في المقال الأول حاولنا تعريف الاغتراب فلسفيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، واستعرضنا الأسباب التي تقف خلف الحالة التي يشعر فيها المواطن العربي بالاغتراب وفقدان الهوية، في أوطان تتوفر فيها كل المسببات التي تجعل منها حاضنة ملائمة للاغتراب.

في هذا المقال نؤكد أهمية أن يمتلك العرب أدوات تغيير واقعهم البغيض، الذي لا يمكنهم من حياة كريمة، تؤدي بأصحاب الأدمغة والكفاءات إلى الهروب من هذا الجحيم.


بلدان كسيحة

الواقع العربي الراهن أنتجته الأنماط السياسية القائمة -في معظمها- على القهر وقمع الحريات العامة، هذا الواقع أوجد دولًا كسيحة تعاني من أزمات بنيوية منهاجية لا تعد ولا تحصى، من استمرار ارتفاع مستويات الفقر والبطالة والأمية وتفشي الجهل، إلى غياب الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين الذين يعانون من التهميش، في دول تسيطر عليها أنظمة بوليسية استبدادية لا تقيم للإنسان وحقوقه أي اعتبار.

هذه الظروف تحفر بعمق وتخلف ندوبًا في حياة المواطن العربي المعاصر الذي يقف عاجزًا مسلوب الإرادة في مواجهة واقعه ومصيره، ليعاني بالتالي من حالة اغتراب سياسي واجتماعي وروحي وفكري، تدفعه للتساؤل عن مدى أهمية وجوده ودوره وفاعليته، ليدخل في دائرة مغلقة من القنوط والانكسار لا فرصة له في الخروج منها.

قيام معظم الأنظمة العربية بتهميش المواطنين جعل الشعوب تضيق ذرعًا وتتوقف أمام مكانتها وقيمتها ودورها في المجتمع، وتدفع الناس للتساؤل عن هويتهم، من نحن؟ ومن الآخر؟ وفي أي دول نعيش؟ وإلى أين تقودنا هذه الأنظمة المتهالكة؟

وبالرغم من عمق أزمته الإنسانية الكبيرة فإن المواطن العربي لم يفقد ثقته بالمستقبل تمامًا، وهو يرفض قطعيًا بقاء الأنظمة الفاسدة والمفسدة، ويرفض استمرارها في تدبير شئونه، ونلمس إصرارًا من قبل الشعوب العربية على محاولة استعادة دورهم ومكانتهم في مجتمعاتهم، وعلى إعادة تعريف هويتهم بما تعنيه من إحساس وجداني عميق، يحدد وجودهم وانتماءهم ويمنحهم الأمل، ويساعدهم على تحديد أهدافهم وتحقيقها.


امتلاك أدوات التغيير

طيلة الفترة الماضية، وعلى الدوام كانت معظم الشعوب العربية تعيش حالة من التيه والضياع والتشرذم بين السلطة الدينية التي يفرضها عليهم رجال الدين، وبين سلطة الموروث الثقافي والاجتماعي والعادات والتقاليد، وبين السلطة السياسية بكل أدواتها ورموزها، وبين الأحزاب السياسية التقليدية أو المعارضة، وبين أحلامهم الشخصية وتطلعاتهم الفردية.

لا أحلامهم تحقق شيء منها، ولا الأنظمة أصبحت ديمقراطية، ولا الموروث الاجتماعي اندثر رغم مظاهر الحياة الحديثة، والسلطة الدينية جزء منها أصبح متطرفًا ضد السلطة السياسية وضد البشر أنفسهم، والأحزاب السياسية في حالة موت سريري، وبعضها مصاب بشلل دماغي، ولم يبقَ حيًّا فيها سوى اسمها وبعض الأدبيات الحزبية.

لكن حركة التاريخ لا تتوقف، والمجتمعات البشرية لا تكف عن التفاعل بين مكوناتها، التطور يحصل حين تتوفر ظروف التغيير، حين تلتقي الإمكانية والأداة مع الإرادة والشرط الموضوعي.

لا يمكن للشعوب العربية أن تحلم وتسعى لتحقيق تطلعاتها في حياة بسيطة كريمة، لا يحتاج فيها أستاذ الجامعة إلى ذل الاستدانة، دون الارتقاء بمستوى الوعي الاجتماعي لهذه الشعوب، حتى تتمكن من امتلاك الأدوات التي تمكنها من تحقيق التعيير الذي تريديه، وتحتاج إلى حرية الإرادة وحرية الفعل، وهما شيئان غير متوفرين حاليًا في العالم العربي بظل الاستبداد السياسي القائم، وسياسات تكميم الأفواه، والقمع الذي تفرضه بعض الأنظمة العربية على شعوبها، قهر وصل إلى حلوق البشر.


