الضمان والعدالة قيمتان متسقتان لا ينفصلان، ومن دون الضمان الاجتماعي فإن أي حديث عن تحقيق العدالة يبقى ضرباً من الخيال وزيغاً عن الحقيقة، ولكن في الرأي المقابل فإن العدالة والضمان الاجتماعي متناقضان لا يتسقان، فالعدالة الحقيقية تقتضي ألّا يحصل أولئك الذين يمثلون «عالة» على المجتمع من نصيب أولئك الذين يعملون بجد واجتهاد ويكافحون من أجل تحسين ظروفهم.

إن كلاً من مفهوم العدالة والضمان الاجتماعي يثيران جدلاً واسعاً في أوساط الفلاسفة والمفكرين، ولكل منهم تاريخ طويل من السجال، فقد يرى البعض أن العدالة من إنشاء الإنسان ومن المشكوك به أن تُصنع بطريقة واحدة، ولكن العدالة هي العدالة كما كانت وستكون واحدة لا وجه ثاني لها، فهي المساواة في توزيع الخيرات العامة، وهي المساواة في التوزيع بشكل أكثر عمومية، حتى أولئك الذين لا يعملون والعاطلون عن العمل والأطفال وكبار السن والنساء اللاتي لا يستطعن العمل… إلخ، جميعهم لهم الحق في خيرات وثروات مجتمعاتهم بالتساوي، وهذا ما نسميه الضمان الاجتماعي، إنه برنامج الحماية الاجتماعية المنصوص عليه في التشريع، أو أي ترتيب إلزامي آخر، يُوفِّر للأفراد درجة من أمن الدخل عندما يواجهون حالات الطوارئ.

ولكن في كثير من الأحيان وفي العديد من البلدان، وعلى وجه الخصوص الدول النامية، لا تقوم الدول بتوفير برامج الضمان الاجتماعي من أجل الحماية، الأمر الذي يترتب عليه في كثير من الحالات آثار سلبية علي بنية المجتمع، فحينما لا يجد الفرد عملاً، وحينما لا تُقدِّم له دولته الإعانة، فانه سيجوع، وحينما يجوع الإنسان فما السبل التي سيسلكها من أجل أن يحصل على الطعام؟ الإجابة ببساطة هي أي طريق، وهذه الإجابة تقودنا مباشرة إلى تلك الآثار التي يمكن أن تُفتِّت النظام الاجتماعي وبنيته الأساسية.

يستعرض هذا المقال فرضيتين تتناولان قضية العدالة والضمان الاجتماعي، ولكل منهما مقولاته وأدلته التي تؤكد مصداقية طرحه وعلاجه للمشكلة، مع محاولة إبراز كل جوانب القوة والضعف لكل طرح.

الفرضية الأولى: الضمان الاجتماعي من أجل تحقيق العدالة

من دون الضمان الاجتماعي ستتردّى قيمة انتماء الفقراء والعاطلين للوطن، وكذلك مكانتهم الاجتماعية، مثلما تردّى الاعتراف القانوني بحقوقهم، وتم تجاهل الضمان الاجتماعي كحق طبيعي من حقوق المواطنة، وأن لكل مواطن الحق في ثروات بلده القومية، وبدلاً من ذلك أُلقيت المسئولية على المجتمع لتقوم الجمعيات الخيرية بهذا الدور بتقديم المعونة الاجتماعية، فهو يجعل المستفيدين بهذه المعونة أقل شأناً دون سواهم، وهو ما يؤدي بدوره إلى وصم الفقراء مجتمعياً.

