن العلاجات النفسية الدوائية لا تُوصَف إلا من خلال الطبيب النفسي المختص بعد استشارةٍ وافية، ولا تؤخَذ بناءً على نصيحة صديق، أو تجربة شخصية لأحد المعارف. فالاستجابة لدواء معين تتباين كثيرًا من مريض لآخر.

وأفضل المجموعات الدوائية النفسية في علاج الوسواس القهري هي مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية SSRIs، والتي تُعتبر حاليًّا أشهر مضادات الاكتئاب استخدامًا، وهي في المجمل عقاقير فعَّالة، آثارُها الجانبية عديدة لكن مُعظَمها غير خطير، وتتحسَّن مع الوقت. وغالبًا يحتاج الدواء الانتظام عليه لمدة لا تقل عن شهريْن أو ثلاثة حتى تظهر فاعليته، فإذا فشل أحد تلك العقاقير في تحقيق النتيجة المرجوَّة، أو كانت الأعراض الجانبية له غير مقبولة بالنسبة للمريض، يقوم الطبيب النفسي المختص باستبدال عقار آخر به ومتابعة المريض جيدًا. ومن أشهر عقاقير تلك المجموعة التي تُستَخدَم في حالات الوسواس القهري السرترالين والفلوكستين.

وقد يلجأ الطبيب النفسي في بعض الحالات الصعبة إلى إضافة عقار آخر من مجموعة العقاقير غير النمطية المضادة للذهان atypical anti-psychotic مثل عقار الآريببرازول الفعَّال ضد الوسواس القهري، وذلك لتحسين فرص السيطرة على المرض.

وتحتاج العقاقير النفسية إلى الانتظام الشديد على الجرعة اليومية؛ لأن التوقف المفاجئ، ولو لجرعة واحدة، قد يسبب تدهورًا سريعًا في أعراض الوسواس القهري، وتأخُّر الوصول إلى مرحلة السيطرة الفعَّالة على المرض.

اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.

العلاج النفسي 

أبرز أنواع العلاج النفسي ذات الفاعلية في علاج الوسواس القهري هو العلاج النفسي السلوكي CBT، والذي يتضمن جلسات عديدة مطوَّلة مع المعالج النفسي المختص، والذي يتحدث مع المريض لساعات لاكتشاف جذور الوسواس القهري، ونقاط ضعف الشخصية، والانفعالات غير الإيجابية، والسلوكيات السلبية … إلخ، وبناءً على هذا النقاش البنَّاء يتبنَّى المريض أفكارًا أكثر إيجابية، تعزز ثقته بنفسه، وقدرته على التحكم في انفعالاته وسلوكياته.

ويتضمن العلاج النفسي تدريبات عملية فعَّالة، من أهمها (التعرُّض ومنع الاستجابة) حيث يُواجَه المريض بما يسبب له الوسواس القهري، مثل الأتربة للمصابين بوسواس الهوس بالنظافة الفائقة، ويُدرَّب على كيفية مقاومة الرغبة الجامحة في القيام برد الفعل الوسواسي تجاهها، وخلال بضعة أشهر من التدريب المستمر، يصبح المريض أكثر سيطرةً على وساوسه، وأقل تضررًا منها في حياته اليومية.

ومن ضمن أنماط العلاج النفسي المفيدة في السيطرة على الوساوس القهرية، العلاج الجدلي السلوكي DBT لا سيَّما ما يتضمنه من تدريبات على مهارات التركيز الذهني الفائق mindfullness، والتي تساعد في السيطرة على الأفكار الوسواسية الملحة وتزاحم الأفكار وتشتُّتها.

ولوحظ في حالات عديدة أن العلاج النفسي الفعال تظهر نتائجه الإيجابية على المريض أسرع من العلاج الدوائي، وقد لا يحتاج بعض المرضى للعلاج الدوائي من الأساس.

طرق علاجية خاصة

وهناك بعض طرق العلاج الأحدث، والتي يُلجَأ لها في الحالات المستعصية غير المستجيبة للعلاج الدوائي والنفسي التقليدييْن، مثل التحفيز المغناطيسي للدماغ، باستخدام جهاز يُوضَع على الرأس، يقوم بإنشاء حقول مغناطيسية تعدل النشاط الكهربي لمناطق محددة بالدماغ، من أجل تهدئة أعراض الوسواس القهري. وهذا العلاج مُصرَّح به من منظمة الغذاء والدواء الأمريكية FDA.

 وهناك نمط علاجي مشابه، لكنه أكثر خطورة وتعقيدًا، ولذا فنادرًا ما يُستَخدم، حيث يُترَك للحالات الأكثر استعصاءً، وهو التحفيز العميق للدماغ، والذي يتضمَّن زرع أقطاب كهربية داخل الدماغ عبر الجراحة، وذلك لتعديل النشاط الكهربي لبعض مراكز الدماغ المسئولة عن ظهور أعراض الوسواس القهري.

عوامل مساعدة على التخلص من الوسواس القهري بمختلف أنماطه:

  • أنماط التدين الإيجابية، المتوازنة بين الترغيب والترهيب، والتي لا تدفع الشخص إلى الهوس بالتفاصيل الدقيقة في الطقوس والعبادات.
  • توافر الدعم الأسري، ومن دائرة الأصدقاء، أثناء فترة العلاج النفسي.
  • تنظيم الحياة اليومية بشكل متوازن بين واجبات العمل والدراسة، وأوقات الراحة والهوايات الممتعة والأنشطة الاجتماعية.
  • تعزيز الثقة بالنفس.