تصدعات آيلة

في التراجيديا العربية يبدو المشهد مربكًا وشائكًا، حيث تتفكك فيها الذات الشخصية للمواطن العربي وتغترب عن نفسها وعن محيطها، بسبب الحالة العربية في معظم الدول، حيث التراجع الكبير في البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والخدمية، وانعدام المستويات الإنسانية لمعيشة لائقة للبشر.

يغترب الإنسان العربي لاستبداد السلطة السياسية، وتغول الأجهزة الأمنية وتطاولها على المواطنين، وضعف المؤسسات التشريعية والحقوقية، وانتشار النعرات الطائفية والمذهبية والصراعات الأهلية الداخلية، وتحلل النسيج الاجتماعي.

إن كانت الهجرة الطوعية للكفاءات العلمية والمهنية العربية تتسبب بخسائر اقتصادية ومالية، وتؤثر سلبًا على العملية الإنتاجية برمتها، وعلى الدخل القومي، وتعيق تحقيق الخطط التنموية، فإن الهجرة القسرية للمبدعين والمثقفين والمفكرين تفضي إلى إحداث فراغ نتيجة ضعف قابلية تشكل بدائل عنهم في الأوطان التي غادروها بسبب القمع والقهر، وهو ما سوف يؤدي إلى مزيد من التفرد والهيمنة والاستبداد الذي تمارسه السلطات السياسية في معظم الأنظمة العربية على شعوبها، ومحاولة حجبها عن أية محاولات ريادية إصلاحية تسعى للتغيير، مما يجعل هذه الشعوب فريسة للأفكار المتطرفة وللتشدد الديني والسياسي والمذهبي والعرقي.

الصدع الكبير الذي يصيب أوطاننا العربية هو الاغتراب داخلها وفيها ويؤدي إلى تفسخ الرابطة بين الفرد والمجتمع، والصدع الأكبر هو نزيف الأدمغة العربية المستمر نحو الغرب. وهنا لا نعني بهجرة العقول والمثقفين من الوطن العربي فقط حملة الشهادات الجامعية العليا من الدكتوراه والماجستير، بل نعني جميع الكفاءات والخبرات في مختلف الميادين الإنسانية والعلمية في الطب والهندسة والاقتصاد والإعلام والفنون.

إذ يشير التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية والعربية الصادر عن جامعة الدول العربية لعام 2014 إلى أن ما يقارب نصف الأطباء و23% من المهندسين، و15% من العلماء العرب هاجروا إلى دول أوروبية وإلى الولايات المتحدة وكندا.

هذا النزوح المستمر للعلماء والخبرات من المنطقة العربية سوف يوسع الهوة الحضارية والعلمية بين العرب والدول الغربية أكثر فأكثر. ويؤدي إلى تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية، واستمرار استيراد الخبرات الأجنبية إلى بلداننا لسد النقص الحاصل، والتكلفة الاقتصادية المالية المرتفعة التي نسددها لهم.

كما أن هجرة العقول العربية سوف تتسبب كذلك في انخفاض مستويات التعليم الجامعي نتيجة النقص في المؤهلات الأكاديمية والبحثية. وتؤثر في قدرة العرب على الربط بين المستويات التعليمية والحالة الثقافية من جهة وبين متطلبات خطط التنمية من جهة أخرى.

إن الأمم التي تحترم وترعى علماءها ومفكريها وخبراتها الوطنية تكون قوية بهم، ولأننا لا نقدر ولا نكرم المثقفين والعلماء فإننا لسنا أقوياء علميًّا ولا اقتصاديًّا ولا حضاريًّا. وما دامت الأسباب التي تقف خلف هجرة الناس وخاصة العقول والكفاءات العلمية من بلداننا، وفي مقدمتها الفساد السياسي، وعدم تقدير الكفاءات العلمية، ومحدودية العائد المالي لأصحاب التخصصات، وهزالة الإنفاق على البحث العلمي، وسياسة وضع العلماء في وظائف لا تتلاءم مع تخصصاتهم، فإن هذا النزيف سوف يتواصل.

وما لم يتم وضع استراتيجية عربية واضحة ومحددة لمعالجة هذا الاستنزاف لأهم ثروات الأمة، فإن الأدمغة العربية العلمية سوف تجد نفسها مكرهة على الهجرة بحثًا عن بيئة أرقى وأكثر حرية واستقرارًا، وأجدى ماليًّا وأكاديميًّا، دون أن تتكلف عناء النظر للخلف حيث تقبع الخطط التنموية المتعثرة، ويقف التاريخ هرمًا عند أمجاد لا يمكن استعادتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.