في بداية ظهور الرأسمالية اتخذت شعار «منْ لا يعمل لا يأكل» و«دعه يمر… دعه يمر»، ربما كان هذا صحيحاً قبل عصر الآلات، ولكن اليوم فإن الناس يقفون في الطوابير بالساعات والأيام والسنين من أجل فرصة عمل وبعضهم يحصل عليها والبقية تناضل من أجل العيش، ألا يجب أن يأكل هؤلاء لأن ليس لديهم عمل؟! أم نتركهم يموتون! غير عابئين بمأساة هؤلاء، الآباء المسنين الذين بلغوا من الكبر عتياً، والذين أفنوا سنواتهم في خدمة الوطن بماذا نكافئهم؛ أنتركهم على أرصفة المدينة والشوارع يتوسلون الرغيف! ذلك الرجل والمرأة اللذين لا يستطيعان العمل بسبب الإعاقة، ألا ينبغي أن يحصلوا على شيء؟

قبل أن تَشرُع الدول في تولي مسئوليات متزايدة عن الضمان الاجتماعي لمواطنيها، كان يقع على عاتق المؤسسات الخاصة أن تقوم بدور في التخفيف من حدة الفقر الناتج بالأساس من الخلل في التوزيع، وغالباً ما كانت تلك الجمعيات تحصل على تمويلها من مجموعة من الأثرياء، الذين نظروا إلى تبرعاتهم على أنها عمل تطوعي أخلاقي وصدقة من أجل الرب، وحين تغيب تلك الجمعيات الخيرية فإن الأسر هي التي تتحمل الواجب الأول في حماية أفرادها من التضور جوعاً والفقر المدقع.

لكن حينما بدأت الثورة الصناعية وحلت الآلات محل اليد العاملة، فإن جيشاً من العاطلين أصبح يبحث عن عمل، ناهيك عن أولئك الذين يعملون في بيئة تتسم بالمخاطر، مما قد يتسبب لهم في إعاقات مستدامة تمنعهم من استئناف عملهم. وخلال تلك الفترة تم تبني تصور «يرى أن عدم التدخل لتنظيم أوضاع العمال سيُحفِّز استعدادهم وقدراتهم وطاقتهم الإبداعية اللازمة لمواجهة ما قد يتعرضون له من أخطار». وقد ثَبُت خطأ هذه النظرة، إذ كان همُّ العمال الأول والأوحد حينذاك هو البقاء على قيد الحياة من اليوم إلى الغد، ولم يكن لديهم الوقت الكافي للنظر في حالات الطوارئ بعيدة الأجل؛ فتكاليف الحياة الحاضرة لا ريب فيها وتتطلب تلبيتها فوراً مما يمنحها الأولوية على الإدخار لما يخبئه الغد من احتمالات؛ بل لم يكن لديهم ما يدخرون لمواجهة المخاطر الوشيكة للمرض أو البطالة.

تتحدث الراهبة الإيرلندية «ماري لانغان» عن التعتيم على المزايا الخاصة لفكرة تقديم المعونات، وهو التعتيم الذي تمارسه بعض الدول لتتلكأ في تنفيذ برامج الحماية الاجتماعية، حيث قالت عن هذا التعتيم إنه:

أدى إلى سقوط عدد متزايد من الذين يعتمدون على الرعاية الاجتماعية في هوة الفقر، والاتجاه إلى حرمان البعض من المعونة؛ واستبعادهم، بمعنى من المعاني، من المجتمع. ولقد تجلَّت هذه الاتجاهات بأوضح صورها بين الشباب ومنْ يعول أطفاله وحده، رجلاً كان أم امرأة، وهي الفئات التي تستهدفها برامج «العمل مقابل الرعاية»، وبين المسنين الذين أصبحوا ضحايا الهبوط المفاجئ في قيمة معاشات الدولة، وكذلك التوسع في نظم معاشات القطاع الخاص المشكوك في قيمتها. ومن اللافت للنظر أن تتعرض هذه الفئات أيضاً للحط علناً من مكانتها، وهو ما اتخذ صوراً بالغة الصراحة في الهجوم على شباب الشحاذين أو الأمهات ممّنْ يعيشون على الرعاية الاجتماعية، واتخذ صوراً خبيثة في تعبير «القنبلة الزمنية السكانية» الذي يُستعمَّل في الإشارة إلى المسنين باعتبارهم يمثلون تهديداً لسائر أفراد المجتمع. [1]

