جاء الإسلام دينًا خاتمًا ورسالة عالمية صالحة لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، لذلك كان الاجتهاد أحد الأدوات المهمة لمواجهة الأسئلة الجديدة التي يواجهها الإنسان مع اختلاف العصور والحاجات والأفكار والمخترعات، وكانت هناك وظيفة المجددين الذين يبقون أثر ميراث النبوة قائمًا شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وهناك الأمة التي لا تجتمع على ضلالة، وهناك الذِّكْر الذي تكفل الله بحفظه، والتجديد ريم، والاجتهاد هو عملية دينامية لا تتوقف، ولا أظن أنها قد توقفت أبدًا في مسيرة هذه الأمة في علاقتها بكتابها وبواقعها.

ورغم أن الوحي والنص المُوحى به في القرآن الكريم متجاوز وله صفة الشمول «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، والبقاء والخلود التي لا تبلى من كثرة الرد فهو الحبل الذي يربط الإنسان في مشاكله وواقعه وأسئلته بالسماء وبالوحي، ولذلك كان منهج القرآن الكريم التفصيل فيما لا يتغير من الطبيعة الإنسانية الثابتة في البشر أجمعين، كما هو الحال في الزواج والطلاق والميراث والحجاب والعدة وبراءة الرحم والتأكيد على صحة الأنساب والأرحام، فإنه أجمل فيما يتغير، مثل قضايا الحكم والسياسة والإدارة وأداء الأمانات إلى أهلها وتحقيق العدل.

«إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، فجعل الإسلام قيمته العليا هي العدل: «يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى»، «يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا»، وقيمة العدل هي قيمة واقعية تجمع بين تحقيق المساواة والحرية وكلاهما وحدها كقيمة عليا تصبح عنوانًا لخيال لا يمكن تحقيقه في الواقع والحياة.

وأذكر أن الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» قد أشار إلى أن النص متناه سواء أكان القرآن أو السنة الصحيحة والواقع غير متناه ولكي يضبط المتناهي أي النص – اللا متناهي وهو الواقع فلا بد من إحداث اجتهاد جديد لكل واقعة. وإذن القول بغلق الاجتهاد وتوقفه هو مسألة خطيرة لأنها ستجعل الواقع يسير في اتجاه، بينما الإسلام وشرائعه ومناهجه وطرائقه معزولة مستكينة لا تتفاعل ولا تنفعل مع الواقع والحياة والعصر والإنسان.

وقد أشار ابن قيم الجوزية في كتابه المهم «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» إلى هذه الأزمة في زمنه – القرن السابع والثامن الهجري – الثالث عشر والرابع عشر الميلادي، وأشار إلى أن هناك طائفة من العلماء فهموا أن النص في ذاته قد تضمن الإجابة على مستجدات الواقع، فإن ظهر في الواقع جديد لم ينص النص عليه فإنه يكون مخالفًا له، وهو ما جعل الشريعة تبدو قاصرة لا تُجيب على الأسئلة الجديدة، وفتح الباب للحكام أن يضعوا سياسات ظالمة من عند أنفسهم وبأهوائهم، وأشار إلى قول بن عقيل الحنبلي:

السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولم ينزل به وحي.

فالواقع ومسائله ومستجداته لا يمكن أن يكون الوحي جاء به أو نص عليه، وإنما هو وضع له قواعد كلية للتعامل معه بحيث لا تخالف هذه القواعد والقيم الكلية، وهنا نتساءل: هل الواقع يصلح أن يكون مصدرًا مستقلًا للاجتهاد والتشريع؟ ونجيب بلا تردد: نعم، فالواقع هو المجال الذي تُطبق فيه القواعد ويُعمل المجتهد عقله لمعرفته وقراءته، كما أن الواقع نفسه مصدر لكثير من القضايا التي تحتاج لاجتهاد. يقول ابن القيم الجوزية:

فها هنا نوعان من الفقه لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يُطابق بين هذا وهذا، فيُعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مُخالفًا للواقع.

الحنابلة في القرن السابع والثامن الهجري حاولوا في الحقيقة أن يخففوا من غلواء الحنابلة السابقين عليهم في القرنين الرابع والخامس الهجري والذين ظنوا أن الشريعة هي النص، وأن الإسلام الصحيح هو ما يُوافق اجتهادات الحنابلة الذين شنوا حملات عاتية على مخالفيهم من المجتهدين وأصحاب المذاهب الأخرى، وتوسعوا في إصدار كتب للمبتدعة والابتداع، وضرورة هجر المبتدع، وامتحان المجتهدين في عقائدهم، ووصم الأشاعرة بالابتداع. وهنا القضية الأهم والتي ورثها الإسلاميون المعاصرون، وهي أنهم قرأوا هذه الكتب بصراعاتها الفرقية والمذهبية والاعتقادية واتخذوها دينًا لهم، وكأنها حق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، دون أن يعرفوا السياق السياسي والعقدي والاجتماعي الذي ظهرت فيه هذه الكتب.

