يقول الكاتب البرتغالي «فرناندو بيسوا» في كتابه «كتاب اللاطمأنينة»: «إن خيالات الأدب والفن تبدو شاحبة أمام واقعية الحياة». يُعرف بيسوا بنظرته المتشائمة إلا أنه وبمنتهى النزاهة يبدو الواقع في عالمنا العربي خلال الأيام الأخيرة أكثر تشاؤمًا من بيسوا وأحاديثه.

مثلما يتعامل بيسوا مع خيالات الفن والأدب، نتعامل نحن جمهور كرة القدم مع تلك اللعبة التي تنقذنا عادة من براثن اليأس والإحباط والملل. لكن هل فكرة اللجوء لتلك الأنشطة الممتعة خلال وقت يتعرض فيه الفلسطينيون لقصف دائم ومحاولة إبادة هو أمر طبيعي حتى وإن كان دون جدوى؟ أم أنه كما يقول البعض إن كل دقيقة نشاهد فيها مباراة كرة قدم هي خيانة للقضية؟

حسنًا لا نملك إجابة حاسمة لموضوع مثل هذا، لكننا نستعرض سويًا الأفكار المتعلقة بقضية مثل تلك، ربما نكوّن رأيًا أكثر وضوحًا دون أن نقسو على أنفسنا.

الصحة العقلية أثناء الحرب

وفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية يعاني واحد من كل خمسة أشخاص يعيشون في مناطق تعاني من الصراعات من مشاكل في الصحة العقلية، وهي النسبة المخيفة كما يبدو لكنها تتوافق مع ما يحدث حولنا حيث نشعر جميعًا بمرارة شديدة لما يحدث، بل ويسيطر على الكثير منا شعور بقلة الحيلة أمام ما يحدث.

تلك الأحداث تؤثر فينا نفسيًا بالطبع بل ويصل الأمر إلى الإصابة بأمراض نفسية عضال، حيث توضح دراسة منظمة الصحة العالمية المنشورة في مجلة لانسيت الطبية إن 22% من الأشخاص الذين يعيشون في مناطق النزاع يعانون من الاكتئاب أو القلق أو اضطراب ما بعد الصدمة أو الاضطراب الثنائي القطب أو الفصام.

تلك الأرقام والإحصاءات لا تحدد إن كانت تخص هؤلاء الذين يعيشون في بلاد تعاني الحرب وحدهم، أم تصل لمرحلة المتابعين الأوفياء لأخبار الحرب مثلما يفعل معظمنا. لكن على الجانب الواقعي لا نبدو بعيدًا أبدًا عن أمراض نفسية كتلك. حسنًا، إذا كان ما يحدث يؤثر فينا جميعًا، فلماذا إذا قرر أحدنا أن يأخذ راحة لمدة ساعة ونصف لحضور أو مشاهدة مباراة كرة قدم نشعر جميعًا أن ما حدث خيانة للقضية وأنه يجب علينا جميعًا ألا نتوقف عن المتابعة ولو لثانية واحدة.

متلازمة الناجي وسردية الحقيقة

تبدو أول الأسباب أننا نشعر بالذنب تجاه ما يحدث في فلسطين، يتضاعف هذا الذنب مع كل فرصة لممارسة أنشطة الحياة العادية التي بتنا نعرف أنهم محرومون من مجرد الحلم بها. هنا يشعر الفرد أن مجرد بقائه على قيد الحياة هو ذنب، حتى وإن كان لا دخل له في ما يحدث من قريب أو بعيد وهذا التفسير الأقرب للتعبير عما يسمى بـ«متلازمة الناجي».

يمكننا تعريف متلازمة الناجي على أنها شعور الشخص الآمن بالذنب الشديد كرد فعل على حدث تعرض فيه شخص آخر للخسارة. يتراوح الأمر من الحدث البسيط، وصولًا للأحداث المؤلمة التي تُزهق فيها الأرواح بشكل جمعي مثلما يحدث في فلسطين.

يتمحور الأمر حول سؤال بسيط يدق ذهنك دون توقف؛ لماذا ليس أنا؟ هنا تشعر ببساطة أنك لا تستحق أن تنجو عندما يعاني الآخرون. هذا الأمر يتضاعف في موقفنا الحالي بسبب الروابط القومية والدينية وعلاقتنا التاريخية بقضية فلسطين.

تقتضي الطرق النفسية لمحاولة تجاوز شعور الناجي بالذنب ألا تكبت مشاعرك أبدًا وألا تنعزل عن الناس كما يتطلب الأمر منك القيام بأمور جيدة، لأن القيام بأعمال الخير يساعدك على تجاوز الشعور بالندم.

