أمام تحدّي النموذج الغربي، وتردّي واقع البلاد العربية والإسلامية مع فترة بداية الاستعمار الحديث، برزت إلى المشهد الفكري عدة تقليعات أو تيارات فكرية، متعددة ومتنوعة في استجابتها وفي رؤيتها للخروج من مأزق التحديين الداخلي (الفقر والتخلف) والخارجي (الاستعمار ونموذج صدمة الحضارة الغربية)، ويمكن إلى حد ما الحديث عن ثلاثة نماذج رئيسية في هذا السياق:

النموذج الأول، إحيائي ما قبل حداثي جاء رد فعل على تحدٍّ داخلي متعلق في السياق الإسلامي «بانحراف» المسلمين عن التدين أو الدين الصحيح، وتعتبر الوهابية في الحجاز والمهدية في السودان نموذجًا له، وميزة هذا النموذج الأساسية عدم اتصاله بأي أفكار من خارج المنظومة الإسلامية.

أما النموذج الثاني، فهو إحيائي تجديدي على صلة بالحداثة الغربية من جانب التحدي الذي طرحته أمام المجتمعات الإسلامية، ويعتبر الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا، وتيارات الإسلام السياسي المتناسلة من أفكارهم نموذجًا عليه.

بينما النموذج الثالث، هو نموذج حداثي قُح يتبنى مقولات الحداثة الغربية بشكل كامل ويعتبر طه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وفرح أنطون من أهم روّاده.

اليسار الإسلامي يتموضع في هذه الخريطة الفكرية على نحو مشابه ومغاير في الآن نفسه للنموذج الثاني، فهو يتقاطع معه في العودة إلى الإسلام «نصّا وممارسة» ومحاولة اشتقاق مفاهيم التقدم والثورة منه، لكن بمنهج انتقائي منحاز للعقل والحرية والإرادة الإنسانية والمصالح في تراث الإسلام وتياراته العقائدية والسياسية، ومنحاز في مستوى آخر للمستضعفين والمقهورين في المجتمعات الموصوفة بالإسلامية.

بنفس المسافة النقدية هذه، يقدم اليسار الإسلامي نفسه إزاء الحداثة الغربية ومقولاتها فهو يتبنى من قيمها: قيم العقل والحرية والديمقراطية لكنه يرفض الأساس الحضاري لها – وهنا الأساس الديني المسيحي – جاعلًا من الإسلام أساسًا حضاريًا للحداثة والنهضة الإسلامية المرجوّة، وبنفس التمشي أيضًا يرفض الأساس الاقتصادي لنموذج الحداثة الغربية وهو الرأسمالية متبنيًا إزاءها الاشتراكية. لكن الجوهري والحاسم في هذا التصور هو محاولة جعل الدين – وهنا دين الإسلام – أساسًا للثورة. أو تأويله على أنه ثورة، وبالتالي جعله أساسًا للحرية والتحرر فيما يشبه محاولة لتأسيس لاهوت تحرري متجذّر في الإسلام. فما هي مقوّمات هذا التصور؟ وما مدى فاعليته ومنطقيته؟


تأويل الدين بوصفه ثورة: أولى خطوات تأسيس لاهوت تحرّري

ارتبط لاهوت التحرر بالمسيحية البروتستانتية وبالمصلح الديني مارتن لوثر (1483م – 1546م) بالأساس[1] من خلال ثورته على الكنيسة الرسمية واحتكارها للمقدّس واستخدامه لصالح فئات اجتماعية معينة ومصادرة الحريات الفردية. داعيًا بذلك إلى تحرير تأويل الكتاب المقدّس وفتحه للجميع وتكريس مبدأ الحرية الدينية، وهو ما أحدث احتجاجًا وثورة على الأشكال البالية للتدين القديم وأعطى للدين حيوية وفاعلية جديدة لدى المؤمنين به في تغيير أوضاعهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية.

وفي القرن التاسع عشر وبالتحديد مع حركة الحقوق المدنية الزنجية في أميركا نجد مع مارتن لوثر كينج بعثًا جديدًا لاستخدام الإيمان والدين في مطالب التحرر، وفي التفكير والثورة على أوضاع القهر والظلم التي يتعرض لها الزنوج الأميركيون، في ظل تواطؤ الكنيسة الأميركية الرسمية «البيضاء» مع هذا الواقع، وسكوت وتصامم رجال الدين البيض عنه بل ومحاولتهم تثبيط الزنوج عن حقوقهم من خلال استخدام خطاب ديني تبريري يطالبهم بالرضوخ والصبر وعدم القفز على سنن التدرج والزمن. الأمر الذي جعل مارتن لوثر كينج يتوصل إلى أن زمن المعاناة الطويل ووطأته على الزنوج لن يتفهمه غيرهم[2]، وبالتالي فهم مطالبون أكثر من أي وقت مضى برفض استمرار هذه المعاناة والتخلص منها مرة واحدة.

