كان التطوّر المدهِش في حركة گولن أنها لم تنشَط فقط في دولٍ صاحبة ميراث إسلامي أو تُركي، ولكن في دول صاحبة تقاليد مسيحية وبوذية وهندوسيةٍ أيضًا. ويرى بعض الباحثين أن أحد أسباب ذلك هو حقيقة أن الحركة بدأت في تركيا باستخدام خطابٍ إسلامي، لكنها بمرور الوقت بدأت تُعنى في خطابها بالعناصر العلمانية والهيومانية؛ مثل: التعليم الجيّد، والقبول الوجداني للآخر، والقيم الأخلاقية العالمية. ويخلُصون من ذلك أنه برغم أن الحركة ظلَّت إسلاميةً على المستوى الفردي، إلا أنها بشكلٍ عامٍ تُعَدُّ حركةً اجتماعيّة علمانية.

هيلين روز ايبو، حركة فتح الله گولن، 2015م، تنوير للنشر والإعلام.

يكتسِب الحديث عن حركة «فتح الله گولن» اﻵن أهميّة خاصة. ليس بسبب الصراع الداخلي التركي، الذي طفا على السطح خلال الأعوام الأخيرة وأدى لمحاولة الانقلاب الفاشلة على حكومة حزب العدالة والتنمية، والتي يُرجَّح أن الحركة كانت ضالعة فيه بأكثر مما يبدو للوهلة الأولى؛ بل كذا بسبب صعود نجم الجماعة إعلاميًا (بعد 11 سبتمبر) بوصفها حركة «إسلامية» ناجحة، على خلفيّة فشل الحركات والتنظيمات «الإسلامية» في العالم العربي، سواء تلك التي تؤمِن بالتسلُّل إلى داخل الأنظمة ما بعد الكولونيالية من خلال العمل الحزبي، أو التي تسعى للاستيلاء عُنوةً على تلك الأنظمة من خلال العمل المسلَّح. وهو جزءٌ من عمليّة تصدير النموذج التُركي على مستوى الحركات الاجتماعية، وعلى مستوى السلطة السياسية؛ ذلك النموذج «الإسلامي» الذي بدأ يلجأ هو الآخر لوسائل «غير ديمقراطية»، يبدو أن الحركة «السلمية» قد شرعت توظِّفها ضد أصدقاء الأمس. والحقيقة أن المشهد الحالي برُمَّته لا يُذكرنا فحسب بالانقلابات الفاشلة لتنظيمات الجهاد والفنية العسكرية في مصر، بل يفتح كذلك الباب لمساءلة المسلّمة السطحية الساذجة التي تربط ربطًا حتميًا بين التصوّف ونزع فتيل التسييس، كما تربط بين الممارسة السياسية «السلمية» وعدم استخدام أية أطراف اجتماعية أو حزبية للعنف بإطلاق، ما دامت خارج السلطة؛ اتساقًا مع عقد احتكار سلطة الدولة ما بعد الكولونيالية للعنف والقوة العسكرية. وهي تساؤلات ليس هذا مجال الاطراد معها بحال.


تنبُع أهميّة هذا الكتاب، الذي صدرت ترجمتنا له عن تنوير للنشر والإعلام، شتاء 2015-2016م؛ من كونه أول نصٍ عربيٍّ أو مُعرَّب يتناوَل «حركة گولن» بوصفها تنظيمًا أو حركة اجتماعيّة، من منظورٍ سوسيولوجي؛ بغير انكفاءٍ على أفكار مؤسِّسها. فيتناول آليات التنظيم الاجتماعي للحركة، وهيكلها ومؤسساتها، وطرق تمويلها. كل ذلك من خلال استعراضٍ سريعٍ للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه، وقراءةٍ مُركَّزةٍ لأهم تعاليم مؤسِّسها، مع تأصيل ذلك كله في التربة الثقافية التركيّة وحمولتها القيمية المركَّبة والمتنوِّعة الروافِد.

