منذ هزيمة العام 1967، نحا كثيرٌ من المثقفين العرب إلى تحميل التراث والثقافة العربية مسئولية الواقع العربي. فمنذ ذلك الحين، ظهرت كتابات كثيرة تدعو إلى التخفف من حمل الماضي، والقطيعة معه في بعض الأحيان، من أجل نهضة عربية على الطراز الأوروبي. وقد غاب عن أذهان الكثيرين أن مفهوم «التراث» نفسه هو اختراع حداثي نشأ منذ بدايات القرن التاسع عشر؛ فلكي تكون هناك حداثة كان لا بد أن يكون لها آخرٌ مغايرٌ لها يتصف بكل نقائض هذه الحداثة.

وبالعودة إلى القواميس ما قبل الحداثية، نجد أن مصطلح التراث كان لا يستخدم إلا للتعبير عن الإرث المالي المنتقل لورثة المتوفى كما في لسان العرب لابن منظور أو في محيط المحيط لبطرس البستاني، بل أحيانًا لم يوجد مدخل للفظة «تراث» كما في القاموس المحيط للفيروزآبادي. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الأطروحات الثقافوية، والاستشراقية في بعض الأحيان، التي بدأت تتسول كل حادثة يمكن تأويلها لكي تتماشى مع هذا الطرح. ومع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق «داعش»، سنحت الفرصة لدى الكثيرين لكي يوجهوا سهام الاتهام للتراث العربي الإسلامي باعتبار داعش امتدادًا طبيعيًا وتجليًا عمليًا للمدوّنة الفقهية الإسلامية.

قبل عدّة أسابيع، قامت ولاية سيناء التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بتهجير إجباري للأسر المسيحية بمدينة العريش، وكانت قبل ذلك قامت بعمليات سلبٍ ونهبٍ وقتل لبعض الأسر المسيحية. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تهجير عدد من الأسر المسيحية من سيناء. فقد قامت ولاية بيت المقدس بتهديد عشرات الأسر المسيحية خلال الأعوام الماضية في حال عدم الرحيل من المدينة.

وفي نفس السياق، لم تكن «داعش» وحدها من قامت بممارسة تلك العمليات الإرهابية من قتلٍ وتهجير. فقد قامت الدولة المصرية بتهجير المصريين من مدينتي رفح والشيخ زويد وقصف أجزاء كبيرة من المدينة دون وضع أي حساب للمدنيين. ولم يسلم المصريون المسلمون أيضًا من ولاية سيناء. فقد قام التنظيم بتصفية عدد من المواطنين إما بتهمة التعاون مع الجيش المصري أو بتهمة الردة. وقد فرض التنظيم سيطرته على المدينة حتى وصل الأمر لنصب كمائن داخل مدينة العريش لتفتيش الأهالي وإلزامهم بتعاليم تنظيم الدولة الإسلامية. فبينما يتم استهداف الأقباط على هويتهم، يتم استهداف المسلمين بطرقٍ أخرى بسبب هويتهم أيضًا. لذلك لا يمكن قراءة ما حدث في العريش باعتباره فتنة طائفية، إذ أن مثل هذه المقاربات تعترف ضمنيًا بتنظيم الدولة باعتباره جزءًا من النسيج الوطني المصري.

كما تتجاهل مثل تلك المقاربات أن المسلمين من خارج تنظيم الدولة هم أنفسهم من ساعد الأسر المسيحية على الهرب كما تذكر كل الروايات التي نقلت عن الأسر الهاربة. وإنما المقاربة الأفضل هي التعامل مع التنظيم باعتباره قوة محتلة تفرض سيطرتها وتمارس السيادة على جزء من الأراضي المصرية. تبدو مثل تلك الأحداث بيئة خصبة لبعض المثقفين كي يمارسوا نقدهم الثقافوي، والاستشراقي في كثيرٍ منه، فلم تقف المحاولات عند ربط داعش بالإسلام السياسي باعتبار الأولى امتداد للأخيرة، بل ذهب البعض إلى تحميل المدونة الفقهية الإسلامية أوزار داعش معتبرين الممارسات الداعشية تجلٍ حقيقي للفقه، مستخدمين في ذلك تحول داعش إلى قيمة في ذاتها يُشيطن من يوصف بها. فأصبح ما أسموه بالتراث مسئولًا عن كل عنف الحاضر وتصبح الثقافة هي الموّلدة لكل تلك الأفعال.


خالد فهمي والغزالي

في وصلةٍ استشراقيةٍ تذكرنا باستشراق القرن التاسع عشر، قام المؤرخ المصري خالد فهمي بإرجاع جل الممارسات الداعشية إلى نصوص «الحسبة» لدى الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، واعتبره النص الأهم لدى كل التيارات الإسلامية التي تنتهج «العنف» من دون أن يذكر مجموعة واحدة تدرّس الإحياء، على عكس ما هو معروف ومسلّم به لدى كل الباحثين في شأن الحركات الإسلامية من نفور التيارات السلفية من الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين.