لاهوت التحرر بهذا المعنى هو ثورة من داخل الدين. يؤوّل فيه الدين على أنه ثورة على الطغيان والاستبداد. وبالتالي توظيفه على نحو منحاز إلى المقهورين والمظلومين من جهة، وإلى قيم الحرية والمساواة من جهة أخرى.

في السياق الإسلامي جرى ما هو مشابه لذلك – فكريًا على الأقل – مع تيار اليسار الإسلامي الذي صاغ أهم أفكاره الأساسية حسن حنفي استنادًا إلى ما سماها الروح الثورية والتغييرية للإسلام. ومن أجل تجسيد هذا المشروع واقعًا قام حسن حنفي في كتابه «الدين والثورة» برسم مسار إصلاحي يستهدف على حدّ قوله الوعي الإسلامي وتحويله من «حالة الوعي الفردي إلى حالة الوعي الاجتماعي ومن ثورة العقل إلى ثورة الواقع» وذلك من أجل بلورة مشروع خلاص جماعي غير أناني.

كان دافع حسن حنفي إلى ذلك حسب قوله هو واقع انقسام المجتمعات المسلمة إلى أقليات طبقية غنية وغالبية طبقية مسحوقة وفقيرة بالإضافة إلى هيمنة النظم الاستبدادية على هذه المجتمعات ووقوعها في براثن التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب في شكل من أشكال الاستعمار الجديد. ولتغيير هذا الوضع حسب حسن حنفي، لا بد من الانطلاق من الإسلام كأساس حضاري أولا في مقابل «ما يسميه النموذج الغربي للحداثة بأساسها الحضاري المسيحي»، وثانيًا، لا بد من تأويل الإسلام على أنه ثورة وحركة تغيير من جديد «في مقابل نموذج الوعي الديني الارتكاسي اللاعقلاني التبريري والجامد» السائد.

وفي سياق فهم الإسلام وتأويله على أنه ثورة وحركة تغيير دائمة لصالح الفقراء والمقهورين اعتبر حسن حنفي أن الإسلام الأوّل الذي جاء به الرسول محمد كان في جوهره وواقعه ثورة «الفقراء والعبيد المضطهدين ضد الأغنياء وسادة قريش وطغاتها من أجل إقامة مجتمع حرية وإخاء ومساواة»[3]. وحركة النبوة بشكل عام، حسب حسن حنفي، هي حركة إصلاحية تهدف إلى إحداث انقلاب وتغيير جذري في حياة الناس ومعتقداتهم وسلوكهم.

ولذلك يرى اليسار الإسلامي بأنه يجب دائمًا أن يتم البحث عن العناصر الثورية في الدين لتثوير الواقع والانقلاب عليه كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وحسب رؤية اليسار الإسلامي فإن الحاجة تدعو إلى ذلك كلما استبد القهر وانتشر التخلف والفقر.

لا يقف اليسار الإسلامي عند مستوى استلهام الثورة والتحرر من النص، بل يمتد ذلك إلى البحث في تاريخ الإسلام عن الحركات الثورية، لإعادة اكتشافها وإبرازها واتخاذها نموذجًا. وفي هذا الإطار تمّت الإشادة بثورة القرامطة وثورة الزنج وحركة عبد الله بن الزبير وانقلابه على الحكم الأموي وإلى حد ما تمّت أيضًا الإشادة بتمرد الخوارج على معاوية وعلي في صراعهما على السلطة.

وحديثًا اعتبر اليسار الإسلامي أن الثورة المهدية في السودان والسنوسية في ليبيا وثورة الخميني في إيران تقع في صميم الأيديولوجيا الإحيائية لليسار الإسلامي وتمثل نموذجًا للإسلام الثوري في مقابل الإسلام القابع والمستكين والخانع لحتمية القضاء والقدر شأن جانب كبير من تيارات الإسلام السني، وعلى رأسها التيارات الصوفية وتيارات الفقه السلطاني ممثلًا في الأشاعرة قديمًا والسلفية الوهابية حديثًا حسب حسن حنفي.

وهذا الأمر يقودنا إلى التعرض إلى المنهجية التي يتعامل بها اليسار الإسلامي مع تراث الإسلام وتياراته، فليس كل تاريخ الإسلام هو تاريخ ثوري قائم على الإيمان بالعقل والحرية والإرادة الإنسانية المتحررة. وهي المبادئ التي يقوم عليها اليسار الإسلامي في النسخة التي يروجها حسن حنفي.


مقومات لاهوت التحرر الإسلامي

في المجتمعات التي ما تزال تستمد قيمها وأنماط سلوكها من تراثها الديني، يكون الدين محوريًا في التغيير. ولذلك تبحث التيارات الإصلاحية الدينية عن مشروعيتها في الخطاب الديني أولًا، وذلك بإقامة شكل من أشكال العلاقة الوطيدة مع رموز وتيارات ومرجعية هذا الدين.