تعتبر «حركة گولن» تجليًا حداثيًا للتحديث العثماني، مثلها مثل أتاتورك وخلفائه، وجمهرة البورجوازية الأناضولية التي جاء منها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم

وقد نجحت المؤلفة في مسعاها، بدرجةٍ كبيرةٍ؛ ولم تعتسِف النتائج ولا وقعت في التناقُضات المضحكة التي تحفَل بها أعمال الإسلاميين المؤدلجين عن تركيا. ومفتاح ذلك الاتساق، في نظرنا؛ هو وعيها الكامِن، والذي تجلّى طوال الكتاب؛ بأن فتح الله جولن وحركته هما محض تجلٍّ حداثي للتحديث العُثماني، مثلهم في ذلك مثل أتاتورك وخلفائه. وأن الاختلافات الأيديولوجية الظاهرية لا تنفي التلاقي البنيوي الأعمق، ليس بين حركة جولن والكماليين فحسب، بل بين الكماليين وجمهرة البورجوازية الأناضولية التي تشكَّلت منها الأحزاب الإسلامية التركية في الثلث الأخير من القرن العشرين، ومنها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بطبيعة الحال. ولعلَّ هذا يُفسِّر بدرجةٍ كبيرة التغيُّر المستمِّر والميسور لخريطة التحالفات على المسرح السياسي التركي.

وإذا كان مصطفى كمال أتاتورك يُجسِّد سُلطة الدولة التي وَرِثَت التحديث العثماني؛ فإن فتح الله گولن يُجسِّد قطاعًا «مُتدينًا» من مجتمعٍ تمَّت علمنته، فقَبِل مرجعيّة هذه السلطة. فهما لا يتشاركان فحسب ذات الأيديولوجية الدولتية، التي ترى في الدولة مُخلِّصًا؛ بل يمتدّ ذلك ليقبلا بعلمنتها للمجال العام. وإذا كانت أيديولوجية «أتاتورك» لائكية لاتينية مُتزمِّتة تُكرِّس هيمنة الدولة على الدين، بل وتوظيفه أحيانًا؛ فإن «جولن» أميَل للنموذج البروتستنتي الأنغلوسكسوني الذي يرفض هيمنة الدولة المباشرة على الدين، ويُفضِّل أن يكِل ذلك بصورةٍ غير مباشرة للمصالِح الاقتصادية، أو لقوى السوق؛ وهو السبب الرئيس لجاذبية النماذج التركية «الإسلامية» – بعد أربكان – للإدارات الأمريكية المتتالية، ولمؤلفة الكتاب بطبيعة الحال!


ولعل الممعِن في أطروحة الكتاب وفي التطوّرات التي مرَّت بها حركة جولن، خصوصًا في العقدين الأخيرين؛ يكتشف أن البورجوازية الإسلامية الأناضولية، التي يُمثِّل «گولن» قطاعًا لا بأس به منها؛ ليست مُجرَّد احتجاجٍ على شموليّة الكماليّة، بل هي كذلك الاستمرار والتطور الطبيعيين لها. وذلك بنفس الدرجة التي كانت بها حقبة السادات (والإسلاميين «المعتدلين» الذين احتضنهم) هي الاستمرار الطبيعي للناصرية (التي دجَّنت هذا الجيل من الإسلاميين)، وكانت ما بعد الحداثة هي المآل الطبيعي للحداثة. صحيح أن أتاتورك كان مُعاديًا لهيمنة الدين على المجال العام، لكنه يُعتبر في الوقت نفسه الأب الشرعي لمقولات الإسلام «القومي» والتي ظهرت مطلع القرن العشرين، خصوصًا في تركيا وإيران؛ لتسمح بتوظيف «قومي» للإسلام داخل إطار الأيديولوجية القومية الحديثة وفي طيات بنية الدولة ما بعد الكولونيالية، وهو توظيف يتجاوز النطاق الشعوبي القديم في الظاهر، وإن كان يُعيد إنتاج أكثر ديباجاته. هذا «الإسلام التركي» أو «الإسلام الأناضولي» الذي يحمل جولن رايته، ويروِّجه بوصفه بديلًا مُعتدلًا عن «تطرُّف» الإسلام العربي؛ هو في حد ذاته أحد أهم مواطن التلاقي القديم لحركته مع الأيديولوجية الكمالية العلمانية.

