محتوى مترجم
المصدر
The Conversation
التاريخ
2020/11/26
الكاتب
نيك نورمان

احتفل الجدول الدوري للعناصر -الذي أنشأه بشكل رئيسي الكيميائي الروسي «ديمتري مندليف» (1834-1907)- بالذكرى السنوية الـ150  لتأسيسه في العام الماضي. ولعله من الصعوبة بمكان أن نغض الطرف عن أهميته كأساس تنظيمي لعالم الكيمياء، فما من كيميائي ناشئ إلا ووجب عليه أن يحيط به علماً ما أن تطأ قدماه معمل الكيمياء، ونظراً لأهمية الجدول الدوري للعناصر، قد يتقبل المرء ما يعتقده البعض من  أن الكيفية التي رُتبت بها العناصر داخله، لم تعد قابلة للنقاش، ومع ذلك، فقد نشر عالمان روسيان في موسكو، مؤخراً، اقتراحاً بنسخة جديدة من الجدول الدوري للعناصر.

لكن أولاً تعالوا نسترجع في عجالة المراحل التي مر بها الجدول الدوري للعناصر، حتى وصل إلى صورته الحالية، التي تُطالعنا دومًا على جدران قاعات الدروس ومعامل الكيمياء حول العالم.

بحلول أواخر القرن الثامن عشر، أصبح الكيميائيون على يقين من الفرق بين العنصر والمركب: كانت العناصر غير قابلة للتجزئة كيميائياً (مثل الهيدروجين والأكسجين) في حين تتكون المركبات من عنصرين أو أكثر متحدين معاً، مما يمنح تلك المركبات خصائص متميزة تماماً عن عناصر مكوناتها.

وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، تواترت الأدلة الظرفية لتؤكد على وجود الذرات. ومنذ ستينيات القرن التاسع عشر، أصبح من الممكن سرد العناصر المعروفة بحسب كتلتها الذرية النسبية، على سبيل المثال، كان الهيدروجين 1 والأكسجين 16.

ورغم أن ترتيب العناصر بهذا الشكل في قوائم بسيطة- أحادية البعد- لا ينبئنا بكثير عن العلاقات فيما بينها، فإن الكيميائيين كانوا يدركون أن بعض العناصر لها خصائص كيميائية مماثلة إلى حد ما: على سبيل المثال هناك علاقة ما بين الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم، وكذلك الحال بالنسبة للكلور والبروم واليود.

بدا واضحاً لعلماء الكيمياء حول العالم أن شيئاً ما يتكرر، ومن خلال وضع عناصر متشابهة كيميائياً بجانب بعضها البعض، أمكن بناء جدول ثنائي الأبعاد.

كانت تلك لحظة ميلاد الجدول الدوري، ولعله من سالف القول أن نُذكِّر القاري أن تصميم جدول منديليف الدوري اعتمد بشكل أساسي على ما لاحظه العلماء من أوجه التشابه في الخواص الكيميائية بين عناصر معينة من خلال التجارب المعملية، في حين تأخر الفهم النظري لبنية الجدول والسر وراء ترتيب العناصر إلى أوائل القرن العشرين، بعد تأسيس بنية الذرة وتطور نظرية الكم.

اليوم يتم ترتيب العناصر في الجدول الدوري الحديث بناء على العدد الذري (عدد الجسيمات المشحونة إيجابياً وتُسمى البروتونات في النواة الذرية)، بدلاً من الكتلة الذرية، ومع ذلك يظل التشابه الكيميائي بين عناصر كل مجموعة من الثمانية عشر مجموعة التي تشكل الجدول الدوري الحديث واضحاً. ويرجع ذلك إلى تكرار ترتيب الإلكترونات في مداراتها حول ذرات العناصر بصورة دورية، مما يؤدي إلى تماثل عدد الإلكترونات في المستوى الخارجي لعناصر كل مجموعة. وبحلول الأربعينيات من القرن العشرين، كانت معظم الكتب المدرسية تتضمن جدولاً دورياً مماثلاً للجداول التي نراها اليوم، كما هو مبين في الشكل أدناه.

الجدول الدوري للعناصر.

ربما اعتقد البعض حينها أننا قد وصلنا لنهاية الحكاية، وأن تلك النسخة هي الصورة النهاية للجدول الدوري الحديث، إلا أن الأمر ليس بتلك البساطة ورغبة البشر في التجديد لا تتوقف، يكفي أن تقوم ببحث بسيط على الإنترنت لترى بعينيك جميع أنواع الإصدارات من الجدول الدوري الحديث؛ إصدارات قصيرة، وأخرى طويلة، إصدارات دائرية، وبعضها حلزوني، وأيضاً إصدارات ثلاثية الأبعاد. ومن المؤكد أن العديد من هذه السبل هي ببساطة طرق مختلفة لنقل نفس المعلومات، ولكن لا تزال هناك خلافات حول المكان الذي ينبغي وضع بعض العناصر فيه. يعتمد الموضع الدقيق لبعض العناصر على الخصائص المعينة التي نرغب في إبرازها. وهكذا، فإن جدولاً دورياً يعطي الأولوية للهيكل الإلكتروني للذرات يختلف عن الجداول التي تكون المعايير الرئيسية لها خصائص كيميائية أو فيزيائية معينة.

