قد يبدو مصطلح «الإسلام الموازي» جديدًا وربما صادمًا أيضًا، مما يحتاج معه إلى تعريف يوضّح مفهومه، فـ «الإسلام الموازي» -من وجهة نظري- هو هذا الفهم الخاص للإسلام الذي يُغاير الفهم العام المستقر في وعي الأمة المسلمة منذ تمام نزول الدين على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حاضرنا المعاصر، مع محاولة ترجمة هذا الفهم الخاص المُغاير إلى مجتمعٍ موازٍ يتطوّر إلى دولة موازية وأمة موازية!. هذا التعريف لا ينطبق على كل اجتهاد شرعي، أو مذهب فقهي، أو تيار فكري، أو حزب سياسي، أو مؤسسة إصلاحية، تعمل في فضاء الأمة العلني وتسعى لإصلاح ما فسد وإكمال ما نقص، فهذه كلها دعوات استكمال لا استبدال. فعلامتي التمييز بين الفهم التطبيقي للإسلام الأصيل وبين الإسلام الموازي:

أولا: علانية التأسيس والطرح علانية تنافي كل فكر باطني خاص، ولو تحت دعاوى التدرّج والحكمة المرحليّة، أو التُقية وما شابهها.

ثانيا: التوجّه إلى المجتمع والأمة ذاتها بكل بناء تطبيقي مؤسسي لا بهدف إنشاء تنظيمات (جيوب اجتماعية «جيتو» أو «كيبوتس») مغلقة وموازية تمثّل نواة للمجتمع البديل فالأمة البديلة!.

فكل فهم وتفسير للإسلام يحمل مفهومًا مُغايرًا لما استقر عليه وعي الأمة يعمد إلى إخفاء بعض مُرتكزات هذا الفهم بزعم التدرّج في دعوة العامة، أو التمييز بين ما يتم تداوله في مجالس الخواص عما يتم تداوله في وجود العوام، مع السعي لتكوين بناء اجتماعي منغلق على أصحاب هذا الفكر المغاير، وتوصيف هذا البناء الاجتماعي بأوصاف تميّزه وتعزله عن باقي المجتمع والأمة، هو دعوة سافرة لتيار الإسلام الموازي!.

وقد رويَ عن عمر بن عبد العزيز قوله: «إِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا يَتَنَاجَوْنَ فِي دِينِهِمْ بِشَيْءٍ دُونَ الْعَامَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ عَلَى تَأْسِيسِ ضَلَالَةٍ».


المضامين السياسية والدولة الأولى

ولا شك أن رسالة الإسلام حملت مضامين سياسية عامة كفيلة بإقامة مجتمع كبير قوي متماسك، تقوم على شؤونه دولة حاكمة، وفق اجتهاد تطبيقي عظيم مارسه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بدعم سخي من الصحابة رضوان الله عليهم، وتوجيه وتسديد من الوحي.

ولا شك أيضًا أن الله تعالى قبض نبيه والعرب حديثو عهد بفكرة المجتمع الموحَد والدولة الحاكمة المركزية. فالعرب في مجموعهم لم يعايشوا هذه الممارسة الاجتماعية السياسية، ولم تستقر حقيقة تطبيقية واضحة في حياتهم إلا ربما بعد فتح مكة وضمها إلى ربوع دولة النبي الناشئة في المدينة؛ أي أنهم لم يعايشوا تطبيق الدولة المركزية بصورتها الجليّة الواسعة سوى قرابة 29 شهرًا فقط! فالعرب لم تنتظمهم دولة كبيرة قبل هجرة النبي إلا في اليمن في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، وبعيدًا عن قلب العروبة ووسطها.


مقاصد الحكم والسياسة ومرونة الإسلام

والإسلام إذ وضع القواعد العامة لمقاصد الحكم والسياسة من إقامة وحراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وتحقيق مصالح العباد العامة والخاصة، وتحقيق العدل في مختلف مجالات الحياة، وتحقيق الأمن والنظام، وجمع كلمة الأمة ومنع تفرّقها، والقيام بعمارة الأرض وتطوير وسائل العيش الكريم والسعي للنهضة الشاملة للأمة. والقرآن الكريم يشير لهذه القواعد في كثير من آياته البينات كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [النحل: 90]، وقوله تعالى: «الذين إنْ مكنَّاهم في الأرضِ أقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ وأمروا بالمعروفِ ونهوْا عن المنكرِ وللهِ عاقبةُ الأمور» [الحج: 41] وغيرها من الآيات.

ورغم وضع القواعد الكلية، فإن الإسلام ترك الوسائل جميعها للاجتهاد البشري، حتى فكرة الخلافة التي أخذت بُعدًا يكاد يكون مقدّسًا في الفكر الإسلامي، تركها الإسلام لاجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يقطع فيها بنص حاسم، واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بإشارات لطيفة كإنابته لأبي بكر في إمامة المسلمين في الصلاة وقت مرضه (صلى الله عليه وسلم). والقرآن الكريم ومثلها السنة المطهّرة ما تركت أمرًا يَصلُح به حال المسلمين سهوًا، أو غفلة، وإنما سعة وقبولًا للاجتهاد والتعدد والتطور بتطور الأزمنة واختلاف الأمكنة، حتى أظنها داخلة في عموم قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» [المائدة: 101].