تتبنّى حركة جولن مبدأ الإسلام القومي الذي أسّس أتاتورك مقولاته، إلى جانب الأيديولوجية العلموية المخلِّصة والاقتصاد الرأسمالي، وذلك ضمن إطار بورجوازي مؤَسلَم

كذا تتلاقى حركة جولن، والبورجوازية الإسلامية التركية؛ مع الكمالية في الأيديولوجية العلموية، والإيمان الميتافيزيقي بمُجرَّدٍ يُسمى «العلم»، بوصفه خلاصًا لتُركيا (ولعالم الإسلام!) من كل أزماتها. وإذا كان الكماليون أبناء لحظتهم التاريخية، التي كان «العلم» فيها يوظَّف بوصفه نقيضًا للدين؛ فإن البورجوازية الإسلامية الجديدة تبذل وسعها لاعتساف رابطة بين الإسلام وما تُطلق عليه علمًا: أي العلوم الطبيعية والتقنية الحديثة، بوصف تلك العلوم نافية للجهل الكوني وتحقُّق للإنسان ولهدف وجوده. وهو جهلٌ عميقٌ بحقيقة الإسلام، قبل أن يكون جهلًا بالحداثة وبالأيديولوجيات الكامنة في علومها الطبيعية ومنتجاتها التقنية. هذه التوليفة التلفيقية لا يُمكن أن تُمرَّر بسهولة إلا في إطارٍ بورجوازي «مؤسلَم» يُشبه الإطار البروتستنتي الأنغلوسكسوني، إطار أهم معالمه هي النظام الاقتصادي الرأسمالي ترفُده ديمقراطية بورجوازية. وقد كان فتح الله جولن نفسه شاهدًا على التحول الرأسمالي الذي اضطلع به أوزال، وفاعلًا اجتماعيًا أساسيًا ساهم فيه بقوة. إذ كان التحول الرأسمالي هو المخرج الوحيد للإسلاميين الأتراك (والمصريين!) خلال السبعينيات والثمانينيات، وذلك للفكاك من أسر سيطرة الدولة على كل مفاصل الاقتصاد، تلك السيطرة التي أدَّت حرفيًا لاستعبادهم للدولة وسلطتها منذ «الاستقلال» عن الاستعمار المباشر.

هذا التحوّل الاقتصادي يرفده كذلك خطاب وعظي عن اقتصاد السوق «الأخلاقي»، بوصفه الصورة الإسلامية (البيوريتانية!) للاقتصاد ومفتتح الاجتماع، وليس محض رد فعل تاريخي، محدود بحدود الزمان والمكان؛ على أنماط اقتصاديّة جاهلية أخرى. وهو مجرد تنويع على أطروحة أسلمة الاقتصاد الرأسمالي، التي لعب الإسلاميون دورًا كبيرًا فيها إبان السبعينيات والثمانينيات. وبمعنى من المعاني؛ فإن الاقتصاد يصير، في هذا التصور البورجوازي؛ مُطلقًا حقيقيًا يُعيد تشكيل التاريخ والواقع ومن قبلهما التصوّرات. يصير هو الخلاص التاريخي الحقيقي في روع «المسلمين» البورجوازيين.

كتاب حركة فتح الله كولن
كتاب حركة فتح الله كولن

وإذا كانت الحركة قد بدأت مسيرتها بوصفها حركة دعوية قُطرية؛ فقد انتهى بها المطاف بوصفها شركة ضخمة عابرة للقارات تتستر خلف حركة اجتماعية-اقتصادية، لتُعيد مصالحها الاقتصادية صياغة أيديولوجيتها وتصوّراتها وأهدافها وأولوياتها بما لا يتصادم مع الدولة ما بعد الكولونيالية، وتوجهاتها الرأسمالية التي توظِّف الدين ومقولاته لصالحها؛ سواء في تُركيا أو في الدول الأجنبية المضيفة لنشاطاتها. وبعبارة أخرى، صارت الحركة في الداخل التركي تجسيدًا للتغيُّرات التي واكبت إعادة تشكُّل الاقتصاد التُركي، ومعه الخطاب والممارسة الدينية؛ أي صارت فاعلًا اقتصاديًا حضريًا «مُتدينًا» (أو متدثرًا بالدين!) وليست حركة دعوية يعمل بعض أفرادها بالتجارة.