في هذه المحاولة قام السيد خالد فهمي بارتكاب عدد من الأخطاء المنهجية التي توضح مدى جهل الباحث بالتراث الإسلامي، بالإضافة لعملية بتر لنصوص الغزالي كي تتوافق مع هذه المحاولة. فعلى سبيل المثال، ادعي خالد فهمي أن الجويني، أستاذ الغزالي، غضب وثار على كلام تلميذه في باب الحسبة في حين أن الجويني كان قد توفي قبل أن يشرع الغزالي في كتابة هذا الكتاب بإحدى عشرة سنة. كما ادعى خالد فهمي أن العلماء واللغويين قد احتاروا في اختيار الغزالي لفظة «الحسبة» لهذا الباب.

لكن خالد فهمي لا يعلم أن هذا المصطلح قد استخدمه مئات العلماء قبل الغزالي منذ عصر أبي جعفر المنصور، وهو لفظٌ منتشر في كل كتب الفقه من قبل الغزالي بقرنين من الزمان على الأقل. هذا من الناحية الاصطلاحية، أما الممارسة فتعود إلى العهد النبوي، وقد مارست بعض النساء عملية الحسبة مثل سمراء بنت نهيك الأسدية. والسبب في هذا الاختيار، الذي لم يُحيّر أحدًا من العلماء واللغويين سوى السيد خالد فهمي، بسيط؛ إذ أن من معاني الحسبة الإنكارَ، يُقال: احتسب عليه الأمر، إذا أنكره عليه (لسان العرب 1/ 314 – 317).

وعلى الرغم من أن خالد فهمي قد استهل حديثه بمؤسسة الحسبة لدى تنظيم الدولة الإسلامية باعتبارها إحدى مؤسسات الدولة التنفيذية؛ إلا أنه في خطوة تلفيقية هاجم نصوص الغزالي حول الاحتساب المجتمعي أو ما يسمى باحتساب غير المأذون. فأفراد تنظيم الدولة الإسلامية يتعاملون بمنطق وظيفي داخل بنية التنظيم، وهم أقرب ما يكونون إلى المؤسسة الشرطية داخل بنية الدولة الحديثة. وبالتالي فلا معنى للحديث عن الاحتساب المجتمعي عند ذكر الممارسات الداعشية سوى محاولة استخدام البعد القيمي، بالمعنى السلبي، للفظة «داعش» التي أصبحت ترمز إلى كل ما هو شرير في هذا العالم، وبالتالي يمكن إسقاط هذا البعد القيمي السلبي على الغزالي ما دام قد تم ربطه بداعش.

كما ادعي الباحث أن الغزالي يبيح استخدام العنف حدّ إراقة الدماء والقتل متجاهلًا كل الشروط التي وضعها الغزالي، ومنها ألا يترتب على تغيير المنكر منكر أكبر، وينطبق نفس الكلام هنا على ادعاء الباحث نسبة قذف ماء النار على الوجه في حال عدم الالتزام بلبس النقاب، وهو ما لم يقل به أحدٌ من الفقهاء قاطبة قديمًا وحديثًا. وربما غاب عن الباحث معرفة أن النقاب لدى جمهور الفقهاء ليس بواجب من الأساس. كما أن ما يتحدث عنه الغزالي من جواز شهر السلاح والاستعانة فيه بالأعوان هو حالات ضيقة جدًا ضرورية كما في حالة قيام مجموعة ما بترويع العامة واستخدامهم السلاح في السلب والنهب. فبحسب الغزالي يحق للمواطنين في العريش أن يجتمعوا على استخدام العنف في مواجهة تنظيم الدولة، وليس العكس.

وليس الغرض هنا الحديث عن مفهوم الحسبة وعلاقته بمفهوم المجال العام والمسئولية الجماعية ومفهوم الحرمات، وهو مفهوم أكثر تركيبًا وأعمق من مفهوم الخصوصية، وشروطها وتطبيقاتها التي يمكن أن يفرد لها مئات الصفحات، ولكن بيان قصور فهم الباحث لموضوع البحث.

لا يزال البعض يصرُّ على مقاربة ظاهرة داعش دينيًا وليس سياسيًا. هذه المقاربات تتجاهل السياقات السياسية التي تنشأ في رحابها هذه الظاهرة. فلا يمكن إنكار أن انتصار الثورات المضادة وفشل ثورات الربيع العربي كانت الدعامة الرئيسية لبزوغ نجم الخطاب الداعشي وهو ما ظهر في كلمة صوتية للناطق باسم التنظيم في أغسطس 2013 بعنوان «السلمية دين من؟» شدد فيها على عدم جدوى المسار السلمي في التغيير. كذلك لا يمكن إغفال دور السياسات التوسعية الإيرانية في العراق ثم سوريا والتي تدعم حجّة تنظيم الدولة باعتباره الخلاص السني الوحيد. إن تنظيم الدولة الإسلامية لا يمثل فشل «التراث» بقدر ما يمثل فشل «الحاضر» وفشل مشروع الدولة الوطنية وما تحمله من تناقضات داخل بنية الدولة الحديثة نفسها. فتنظيم الدولة نفسه هو صورة من دول ما بعد الاستعمار التسلطية وليس صورة مما أسموه التراث.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.