الطرح الثاني الذي يشعرنا بالخيانة إذا ما قمنا بمشاهدة مباراة كرة قدم هو أننا نشعر أننا نفرط في متابعة القضية وهو الأمر الخطير لأن الأحداث أثبتت أن العالم يريد أن يسرد الأحداث كما يرغب لا كما حدثت.

إذا ما قررت ببساطة أن تبحث في كل المواقع الأجنبية عن أثر الحروب على الصحة النفسية مثلما فعلنا أثناء كتابة هذا المقال؛ ستجد عشرات النتائج التي تتناول الأمر مستشهدة بما يعاني منه الشعب الأوكراني من ظلم وقهر نفسي، بينما ستفسر نتائج البحث عن مقال واحد مكتوب عن هذا الأثر في فلسطين.

هذا يشعرنا ببساطة أن محاولة أخذ نفس عميق وفترة راحة من المتابعة اليومية سيكون بمثابة خيانة للقضية، لأننا لن نجد من يروي لنا ما حدث في غيابنا، بل إن متابعتنا لأحداث القضية سيحافظ لنا على وجود سردية خاصة بنا نتلوها أمام العالم في مواجهة السردية المزيفة التي يصمم الغرب على أن يقدمها وكأنها الحقيقة.

هذا يفسر لنا لماذا تحولت مشاهدة مباراة كرة قدم وكأنها خيانة، لكن ماذا لو قرر أحدنا محاولة أن يأخذ قسطًا من الراحة حتى لا يقع فريسة للمرض النفسي؟ وبخاصة أن كرة القدم ربما تعطيه هذه الفرصة.

هل تنقذنا كرة القدم؟

يربط بحث جديد بين مشاهدة الأحداث الرياضية الحية ومستويات أعلى من الرضا عن الحياة وانخفاض مستويات الشعور بالوحدة، ويقول الباحثون إن الأحداث الرياضية الحية يمكن استخدامها لتحسين الصحة العامة. وهذا ما أوضحته الدراسة التي نشرت في مجلة Frontiers in Public Health بناءً على دراسة استقصائية أجريت على 7209 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 85 عامًا.

تبرز أحاسيس مثل الرضا وعدم الوحدة كعوامل مهمة للغاية لتجاوز الأزمات النفسية، ولا تعني أبدًا أنك قررت أن تتجاهل قضية قومية ومهمة مثل قضية فلسطين. لكنها تعني ببساطة أنك تحاول تحفيز نفسك بمشاعر إيجابية في مواجهة الأحداث الصعبة والأحاسيس المُرهقة التي لا تتوقف بل تزيد يوميًا بسبب القصف الإسرائيلي الغاشم الذي لا يتوقف.

كما تناولت دراسة أخرى وجود فوائد ملحوظة بشكل خاص من حيث التفاعلات الاجتماعية، حيث أكد واحد من كل شخصين أن مشاهدة حدث رياضي يساعده على التواصل بشكل أكبر مع العائلة والأصدقاء، ويشعر أكثر من 35% من المشاركين بأنهم جزء من المجتمع. وإذا قررت أن تحافظ على سرديتك الخاصة في مواجهة السردية الصهيونية كما نحاول جميعًا فيجب أن تحافظ على قدرتك على التواصل مع من حولك.

كما أن هناك عاملًا مهمًا جدًا في هذه القضية وهو أننا لسنا نفس الشخص أبدًا. إذا كنت قادرًا على الحفاظ على اتزانك النفسي رغم كل ما تتابعه فهذه نعمة لا تفترض وجودها في كل من حولك. وإذا قرر أحدهم أن يحاول الحفاظ على اتزانه النفسي عن طريق مشاهدة مباراة كرة قدم فلا تفترض أنه رجل خائن لا يعرف شيئًا عن فلسطين والقضية.

كما اتفقنا في البداية، هذا المقال لا يقدم لك إجابة واضحة حيال ما يجب أن تفعل، لكنه ببساطة يحاول أن يقدم لك وجهة نظر بسيطة عن أهمية الرياضة في الحفاظ على الصحة النفسية للشخص وأهمية الصحة النفسية ذاتها في أوقات مؤلمة مثل أوقات الحروب، يعطي لك فرصة ثانية في مراجعة نفسك بعدم تخوين شخص قرر أن يلتقط أنفاسه من أجل مواصلة المتابعة والتدوين.