هذه الإصدارات لا تختلف كثيراً، ولكن هناك عناصر معينة- الهيدروجين على سبيل المثال- التي يمكن للمرء أن يضع بشكل مختلف تماماً وفقاً لخاصية معينة واحدة ترغب في تسليط الضوء. بعض الجداول تضع الهيدروجين في المجموعة 1 بينما في البعض الآخر يجلس في قمة المجموعة 17؛ بل إن بعض الجداول تضعه منفرداً في مجموعة خاصة به وحده. ولكن، على نحو أكثر جذرية، يمكننا أيضاً أن ننظر في ترتيب العناصر بطريقة مختلفة جداً، وهي طريقة لا تنطوي على عدد ذري أو تعكس البنية الإلكترونية، العودة إلى قائمة أحادية البعد.

مقترح لجدول جديد

آخر محاولة لترتيب العناصر بهذه الطريقة تم نشرها، مؤخراً، في مجلة الكيمياء الفيزيائية من قبل العلماء «زاهد اللهياري» و«أرتم أوغانوف». تعتمد هذه المحاولة، وبناءً على إسهامات العلماء السابقين، على تمييز كل عنصر بما يُسمى «رقم مندليف» MN.

هناك عدة طرق لاستخلاص مثل هذا الرقم، ولكن الدراسة الأخيرة تستخدم مزيجاً من اثنين من الكميات الأساسية التي يمكن قياسها مباشرة: نصف قطر العنصر الذري وخاصية تسمي السالبية الكهربية التي تصف مدى قوة الذرة لتجذب الإلكترونات لنفسها. وإذا قام المرء بترتيب العناصر بواسطة MN، فإن أقرب جيرانهم لديهم، على نحو غير مفاجئ، يحملون قيماً ماثلة إلى حد ما. ولكن الأمر الأكثر أهمية لاتخاذ هذه الخطوة هو بناء شبكة ثنائية الأبعاد على أساس MN من العناصر المكونة ممّا يُسمى «مركبات ثنائية». هذه هي المركبات التي تتألف من عنصرين، مثل كلوريد الصوديوم NaC1.

الفائدة المهمة لهذا النهج هي المساعدة في التنبؤ بخصائص المركبات الثنائية التي لم تتشكل بعد. وهذا مفيد في البحث عن مواد جديدة نحن بحاجة ماسة إليها من أجل التكنولوجيات القائمة والمستقبلية على حد سواء. وفي الوقت المناسب- لا شك- سيتم توسيع نطاق الجدول ليضم تلك المركبات التي يدخل في تكوينها أكثر من عنصرين.

وربما يطلعنا الجدول الدوري المبين أدناه على أهمية البحث عن مواد جديدة، فهو لا يطلعنا فقط على الوفرة النسبية للعناصر (كلما كان الصندوق أكبر لكل عنصر، كان العنصر أكثر توافراً على الأرض)، ولكنه يُسلِّط الضوء أيضاً على قضايا التوريد المحتملة ذات الصلة بالتكنولوجيات الأساسية في حياتنا اليومية.

جدول الوفرة النسبية للعناصر.

خذ الهواتف المحمولة، على سبيل المثال، كما ترى في تلك العناصر المستخدمة في تصنيعها (تم تمييزها في الجدول برمز الهاتف) أنها أصبحت نادرة، وربما يصعب الحصول عليها مستقبلاً، فإذا ما أردنا تطوير مواد بديلة تتجنب استخدام عناصر معينة، فإن الأفكار المكتسبة من ترتيب العناصر تبعاً لقيمة MN الخاصة بهم قد تكون ذات قيمة في هذا البحث.

بعد 150 عاماً، من ظهوره أصبح واضحاً أن الجداول الدورية ليست مجرد أداة تعليمية حيوية، فأهميتها الكبرى تعود إلي دورها الكبير في مساعدة الباحثين في سعيهم للحصول على مواد جديدة أساسية. من هنا وجب التفكير في إصدار نسخ جديدة للجدول الدوري الحديث، لا لتحل محل تلك النسخ السابقة، بل سعياً إلى تعميق فهمنا لسلوك تلك العناصر.