المسلم المعاصر الإنسان أقحم نفسه في سياقات مذهبية ومعرفية وعقدية لم يكن هو طرفًا فيها، وحملها على كتفه يناوش بها ويُحارب المختلفين معه في الاجتهادات والمسالك والطرق المؤدية إلى الله، والأخطر أنه ناوش بها عامة المسلمين الذين ظلوا يعبدون الله على فطرتهم، وبقدر ما يعلمون من دينه دون تعمق أو تغول في معرفة العقائد والمذاهب والطرق، وصار ذلك الإنسان كلما يواجه مشكلة يذهب فورًا لاستدعاء ما كان في قرون سابقة، وإحياء معارك ماتت ليحييها جذعة وكأنه لا يمكنه أن يعيش بلا معارك متصالحًا مع أمته وواقعه، وساعيًا لاجتهادات جديدة متصلة بعصره ومتصلة بحاجاته وطموحاته ومعارفه كإنسان يعيش في ذلك العصر.

ولعل أكبر هذه القضايا وأهمها مسألة السياسة والإدارة والنظر إلى العالم وأهله وطبيعة العلاقات معهم، ومن تلك المسائل: قضايا النهضة والتخلف والإصلاح والثورة، وقضايا العدل الاجتماعي، والاستبداد والحريات، وحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من القضايا.

وفي السياسة مسألة سلطة الأمة، وهل هي سلطة مستقلة بذاتها، ويُبنى على هذه السلطة مؤسسات للأمة جامعة تعبر عنها، ويكون وكلاؤها من الحكام هم تعبير عن إرادتها، ونظم الإدارة، وكيف يمكن تنزيل قيمة العدل على الواقع ببناء مرافق تعبر عن العدل وتحققه في القضاء، وفي توفير الخدمات وتسهيلها للمواطنين. وهنا نقول بوضوح إن للأمة سلطة مستقلة بذاتها وهي سلطة مؤسَِسة – بكسر السين- وهي من تختار ممثليها في البرلمان وفي مجالس التشريع والتسيير، وهي من تختار حكامها وهي من تراقبهم عبر نوابها في البرلمانات، وهي من تضع الدستور الذي يوزع السلطات بين القضاء والتشريع والتنفيذ دون احتكار وبتوازن يهدف لتحقيق الغاية العليا للوجود الإنساني، وهي تحقيق سعادة الإنسان ورفاهيته ورضاه.

إن أي مسار سياسي وإداري يقود المسلم المعاصر إلى العدل والحرية والكرامة الإنسانية والرفاه الحياتي هو من الإسلام، حتى لو لم يرد نصًا في الكتاب أو السنة.

المدن الكبرى المليونية التي نعيش فيها اليوم كيف يمكن إدارتها؟ وكيف يمكن تحقيق خدمات المستهلكين فيها؟ وكيف يمكن تحقيق خدمات المصانع والمواصلات وغيرها، ذلك لن يكون إلا بتوافق سكانها عبر آلية الاختيار والانتخاب وفق تداول للسلطة لا يُعطي قوة مهما كان البقاء فيها للأبد كما كان في الماضي، وبتوافق سكانها على عقد اجتماعي بينهم وبين الحكام لا يجوز فيه للحاكم أن يتلاعب بهذا العقد وهو في السلطة، فيغير قواعد اللعبة التي جرى الاتفاق عليها.

التعامل مع قضايا الواقع بمنظور مذهبي فرقي عقدي يربك المسلم المعاصر، ذلك أنه يتعامل مع قضايا هي بطبيعتها متغيرة واجتهادية من منظور عقدي لا يعرف التعدد ولا النظر المجدد في الواقع، وهذا ما جعل مثلًا التيارات السلفية بكل تنويعاتها الجامية والجهادية والعلمية على ما بينها من اختلافات يقفون من قضايا العصر والإنسان والواقع موقفًا متشابهًا، فيرون تداول السلطة وبناء نظم سياسية معاصرة أنها دين، وأنها تنازع الله حقه في الألوهية، دون تمييز بين ما هو عقدي وبين ما هو واقعي من السياسة التي تضبط حياة الناس وتديرها، وتجعلهم متوافقين مع العصر والعلم والعالم والحياة.

إن أي مسار سياسي وإداري يقود المسلم المعاصر إلى العدل والحرية والكرامة الإنسانية والرفاه الحياتي هو من الإسلام ويتفق مع مقاصده ونظمه وقواعده الكلية وأدواته الاجتهادية، حتى لو لم يرد نصًا في الكتاب أو السنة.