تحوّلت حركة گولن من حركة دعوية قطرية متجرّدة، إلى شركة اقتصادية عالمية عابرة للقارات بهوية قومية دينية، توظّف الديباجات القيمية والدينية لتسيير أعمالها

وفي الخارج اختُزلت الحركة إلى تجسيد عابر للقارات لهذه التغيُّرات القيمية والاقتصادية التركية، أي فاعل اقتصادي عالمي ذي هوية قومية-دينية يستقي منها بعض القيم «المتجاوزة» للمجال الاقتصادي، وليست دعوة عالمية مُتجرّدة لله؛ وهو ما أفقد الحركة بُعدها الدعوي العالمي – المفترض!- لحساب الدمج في النظام العالمي وفي المنظومات التعليمية والاقتصادية المحلية للدول المضيفة لأنشطتها التعليمية، والتي تُعتبر أبرز مجالات «الاستثمار» الاقتصادي لدى الحركة. لكنه ليس دمجًا يجعل منها عبئًا زائدًا على المنظومات التعليمية المضيفة، المنهكة أصلًا؛ إذ هي مدارس نخبوية باهظة الرسوم تتخيَّر طلابها بمعايير طبقيّة واضحة، لتخدم أهدافها الاقتصادية والسياسية.

وإذا كانت مشروعات «گولن» التعليمية يُضرَب بها المثل في النجاح، بالمعايير الحديثة/الحداثية؛ فإن البؤس الاجتماعي والمعرفي الذي تُمثِّله هذه المؤسسات التعليمية «الناجحة» كميًا وبورجوازيًا، بوصفها انتكاسًا في مسيرة الحركة الإسلامية؛ يُذكِّرنا ببؤس رؤية أحمد أمين في إيمانه الميتافيزيقي الساذج بالتعليم الجامعي العلماني بوصفه خلاصًا للأمة، وذلك كما تجلّى في حوار له حول التعليم «العالي» مع فيصل ملك العراق (ورد في مذكراته). وإذا كان إيمان أحمد أمين المبتذل بالتعليم الجامعي مُجرّد رد فعل على حرمانه هو شخصيًا من الدراسة في دار العلوم، ولجوءه مضطرًا إلى مدرسة القضاء الشرعي، الأدنى مرتبة؛ فإن تبني گولن لرؤية مشابهة مردّه ليس حرمانه هو شخصيًا فحسب من التعليم الجامعي، بل حرمان طبقته برُمَّتها؛ إذ كان التعليم الجامعي في تركيا آنذاك نخبويًا بدرجةٍ كبيرة. وإذا كان ذلك كله لا ينفي «النجاح» الاقتصادي والخدمي الملموس لمشروعات حركة جولن، إلا أنه بالتأكيد يُخرجها من دائرة الحركة الدعوية إلى دائرة الشركة التجارية التي تستخدم بعض الديباجات الدينية لتيسير أعمالها.

تبقى في الكتاب نُقطة ضعفٍ وحيدةٍ لم تستطع المؤلفة تجاوزها، ألا وهي تسليمها بأن الحركة ليست سوى مجموعة من الشبكات الخيرية-الخدمية الطوعية، بغير بنية هرمية تنظيمية صلبة؛ وهو التصوّر المضلِّل الذي نجحت الحركة في ترويجه بدرجة كبيرة في الأوساط الأكاديمية والسياسية. إذ أنّ حجم نشاط الحركة العالمي واطرادَه، ناهيك عن فعالية تحالفاتها السياسية، ومنه تدبيرها لانقلاب عسكري؛ تؤكد أن الحركة تحظى ببنية تنظيمية حزبية صارمة، وإن كانت سرية بدرجة كبيرة. وإذا كان لمحاولة الانقلاب الأخيرة من فضلٍ، فهو أن تكشف هذه الحقيقة للرأي العام، وتفتح الباب لأسئلة كثيرة جدًا تنتظر الإجابة في قابل الأيام.