يحتل عمران المدينة الإسلامية جزءًا خاصًا ليس بالقليل في الدراسات العمرانية، ودائمًا ما تجذب المدينة الإسلامية اهتمام الباحثين، نظرًا للعوامل التي طرأت عليها، التي أثرت عليها المدينة وتأثرت بها، ولما يمتاز به عمرانها من تطور مستمر فبداية بالعمران العربي البسيط في صحراء شبه الجزيرة العربية إلى انتشار الجيوش الإسلامية وإقامة مدن استمدت عمرانها من عمران الحضارات القائمة مضافًا لها التشريع الديني الإسلامي.

وكان للعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثر كبير في تشكيل عمران المدينة الإسلامية، كما كان للعامل الديني الأثر الكبير في تخطيط هذه المدن، انعكس ذلك على علاقة الجوار بين بيت الحاكم وبيوت المحكومين، فمن نبي يوحي إليه وخلفاء يراهم العامة في النهار والليل يسكنون جوارهم ويجالسونهم، إلى خلفاء وحكام بينهم وبين العامة الأسوار العالية المحصنة، فكيف وجدت هذه الفجوة بين بيت الحاكم وبيوت المحكومين؟

المدينة المنورة: عاصمة الدولة الاسلامية

على عكس مجتمعهم الصغير في مكة المضطهدين فيه، أصبح للمسلمين بعد الهجرة مدينة جديدة بعمران منتظم ومجتمع آمن، فكانت يثرب (المدينة المنورة) أول نموذج للمدينة الإسلامية، وكان انتظام عمرانها مركزًا لقوة المسلمين لنشر دعوتهم الجديدة، فكانت المدينة المستقرة مركزًا انطلق منه المسلمون بوفودهم مبشرين بدينهم أمراء الدول الخارجية، واستطاعوا ترتيب صفوفهم وإعداد جيشهم، وبذلك يكون استقرار العمران ضرورة ملحة لاستقرار المجتمعات.

اعتبرت المدينة المنورة عاصمة للدولة الاسلامية، وبذلك كان لعمرانها طابع خاص مستمد أولًا من الطبيعة الاجتماعية لسكان يثرب التي كان بها منشآت مقامة بالفعل وكانت ركيزة المدينة الاقتصادية هي التجارة، فكان للأسواق مكانة خاصة استمرت حتى بعد إعادة تأسيس المدينة الجديدة، وأضيف إلى طابعها العمراني أحد أهم العوامل التي شكلت المدينة فيما بعد وهو الطابع الديني، فكانت تعاليم الدين متدخلة في كل شيء في تخطيط المدينة، من حيث شروط الجوار وارتفاع البناء وخصوصية البيوت.

كما شهدت عاصمة المسلمين الجديدة العلامة المميزة التي ظلت مصاحبة للمدينة الإسلامية طول حياتها وأصبحت رمزًا لها، وهو المسجد، حيث كان المسجد أول العناصر المقامة في أي مدينة يقيمها المسلمون، وكان لا بد من توسط المسجد للمدينة وأن يكون أكبر المباني اتساعًا، وكذلك كان لا بد من مجاورة بيت الحاكم للمسجد، ولا يفصل بيت الحاكم عن بيوت المسلمين شيء، وهذا ما فعله النبي بعد إعادة تأسيس يثرب لتشهد الدولة الاسلامية عاصمتها الجديدة.

انعكست تعاليم الدين على العلاقة بين بيت الحاكم (النبي) وبيوت المحكومين (المهاجرين والأنصار) فكما تشير المصادر التاريخية إلى أن النبي لم يسكن بعيدًا عن المسجد، وإنما أقيمت له حجرات بجواره، لا يفصل هذه الحجرات والمسجد عن بيوت المهاجرين التي تم بناؤها وبيوت الأنصار التي كانت قائمة بالفعل شيء غير الطرقات الجديدة التي شقها المسلمون.