الفرضية الثانية: الضمان الاجتماعي لا يمكن أن يكون آلية للعدالة

المحاججة الرئيسة هنا تستند إلى عدة مقولات:

  • إن الضمان الاجتماعي يحبط الرغبة في العمل الجاد.
  • الضمان الاجتماعي يلغي أهم سبب للإنسان لكي يعمل (البقاء)، وبالتالي يُضعِّف رغبة الفقراء في العمل.
  • تعويض العمالة عن العمل يجب أن ينتهي.
  • نظام المعونة كان كارثة؛ الأفضل من ذلك أن تمنح الرجل عملاً، لكن لتفعل ذلك يجب إحياء الاقتصاد وليس إرهاقه بالضرائب، والتي تذهب للعاطلين.

تلك المقولات هي الدعامات الأساسية التي يستند إليها أصحاب هذا الاتجاه، فهم يُحمِّلون الفقير نتيجة فقره، وبالتالي، فإن كل الضمانات الاجتماعية التي تُوجه إليه من دافعي الضرائب فهي ضد العدالة الطبيعية، وضد قوانين الطبيعة، وتزيد من مخاطر التفجر الناتج عن الزيادة السكانية في مقابل تباطؤ النمو، ويدعم تلك الحجة ثلاث فلاسفة بثلاثة أفكار رئيسية هي:

  • تشارلز داروين (البقاء للأصلح أو البقاء للأقوى والانتقاء الطبيعي).
  • توماس مالتوس (القنبلة السكانية في مقابل نقص الغذاء).
  • هربرت سبنسر (القانون الطبيعي).

وضع فيلسوف علم الأحياء «تشارلز داروين» نظريته عن الانتقاء الطبيعي أي: أن التغيرات المحبذة للبقاء في مجموعة من الأحياء تتجه نحو البقاء، بينما تتجه التغيرات غير المحبذة إلى الموت، وتكون النتيجة هي ظهور سلالات جديدة. بمعنى اجتماعي واقتصادي أكثر، أن نمو شركة كبيرة وعملاقة (مهما كانت أسباب هذا) هو مجرد بقاء للأصلح، وأنه لا يمكن أن تصبح شركة (فرداً، مجموعة… إلخ) ما على هذا النحو إلا بالتضحية بالبراعم المبكرة التي تنمو حولها، وهذا ليس اتجاهاً شريراً، وإنما مجرد إنفاذ لقانون الطبيعة. إن هذا الأساس هو الذي يُبرِّر- أخلاقياً- أن المليونيرات هم ببساطة نتاج الانتقاء الطبيعي، وهم الوكلاء المختارون للمجتمع، وأنهم بالرغم مما حصلوا عليه فإن المجتمع يجب أن يكون شاكراً لهم بسبب الأعمال التي يقومون بها، والتي اختارتهم الطبيعة ليقوموا بها. [2]

إذاً قوانين الطبيعة هي التي أدت إلى توزيع الثروة، وأي نضال يخوضه الإنسان ضد الطبيعة فالخسارة نتيجة حتمية، لذا فالفقر نتيجة حتمية لبعض الناس لا مفر منه، ولكن ازدياد نسب الفقر من الممكن أن تؤثر على المجتمع وهو قنبلة تنفجر في أي لحظة في وجه الجميع. «توماس مالتوس» وضع تفسيراً وحلاً للقضية، ولكن الحلول لم تكن أبداً تستند إلى أرضية أخلاقية، بل استندت إلى تلك الواقعية الفجة.