وذلك ما فعله اليسار الإسلامي بمنهج لا يخلو من انتقائية واضحة ولكنها مبرّرة نظرًا لانفتاح النص والممارسة الدينية في تاريخها على أوجه مختلفة للتأويل. فالنص القرآني كما قال عنه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب: «حمّال أوجه»، وأقوال وأفعال رموز الإسلام «يُؤخذ منها ويُرد إلا كلام صاحب هذا القبر (في إشارة للرسول)» حسب ما ورد في كلام منسوب لمالك بن أنس إمام المدينة وصاحب أول مذهب فقهي في تاريخ الإسلام.

بناء على هذه التعددية في الأفكار وانفتاح النص على تأويلات مختلفة وانقسام المسلمين في تاريخهم على أهم رموزهم فيما يعرف في الأدبيات الإسلامية والفكرية الحديثة بالفتنة أو المحنة الكبرى، فقد وجد اليسار الإسلامي نفسه مرغمًا على منهج الانتقاء لبناء تصوره الثوري للإسلام كدين تحرر وثورة وعقل. وفي هذا الإطار اعتبر حسن حنفي أن اليسار الإسلامي اتجاه اعتزالي جذري يتبنى أصول المعتزلة الخمسة وعلى رأسها القول بإرادة الإنسان الحرة في الاختيار، كما أنه اتجاه رشدي في مجال الفلسفة وعلوم الطبيعة لأن ابن رشد حسب حسن حنفي لم يساوم على العقل في مقابل الإشراق واللامعقول، وهو أيضًا اتجاه مالكي في مجال الفقه والأصول يستند إلى المصالح المرسلة التي يمكن أخذها منطلقًا للدفاع عن مصالح المسلمين أمام جمود واستاتيكية بعض القوالب الفقهية الأخرى غير القابلة للتجديد والمحصورة في نموذج لا يراعي تغير الواقع والزمن.

هذا بشأن التموضع في تراث الإسلام التاريخي القديم، أما بالنسبة لتراث التيارات والنخب الإصلاحية الحديثة فيعتبر اليسار الإسلامي نفسه امتدادًا للدعوة الإصلاحية التجديدية لكل من الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنّا القائمة على الاجتهاد والمواءمة بين الدين والعقل والحرية. فتحقيق التقدم والخروج من أَسْرِ التخلف والقهر لا يمكن أن يقوم إلا على أساس متين من الإيمان بالعقل وحرية الإرادة الإنسانية والإيمان بالتغيير كمنهج حياة.

لكن معضلة هذا التصور هي مبالغته في انتقائيته والخلط بين المتناقضات وتعدد المرجعيات فيه مما جعله أقرب إلى «كيان ممسوخ» فمعظم الثورات التي احتفى بها قادت إلى نماذج حكم شمولي كما حدث في إيران ومعظم التيارات التي اعتبرها ثورية وعقد بينها وبينه رَحِمًا لم تكن تعتبر الحرية جزءًا من مشروعها، كما أن مشروع اليسار الإسلامي نفسه تمّت هندسته بطريقة لا تسمح له بالتحقق، فهو من ناحية ليس حزبًا سياسيًا، ولا حركة أيديولوجية لطبقة أو فئة، وإنما يُعلّق مشروعه على كيان هولامي وغير محدد هو الأمة ووعي الفرد المسلم، وهو ما يعني افتقاره لوسائل التحقق والتجسّد إلا إذا تبنّته حركة جماهيرية معيّنة وهو ما لم يتم حتى الآن.

مهما يكن من أمر فإن مشروع اليسار الإسلامي يمكن إدراجه ضمن المشاريع الإصلاحية التي ميّزت عصر النهضة العربية الحديثة، وإن كان هذا المشروع جاء متأخرًا كرد فعل على هزيمة 1967م وتمدد الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية وتراجع حركة الإصلاح الفكري والوطني مع هيمنة النظم الاستبدادية أو أنظمة القهر – كما يروق لحسن حنفي تسميتها – على جميع البلدان العربية والإسلامية، ومع انتشار واسع للفقر والأمية وتزايد نسبتهما في هذه المجتمعات.

لقد كان اليسار الإسلامي صيحة في واد من الأزمات والنكسات التي لحقت بالمجتمعات العربية، حاول بناء مشروعٍ نهضوي تحرري اعتبرَ الدين عنصرًا محوريًا فيه وقاعدة له. مشروعٌ بنى مقولاته استنادًا إلى تأويل ثوري للنص الديني وإلى انتقاء للعقلاني والتقدمي في تراث تيارات الإسلام العقائدية والفقهية والفلسفية وأخيرًا استنادًا إلى مقولات مرتبطة بأيديولوجيات التحرر الحديثة وعلى رأسها مقولات العدالة الاجتماعية والمساواة.

المراجع
  1. سكوت إتش هندريكس، مارتن لوثر، ترجمة كوثر محمود، القاهرة: مؤسسة هنداوي للنشر، 2014، ص15.
  2. Martin Luther king, A testament of hope, Edited by James Melvin Washington, Harpers San Francisco, 1986
  3. حسن حنفي، الدين والثورة في مصر 1956 – 1981م: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، الجزء الثامن، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1982، ص59.