يبين الشكل السابق صورة تخيلية لتخطيط المدينة المنورة بعد هجرة المسلمون إليها، حيث يتوسطها المسجد وملاصق له حجرات النبي وزوجاته، ويبين الشكل سيطرة مساحة المسجد على مساحة المدينة، وكذلك تلاصق بيت النبي لبيوت صحابته والمسلمين.

الكوفة وقصر سعد

كانت الكوفة أحد الأمصار التي أقامتها الجيوش الإسلامية بعد غزواتهم والانتصار على الجيوش الساسانية، فكان الجيش الذي أقام الكوفة يقوده سعد بن أبي وقاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد وصلت رسالة من عمر إلى سعد «أن اتخذ لمن معك من العرب دار هجرة، لا يكون بيني وبينكم بحر ولا ماء» وهو الشرط الذي حدده الخليفة سابقًا وقت إقامة البصرة، وكذلك بعد دخول مصر واتخاذ الفسطاط عاصمة، وقد حدد عمر بن الخطاب شروطًا للبناء، أن لا يكون مرتفعًا ولا يزيد المبني على ثلاثة غرف، وهي الشروط التي التزمت بها المدن الإسلامية في عهد النبي والخلفاء من بعده، وكان أول ما خُط في الكوفة مسجدها، حيث أمر سعد بن أب وقاص برام من أشد رماة الجيش وجعله يرمي بسهمه في أربع جهات، فحيثما وقعت الأسهم كانت حدود المسجد.

يذكر الطبري أن ثاني ما بني بالكوفة هو دار الإمارة، وأن دار الإمارة والمسجد كان بينهما وبين الناس فسحة واسعة، فذكر «وبنوا لسعد دارًا بحياله بينهما طريق منقب مائتي ذراع وجعل فيها بيوت الأموال» وذكر أيضًا «ثم إن بيت المال نقب عليه نقبًا وأخذ من المال وكتب سعد بذلك إلى عمر ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن مما يلي ودعة الدار فكتب إليه عمر أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار واجعل الدار قبلته فإن للمسجد أهلًا بالنهار وبالليل وفيهم حصن لما لهم».

وقد ذكر الطبري عن قصر سعد بن أبي وقاص أنه بلغ عمر بن الخطاب أن سعدًا اتخذ بيتًا وأقفل عليه بابه وقال سكت عني الصويت، بقصد منع الناس عن الوصول إلى الحاكم، وإن الناس يسمون هذا البيت قصر سعد، فأرسل عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة إلى الكوفة وقال له «اعمد إلى القصر حتي تحرق بابه» فوصل ابن مسلمة إلى سعد وأعطاه رسالة الخليفة وجاء فيها «بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا ويسمى قصر سعد وجعلت بينك وبين الناس بابًا فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال انزل منه منزلًا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ولا تجعل على القصر بابًا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت» فحلف له سعد ما قال الذي أشيع عنه.

بغداد وقصر الخليفة وأبناؤه وحاشيته

تعتبر مدينة بغداد أحد أبرز النماذج التي استغل فيها الحاكم سطوته في البناء وشكَل العمران ليحميه من تقلبات شعبه، فقد أقيمت مدينة بغداد في عهد الخليفة المنصور لأغراض سياسية عام 145ه، وكان الخليفة يريد إقامة حصن له يحميه من الحركات الاجتماعية الناقمة التي بدأت تتشكل في دولته، وقد اختار المنصور موقع مدينة بغداد بنفسه وأشرف على بنائها.

فقد خطط لمدينة بغداد ثلاثة أسوار دائرية، الأول لحماية حدود المدينة والدفاع عنها، والثاني لحماية سكان المدينة من الهجمات الخارجية، والثالث لحماية الخليفة وأبنائه من أعدائه خارج المدينة وتقلبات شعبه داخل المدينة، فكان بين السور الأول والسور الثاني مساحة دفاعية عرضها مائة ذراع خالية من أي مبان، وكان السور الثاني والمسمى بالسور الأعظم يبلغ عرض قاعدته تسعون ذراعًا وعرضه من أعلى خمسة وعشرين ذراعًا وارتفاعه ستون ذراعًا، ثم تقع المنطقة السكنية لقبائل وعشائر المدينة، ثم سور دائري يفصل بين المحكومين وقصر الخليفة وأبناءه.