«توماس مالتوس» هو اقتصادي شهير اكتسب تلك الشهرة بسبب نظريته عن النمو السكاني (المثيرة للجدل)، فالعقبة الحقيقية نحو المستقبل والمساواة عند مالتوس هي الزيادة السكانية، حيث إن الزيادة السكانية أسرع من زيادة وسائل وضروريات الحياة، بمعنى أن تعداد أي دولة يمكن أن يتضاعف كل 25 عاماً، وفقاً للتراتبية التالية: زيادة البشر في المدن بمعدل (1، 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، وهكذا…)، وأمام هذه المعدلات في الزيادة السكانية سيكون معدل نمو الغذاء: (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، وهكذا…). بهذه الطريقة صاغ مالتوس نظريته عن الزيادة السكانية والنمو الاقتصادي، ولكن إذا استمرت المعدلات تسير وفقاً لنظرية مالتوس، فلماذا لم يحدث الانفجار السكاني في المدن؟!

توماس أجاب عن هذا السؤال إجابة مروعة: أن ما قيّد وحدّ من حدوث هذا الانفجار هو الضوابط شبه الطبيعية، وهي ارتفاع المعدلات في الوفيات الناتج عن المجاعات والفقر والأوبئة والحروب، لكن مع التقدم التكنولوجي واكتشاف علاجات لتلك الأوبئة الحاصدة للأروح، مالتوس ابتكر وسيلتين أخريين هما: تأخير سن الزواج وبيوت البغاء. [3]

الفيلسوف الثالث الذي ساند هذا الاتجاه هو «هربرت سبنسر»، وتتلخص نظريته حول التجليات الاجتماعية والاقتصادية لنظرية تشارلز داروين عن الانتقاء الطبيعي، حيث يري أن قوانين الطبيعة هي الأكثر تنظيماً واتزاناً من تلك التي أنتجها الإنسان، وعليه فإن البشر لا ينبغي أن يتدخلوا في توجيه التقدم الطبيعي، فقوانين الطبيعة كفيلة بتنظيم كل شيء، وبالتالي فإن نتائج هذا حتماً ستكون أفضل للبشرية.

كما كان يساور سبنسر القلق بشأن توزيع الدخل، فهو يرى أن فرض ضرائب تصاعدية بمعدلات مرتفعة على الأغنياء وبدرجة أقل على الفقراء، يُمثِّل إلقاء عبء دعم الطبقات الأدنى على حساب الطبقات الأعلى.

تأسيساً على ذلك، فإن الضمان الاجتماعي الذي يقدم في صورة مساعدات للفقراء، سواء عن طريق الإعانات الخاصة أو العامة، قد أعاق- بشكل يتعذر إصلاحه أو إلغاؤه- تقدم السباق الذي ينظمه قانون الطبيعة، يعني هذا أن النظام الموجود للأشياء يكون أفضل ما دام قد تم التوصل إليه من خلال عملية انتقائية طبيعية.

لذا، من وجهة نظر سبنسر، فكلما قامت الدولة ببناء وتنظيم برامج للضمان الاجتماعي، بهدف تحسين ظروف أولئك الذين ساءت ظروفهم، وبهدف السماح لبعض غير الصالحين منهم بالتحرك إلى أعلى، فهي بذلك تتحرك ضد منطق العدالة الطبيعية المُنصِفة. [4]

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. جون رولز، “نظرية العدالة”، ترجمة: ليلي الطويل، دمشق، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011.
  2. تشارلز داروين، “أصل الأنواع”، ترجمة: إسماعيل مظهر، دار العصر للطبع والنشر، 1928.
  3. إي راي كانتربري، “موجز تاريخ علم الاقتصاد: مقاربات جمالية لدراسة العلم الكئيب”، ترجمة: سمير كريم وجودة عبد الخالق، المركز القومي للترجمة، 2011.
  4. Herbert Spencer, “Social Statics; Or, the Conditions Essential to Human Happiness Specified, and the First of Them Developed”, Adegi Graphics LLC, 2000.