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله أمركم بأشياء فامتثلوها، ونهاكم عن أشياء فاجتنبوها، وسكت لكم عن أشياء رحمة منه، فلا تسألوا عنها». فمن عظمة الإسلام تيسيره ومرونته، وتركه الوسائل للاجتهاد البشري الخالص. ولولا هذا الترك المتعمَّد للوسائل، ما اجتهد الأنصار في اجتماعهم بسقيفة بني ساعدة، ولما طلب عمر بن الخطاب مبايعة أبي عبيدة بن الجرّاح، ولما اقترح قائل الأنصار: «منا أمير ومنكم أمير». ومضت سُنّة الله تعالى في خلقه، واجتهد المجتهدون، واختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في قضايا سياسية، تأوّلوها فأصاب من أصاب، وجانب الصواب أقوامًا أرادوا الحق واجتهدوا له، واقتتلوا على الحق بسيوفهم، ولم يُكفّر أحدهم الآخر، اعترافًا بحقه في الاجتهاد، ولم يُحدث أحدهم رغم الخلاف الكبير والفتنة الكبرى، في أمر الإسلام حدثًا، ولم يفسّره تفسيرًا موازيًا يدّعي لنفسه به حقًا على خصمه؛ إلا فئتي «الخوارج» و «الشيعة»، ولم يكن خروج الطائفتين من عموم جماعة الأمة، كونهما حملا سيفًا أو دعَوا إلى حرب، فلقد حمل الصحابة قبلهم السيوف، وتواجهوا في الحرب، ولكن لأنهم تأوَلوا في الدين ما ليس منه، ووضع كل فصيل لنفسه إسلامًا موازيًا وأسسوا معه مجتمعًا موازيًا منغلقًا، فكان ذلك هو تاريخ بداية تيّارات الإسلام الموازي[1].

لقد عاصر التاريخ بعد ذلك بعشرات السنين خروجًا سياسيًا، يمكن وصفه بأنه نوع من الاجتهاد السياسي والتنافس على السلطة أخذ شكل عصره وأدواته، كما فعل عبد الله بن الزبير (رضي الله عنهما)، فلم يُخرجه مقاتلوه من عموم جماعة الأمة، لأن خروجه كان سياسيًا وإن أنشأ دولة وأعلن استقلالها في الحجاز، ولم يصفوه وأتباعه بالخوارج أو الروافض[2]؛ لأنه رغم ثورته وإنشائه لتلك الدولة لم يؤسس لتيار فكري يخالف وعي الأمة، ولم ينعزل في جيب منغلق. فلقّبه بعض دارسي التاريخ بالخليفة الخامس الراشد، وقد ظلّت دولته قرابة عشر سنين!.

وهكذا ميّز سلف الأمة بوعي ودقّة بين التيّارات الفكريّة التي فهمت الإسلام فهمًا مغايرًا لفهم عموم الأمة، وأخذت من هذا الفهم المغاير ذريعة لتأسيس جيوب اجتماعية بديلة لعموم الأمة، وانعزلت بفكرها ومجتمعها عن أمة الإسلام في جماعتها الكبرى، وبين أصحاب الاجتهاد والرؤى السياسية، وكذلك أصحاب المذاهب الفقهية ولو اختلف تلامذتهم فيما بعد أشد الاختلاف، لم يُخرج أتباع مذهب، أتباع المذاهب الأخرى من عموم الأمة، ولا أسّس أي منهم لإسلام موازٍ.

فهل تم إعادة إنتاج جماعات وتيارات الإسلام الموازي في تاريخنا الحديث والمعاصر؟.

في المقال التالي إن شاء الله أجيب على هذا السؤال، موضحًا أهم سمات جماعات الإسلام الموازي العصري.


[1] لا سبيل لمواجهة الفكر المنحرف إلا بمقارعته بالفكر، ولا يجوز مواجهة الفكر بالسجن أو القتل أو الاضطهاد أيًا كان نوعه المادي والمعنوي. والقاعدة القرآنية الكبرى قوله تعالى: «لا إكراه في الدين».[2] أي مواجهة فكرية لتيار فكري ما، لا تحمل في طياتها تحريضًا إنسانيًا ضده بحال، ما لم يثبت ارتكابه لجرم يعاقب عليه الشرع والقانون العادل المتفَّق عليه بين بني البشر. وهو إذ يُحاكم فعلى جُرمه لا على فكره أو اعتقاده.
المراجع
  1. خليل عبد الكريم: قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية
  2. علاء سعد حميدة: دولة النبي، دار ابداعات للنشر والإعلام.
  3. ابن العربي: أحكام القرآن
  4. صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب: رجم الحبلى من الزنى.
  5. وائل حافظ خلف: ليس في ديننا أسرار، موقع الألوكة، 24/ 11/ 2014.
  6. رائد حمدي ومحمد هلال: الإسلام السياسي بين الماضي والمستقبل، حركة مصر المدنية، 7/ 4/ 2012.
  7. عبد الله بن الزبير، موقع قصة الإسلام
  8. محمد لبيب: مقاصد التشريع الاسلامي في السياسة والحكم، موقع الدعوة السلفية.
  9. محمد بن شاكر الشريف: مقاصد السياسة الشرعية، مجلة البيان، عدد 333، فبراير ومارس 2015.