وقد أقام المنصور المسجد بجوار قصره واختص حاشيته بجواره، فأقام دارًا للحرس وسقيفة لصاحب الشرطة، وكذلك سقيفة لقائد الحرس، ثم وضع المنصور قصور أبنائه وسكن خدمهم والدواوين.

القاهرة: العاصمة الفاطمية

انتقلت جيوش الدولة الفاطمية من مدينة المهدية بتونس إلى مصر، حيث حلم سيادة المذهب الشيعي، وسيطرة الفاطميين على مقاليد حكم الدولة الإسلامية، وبذلك حلم المعز لدين الله الفاطمي أن تكون المدينة الجديدة عاصمة للدولة الفاطمية، وبذلك أمر جوهر الصقلي بالبدء في بناء القاهرة.

يذكر المقريزي أن القاهرة أقيمت لتكون سكني المعز لدين الله وحاشيته وجنده، ومعقل قتال يتحصن بها ويلتجئ إليها، ويذكر المقريزي، أنه لما أناخ جوهر في موضع القاهرة ليلًا فاختط قصر المعز لدين الله الفاطمي، وفي الصباح ذهب المصريون ليهنئوه فوجدوه قد أقام أساس القصر، ويقول ابن دقماق أن جوهر الصقلي ترك مسافة في بنائه لقصر المعز خصص مسافة مناسبة لتفصل بين القاهرة والفسطاط، حيث يكون الخليفة الفاطمي وحاشيته وجنده في معزل عن الشعب المصري. وبذلك انقسمت القاهرة إلى قسمين، القسم الذي يسكنه الشعب ومعهم تجارتهم وأسواقهم في الفسطاط والقطائع والعسكر، والقسم الذي يسكنه الخليفة وأعوانه في القاهرة المحصنة.

إذن لقد تطورت المدينة الإسلامية بتطور الزمان، وشابها ما شاب حكامها، وكانت العوامل السياسية والاجتماعية محركًا لعمرانها، انعكس ذلك على علاقة بيت الحاكم وبيوت المحكومين، حيث كانت هذه العلاقة قوية في صدر الإسلام، أثناء حكم النبي وخلفائه الراشدين من بعده، فكان المسجد مركزًا للمدينة وكان لا يفرق بين بيت الحاكم وبيوت المحكومين شيء سواء في مواد البناء أو الارتفاع أو عزلته عنهم، ومع تطور الزمان وانتهاء عصر الخلفاء الراشدين، وتشعب الدين الإسلامي إلى مذاهب وتفرق اتباعه إلى شيعًا، انعكس ذلك على عمران المدينة وعلاقة بيت الحاكم ببيوت المحكومين، وتحولت المدينة من مدينة إسلامية مستمدة تعاليمها وزهدها العمراني من شريعة إلى مدينة مشكلَة وفق الأمان الشخصي للحاكم وأبنائه، فتراجع دور المسجد من حيث تمركزه في منتصف المدينة وأول بناء يقام بها، وأصبح قصر الخليفة هو العلامة المميزة للمدينة وأول ما يخط بالمدينة الجديدة، وأعلى البيوت ارتفاعًا وحوله الأسوار لتعزل الحاكم عن شعبه.

المراجع
  1. حصة بنت عبيد صويان الشمري، مرافق المدينة المنورة في عهد النبي
  2. صالح أحمد العلي، الكوفة وأهلها في صدر الإسلام
  3. أيمن إسماعيل وآخرون، أثر التدخل السياسي في نشأة المدن القديمة والحديثة
  4. تقى الدين أبى العباس أحمد بن على المقريزى، كتاب تاريخ الدولة الفاطمية، اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، الجزء الأول.
  5. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، الجزء الثالث.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.