شديد التركيز والسرية والإنطوائية. إنه «إسحاق نيوتن» أبو العلم الحديث. فعلى الرغم من كونه أحد أشهر العلماء في العالم أجمع حتى وقتنا هذا، فإن هناك الكثير من جوانب حياته مُستتراً في الظل لا يعلمه الكثير منّا. ولمعرفة ما الذي كان يخفيه، علينا العودة لسنواته الأولى.

لم يُخلق للزراعة

نحن الآن في مزرعة بسيطة بشرق إنجلترا، والقمر بدراً في ليلة 25 ديسمبر/كانون الأول عام 1642، وضعت السيدة «حنا إيسكوف» ابنها «إسحاق نيوتن»، تيمناً بوالده الحامل لنفس الاسم، والمتوفى قبل ثلاثة أشهر.

وبعد ثلاث سنوات تزوجت أمه وانتقلت للعيش بمنزل زوجها، وقرّرت ترك نيوتن ليعيش مع جدته لأمه. لم يحب نيوتن ذلك وشعر بعدائية تجاه أمه.

بعمر الثانية عشرة وحتى السابعة عشرة سافر لمدينة «جرانتهام»؛ ملتحقاً بمدرسة «الملك»، ولكن للأسف ترمّلت أمه من جديد، وتحتّم عليه العودة لمزرعة والده، حيث كانت تُخطِّط أمه لجعله مزارعاً كأبيه. ولكن لكرهه الشديد للزراعة، لم تنجح. ومع تدخل أحد مدرسيه بالمدرسة، اقتنعت أمه أخيراً بعودته مرة أخرى للدراسة واستكمال تعليمه. واستطاع إثبات أنه الأفضل في المدرسة؛ نكاية في زملائه المشاغبين.

من الطاعون إلى الجاذبية

إنه عام 1661، تجاوز نيوتن الثمانية عشرة، وغادر منزله الريفي لارتياد جامعة كامبريدج. وهناك وجد ضالته، وولعه الشديد بالرياضيات التي يُدرسّها البروفيسور «إسحاق بارو»، وبعد مُضي أقل من خمسة أعوام، أصبح في سن مبكرة جداً قادراً على إجراء البحوث مستقلاً.

وقبل حصول نيوتن على درجة البكالوريوس، في صباح 25 يوليو/تموز 1665، ظهرت أول حالة وفاة لطفل في الخامسة محاطاً صدره ببقع سوداء ملحوظة، أحد أهم أعراض الطاعون، الذي انتشر خارج لندن.

على الفور، غادر الباحث الشاب كامبريدج مُسافراً 160 كيلومتر شمالاً مُحتمياً بمنزل عائلته في الريف. وطوال السنتين اللتين قضاهما هناك، عكف على العمل والبحث، وقام باكتشافات كبيرة حول طبيعة الضوء، ويُفترض أن تفاحته الشهيرة سقطت حينئذ كاشفة عن سر الجاذبية.

بالطبع لم يكن تفشي الطاعون والعزلة هو الدافع لنيوتن للقيام بثورة العلم الحديث واكتشاف كل هذا، بل سعيه الدائم لمواصلة طرح أسئلة كبرى والمثابرة حتى يجد الجواب. فالأفكار العظيمة لا تأتي فجأة كصاعقة رعد ملهمة تمطر صاحبها بالحظ الوفير بينما هو مسترخ تحت شجرة، بل تتطلب عملاً طويلاً، دقيقاً ومستمراً، بل ومملاً في بعض الأحيان، وهذا ما فعله نيوتن طوال الثلاث والعشرين سنة الماضية، تفاحات نيوتن الساقطة لم تكن محض صدفة، بل كانت تتويجاً لما بذله من جهود وما قدمه من تضحيات أثناء رحلة تعلمه وبحثه.

شخصية معقدة وقدرات جذابة

اكتشف نيوتن أثناء عودته لكامبريدج القوانين الحاكمة للكون، لكنه آثر الكتمان ولم يخبر أحداً. نيوتن شديد التكتم، ولا يهتم بمشاركة أعماله مع العالم الذي غيرّه في النهاية.

البروفيسور «روب إليفي» قضى أكثر من 25 سنة لدراسة حياة نيوتن، قال: «من الأمور المثيرة لدى نيوتن أنه ينجز أعمالاً مهمة للغاية ويرمي بالأوراق تحت سريره وينسى أمرها». بينما قال عنه البروفيسور «مايكل فيتزجيرالد»، أستاذ علم النفس:

يفتقد العلاقات الاجتماعية، قليل التعاطف، كثير الشك والارتياب، قاسياً وسادياً، لكنه يتمتع بقدرة كبيرة على التركيز لتعلم أي شيء.

هذه القدرات الفريدة جذبت انتباه أستاذه في الرياضيات «إسحاق بارو»، وأخذ يشجعه على مواصلة أبحاثه. ليس هذا وحسب، بل كان يرسل بعض أعماله للمجمع الملكي حديث التأسيس آنذاك.

أدرك بعض علماء المجمع الملكي قيمة نيوتن، وأن صاحب هذه الأوراق لا بد وأنه عالم رياضيات مُتمكّن، وحان وقت ضمه لصفوفهم. وعلى الرغم من أنه لا شرف يضاهي الانضمام للمجمع الملكي في هذا الوقت، فإن اشراك نيوتن الكتوم لم يكن بالعمل السهل على «بارو».

رؤية مختلفة للعالم

ظل نيوتن منعزلاً، لا يكلم إلا أشخاصاً قليلين يثق بهم مثل معلمه «بارو»، حتى نجح الأخير في إنهاء عزلة نيوتن، بعد كثير من المحاولات، وبعد أن أصبح نيوتن أول عالِم يصنع منظاراً عاكساً في عام 1667.

وبعد أن رأى «بارو» المنظار المبتكر، أرسله على الفور إلى المجمع الملكي، وهناك أصبح المنظار المبتكر محل قبول وترحاب، وأثار جدلاً كبيراً بين العلماء.

كانت المناظير في هذا الوقت كبيرة الحجم للغاية، وتعتمد على فكرة وضع عدسات متتالية لتكبير الأجسام البعيدة وانكسار الضوء بين هذه العدسات، فكلما زاد حجم العدسات كان التكبير أوضح. ولم يكن الحجم المشكلة الوحيدة للمناظير القديمة، بل كانت الأشعة الضوئية المنكسرة تشَّكل هالة من قوس قزح حول الأجسام السماوية البعيدة مثل الأجرام السماوية كالنجوم والكواكب عند رؤيتها بتلك المناظير، فيما يُعرف بظاهرة الزيغ اللوني.

بينما منظار نيوتن كان متطوراً للغاية، حتى إنه كان أصغر بعشر مرات من المناظير المعروفة، واعتمد في صنعه على استخدام مرايا عاكسة عوضاً عن العدسات الضخمة، وبالتالي لم يعان من مشكلة الزيغ اللوني.

وبعد تلقي المجمع الملكي لمنظار نيوتن المبتكر، قال سكرتير المجمع له: «هذا مثير جداً للاهتمام، هل لديك اكتشاف آخر؟». رد نيوتن: «أجل، لدي شيء موجود منذ بضع سنوات قرب طاولتي، ليس قيّماً جداً، لكن أظن أنه أهم ما تم اكتشافه في مجال العلوم».

أرسل نيوتن للمجمع الملكي مجموعة من الأوراق، وكانت هذه الأوراق عبارة عن بحث نيوتن الشهير حول الضوء والألوان، الذي حوى اكتشافاً سخّره لاستخدام المرايا عوضاً عن العدسات في بناء المناظير، وهي نظرية تحليل الضوء الأبيض لسبعة ألوان أساسية، ليقود بذلك ثورة حديثة حول فهمنا لطبيعة الضوء، ومن ثَمَّ تأسيس علم البصريات. فلولا منظار نيوتن لما استطعنا رؤية النجوم، والكواكب وأقمارها رؤية واضحة، ودراسة حركتها بشكل تفصيلي فيما بعد.

عندها أخذ نيوتن أخيراً ينفتح على العالم الخارجي، لكن هذا الانفتاح لم يدم طويلاً وحدث ما جعله يحتمي مرة أخرى بعزلته وبوتقته. فقد كان آخر أعمال نيوتن هو حرق الكثير من مخططاته التي بذل فيها قصارى جهده؛ فماذا حوت تلك المخططات؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.